الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في تجريح البينة وما يوجب سقوطها]

                                                                                                                                                                                        وإن كان الحكم انعقد ببينة شهدت عنده، فأراد المحكوم عليه تجريحها، أو ما يوجب سقوطها كان ذلك له، وذلك على ستة أوجه: إما أن يجرحها، أو يثبت أن بينها وبين المشهود له قرابة أو زوجية أو مصاهرة، أو بينها وبين المشهود عليه مصارمة أو عداوة، أو أن أحد البينة عبد أو نصراني أو مولى عليه، فإن أثبت تقدم جرحتهما كان فيها قولان: فقال مالك -في كتاب الشهادات: أن ينقض الحكم. وقال -في كتاب الحدود-: يمضي، وبه أخذ سحنون.

                                                                                                                                                                                        وعلى هذا يجري الجواب إذا أثبت أن بينه وبينها عداوة، أو بينها وبين المشهود له قرابة مما ترد الشهادة فيه من أجل التهمة، فإن أثبت أنهما أو أحدهما عبد نقض الحكم، وهذا قول مالك وأصحابه، ولو قيل أنه يمضي لكان له وجه، بل هو أولى من إمضائه إذا أثبت الجرحة; لأن شهادة الفاسق غير جائزة باتفاق، وشهادة العبد مختلف فيها.

                                                                                                                                                                                        وحكي عن علي بن أبي طالب -رضي الله عنه- إجازتها، وأجازها أنس وشريح [ ص: 5353 ] وزرارة بن أبي أوفى وابن سيرين، وأجازها الحسن وإبراهيم في الشيء اليسير. وحكى القاضي أبو الحسن علي بن القصار، عن أحمد وإسحاق وأبي ثور وداود: أنها تقبل في جميع الأشياء كالحر.

                                                                                                                                                                                        وإمضاء الحكم بشهادة العبد العدل، للاختلاف في جوازها ابتداء أولى من إمضائها بالمسخوط، مع ورود القرآن والإجماع بمنع قبولها ابتداء. وقد قال مالك في مسائل من النكاح والبيوع ينزل الأمر فيها على خلف رأيه، وموافقا لقول غيره أنه يمضي ولا يرد.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا ثبت أنهما أو أحدهما مولى عليه، هل ينقض الحكم؟ ففي كتاب ابن سحنون أنه ينقض، والنقض في هذا أبعد منه في العبد، وقد قال مالك وغيره من أصحابه: أن شهادة المولى عليه تجوز ابتداء وهو أحسن; لأنه حر مسلم عدل، فوجب أن تمضي شهادته ولا ترد؛ لجهله بتدبير ماله، وإن أثبت أنه نصراني رد الحكم، وقال عبد الملك -في المجموعة في رجل قذف رجلا، فحد القاذف بعد الإعذار، ثم أتى بأربعة عدول يشهدون على المقذوف، أنهم رأوه يزني قبل القذف-: قال يحد الزاني ويسقط الحكم عن [ ص: 5354 ] القاذف. يعني تسقط جرحته، قال: ولو كان حقا غير الزنا وقام به المقضي عليه، لم يقبل منه بعد الحكم; لأن الزنا حق لله -تعالى- لا بد أن يقام به على المشهود عليه، فإذا حد سقط عن القاذف حكم القذف، ولو كانت الشهادة أن حاكما جلده مائة جلدة، لم تسمع منه بينته; لأنها لا توجب الآن على المشهود عليه حدا. يريد أنه لا يتعلق بشهادتهما بعد الحكم الأول عليه شيء.

                                                                                                                                                                                        ومثله لو شهدت بينة أن البينة المحكوم بها سرقت فلم تقطع، أو شربت ولم تحد، أو حاربت ولم تنف، أو ما أشبه ذلك مما يتعلق به الآن حق لله -سبحانه- نقض الحكم قولا واحدا. وإن كان قد أقيم عليه الحد لم ينقض على أحد القولين.

                                                                                                                                                                                        واختلف أيضا إذا كانت القضية على غائب، ثم قدم فطلب أن يجرح تلك البينة بالإسفاه، أو شرب خمر أو غيره، فقيل: ذلك له، وقال ابن الماجشون: ليس له ذلك إلا أن يثبت أنهم على غير الإسلام، أو أنهم عبيد أو مولى عليهم. والأول أحسن، والغائب موقوف على حجته، في كل ما لو كان [ ص: 5355 ] حاضرا فأثبته لم يحكم عليه فيه. وقد اختلف عن مالك في الحكم على الحاضر، وإن كان بعد الإعذار إليه فكيف بالغائب؟

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية