الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        فصل [في شهادة الصبيان]

                                                                                                                                                                                        فأما شهادة الصبيان فيما يقع بينهم من الجراح والقتل، فاختلف فيها على ثلاثة أقوال: فقال مالك: تجوز في الجراح والقتل. وقيل: تجوز في الجراح خاصة. وقال محمد بن عبد الحكم: لا تجوز في جراح ولا قتل; لأن الله إنما أجاز شهادة العدل والرضي. والأول أحسن; لأن القتل والجرح موجود، والشأن صدقهم عند أول قولهم، والضرورة تدعو إلى معرفة ذلك منهم.

                                                                                                                                                                                        وقال القاضي أبو محمد عبد الوهاب: تقبل شهادتهم بتسعة شروط.

                                                                                                                                                                                        أحدها: أن يكونا ممن يعقل الشهادة، أحرارا ذكورا محكوما لهم بالإسلام، والمشهود به جرح أو قتل، ويكون ذلك فيما بينهم، لا لكبير على صغير ولا لصغير على كبير، ويكونا اثنين فصاعدا، وتكون الشهادة قبل تفرقهم [ ص: 5436 ] وتخبيبهم، وتكون متفقة غير مختلفة.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في هذه الجملة في سبعة مواضع:

                                                                                                                                                                                        أحدها: هل تجوز شهادتهم فيما بينهم في المعارك، أو شهادة من لم يحضر معهم في ذلك؟ والثاني: شهادة الإناث مع الذكور. والثالث: شهادتهم لكبير أو عليه. والرابع: القسامة إذا لم يمت بالحضرة. وهل يقسم مع شهادة واحد. والخامس: إذا اختلفت الشهادة ولم يخرجوا بالقتيل عن جملتهم. والسادس: هل يراعى ما كان بينهم من عداوة أو قرابة.

                                                                                                                                                                                        فأما الموضع الذي تجوز فيه فقال مالك: تجوز فيما بينهم. وقال -في كتاب ابن سحنون-: تجوز في المعارك. يريد القتال الذي يكون بينهم، وقال ابن مزين: إذا شهد صبيان على صبي، فلا أبالي كان الشهود مع الجارح أو مع المجروح في جماعة، أو كانوا في جماعة ليسوا منهم بسبيل. والأول أشبه، وإنما يجوز فيما تدعو الضرورة إليه، وهو ما يجري بينهم، فإذا لم يكونوا منهم، [ ص: 5437 ] وإنما مروا بهم كانوا كغيرهم ممن مر بهم، فلا تجوز إلا بشرط البلوغ والعدالة.

                                                                                                                                                                                        وأما الإناث يشهدن مع الصبي، أو يشهد بعضهن على بعض، فقال محمد: لا تجوز شهادة الإناث وإن كان ذلك فيما بينهن. وأجازها عبد الملك في المجموعة.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد: أقل ما تجوز شهادة غلامين، أو غلام وجاريتين، ولا تجوز شهادة غلام وجارية، ولا شهادة الإناث وإن كثرن; لأنهن مقام اثنتين، واثنتان مقام واحد. وهو أحسن إذا كان يجتمع جميعهن للعب، الذكران والإناث، وإن لم يجتمعوا وإنما مر صبي وصبيتان على صبيان يلعبون بانفرادهم، أو إناث يلعبن بانفرادهن، لم تجز الشهادة على قول مالك، وجازت على قول ابن مزين. وإن شهد صبيان على ما كان بين الإناث بانفرادهن، جرى على الخلاف فيما يكون بين النساء في المأتم والعرس.

                                                                                                                                                                                        وقد قال غير ابن القاسم في المدونة: إن الإناث يجزن، ولم يبين هل ذلك فيما يكون بينهن بانفرادهن، وفيما يكون منهن مع الذكران؟ وكل ذلك يجري على الخلاف المتقدم.

                                                                                                                                                                                        ولا تجوز شهادة الصبيان لكبير، ولا على كبير، وهذا قوله في المدونة. [ ص: 5438 ]

                                                                                                                                                                                        وأجاز محمد شهادتهم للكبير في القتل، ولم يجزها في الجراح; لأنه يتهم أن يكون خببهم، ولم يجزها على كبير في جرح ولا قتل; لأنهم متهمون أن يدفعوا عن أنفسهم.

                                                                                                                                                                                        وأجازها ابن حبيب للكبير وعليه. والأول أحسن وأصوب. ولا تجوز إلا فيما تدعو إليه الضرورة، في المجامع التي تكون بينهم، ويلزم من أجازها للكبير أو عليه أن يجيز شهادة الصغار، على من لم يكن معهم في المعارك.

                                                                                                                                                                                        قال مالك: وليس في الصبيان قسامة، والقسامة على أربعة أوجه: تسقط في وجهين، إذا قال المقتول: قتلني فلان. وإذا أقر القاتل أنه قتل.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا ثبت الضرب بشهادة صبيين، ثم نزي في ذلك الجرح فمات، أو شهد صبي واحد على القتل المجهز. فعلى قول مالك لا يقسم في ذلك. وقال ابن نافع -في المدونة-: إذا ثبت الضرب بشهادة صبيين، ثم نزي فيه فمات، يقسم أولياؤه لمن ضربه، مات ويستحق الدية. وقال أيضا -في كتاب ابن مزين-: يقسم مع شهادة الصبي الواحد في العمد والخطأ. [ ص: 5439 ]

                                                                                                                                                                                        وقوله إذا ثبت الضرب بشهادة الصبيين، ثم نزي فيه فمات أشبه; لأنهما في ذلك مقام الرجلين في ثبات الضرب، فكانت القسامة في ذلك جائزة، بمنزلة لو شهد على الضرب رجلان.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا خالطهم رجل، هل تسقط الشهادة لإمكان أن يكون خببهم ووقف الشهادة أولى؟ وإن كان عدلا وإن وقال لا أدري من رماه، ثبتت شهادة الصبيان.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا شهد صبيان أن هذا الصبي قتله، وشهد رجلان عدلان أنه لم يقتله ولم يدمه، هل يؤخذ بقول الصبيين; لأنهما أثبتا حكما، أو بقول الرجلين؟ والأخذ بقول الرجلين أحسن، ولا تسقط شهادة العدول، بشهادة من ليس بعدل. وكذلك إذا قال الرجلان بل قتله هذا، أخذ بقولهما وكانت الدية على عاقلة من شهدا عليه، إلا أن يقوم أولياء القتيل بشهادة الصبيين، فتسقط الدية; لأنهم كذبوا الرجلين، وشهادة الصبيين ساقطة بشهادة الرجلين.

                                                                                                                                                                                        وإن شهد رجل عدل أن هذا قتله، لغير من شهد عليه الصبيان، أقسموا معه وكانت الدية على عاقلته، وكذلك إن اتفقت شهادة الرجل العدل والصبيين، فإنه يقسم مع شهادته; لأن شهادة الصبيين سقطت بحضور [ ص: 5440 ] الرجل، وهذا هو الصحيح من المذهب.

                                                                                                                                                                                        وقال عبد الملك: تسقط شهادة الصغار إذا شهد كبار عدول بمعاينتهم، بخلاف ما شهدوا به. وإن اتفقت شهادة الرجل العدل مع الصبيين، فهو تقوية للرجل كشاهدين عدلين، أو يشهدون باختلاف قولهم، أو أنهم تفرقوا قبل أن يشهدوا.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا اختلفت شهادة الصبيان، ولم يخرجوا القتل عنهم، فشهد اثنان أن هذين قتلاه. وقال المشهود عليه: بل أنتما قتلتماه. فقيل: تسقط الشهادتان لأنها اختلفت وقيل: تكون الدية على عاقلة الأربعة؛ لاتفاقهم أن القتل لم يخرج عنهم.

                                                                                                                                                                                        وقد اختلف في هذا الأصل في الرجال، إذا كان ثلاثة نفر فمات أحدهم، فقال الأول للثاني: أنت القاتل. وقال الثاني للأول: أنت القاتل. وذلك كله في موضع واحد. وكذلك إذا كانتا قبيلتين، إحداهما مظلومة والأخرى ظالمة، واختلط القتيلان، أو لم يعرف القتيلان لمن هو منهما، قياسا على من قتل رجلا ثم اختلط بآخر، فقال كل واحد منهما لصاحبه: أنت القاتل. فقيل: لا شيء عليهما وقيل: الدية حكما، وقال [ ص: 5441 ] أشهب: الدم هدر، فقيل: فيمن قتل رجلا ثم اختلط بآخر، فقال كل واحد منهما لصاحبه أنت القاتل. فقيل: لا شيء عليهما. وقيل: الدية على عاقلتهما. والأول أحسن; لأن عاقلة أحدهما بريئة. فإذا جعلت الدية على العاقلتين كانت إحداهما مظلومة قطعا. وقال عبد الملك: إن شهد صبيان أن صبيا قتله، وشهد آخران أن دابة أصابته، قضى بشهادة الصبيين على القتل. ورأى أن من أثبت حكما أولى. والصحيح أنها قد اختلفت فيسقط جميعها.

                                                                                                                                                                                        وإن قيدت شهادتهم ثم اختلفوا أخذ بأول قولهم، وكذلك إذا بلغوا وعدلوا وشكوا أخذ بقولهم الأول، وإن قالوا لم تكن الشهادة كما شهدنا، ولم يكن حكم بها لم يقض بها الآن، ولا يراعى في الصبيان جرح ولا تعديل.

                                                                                                                                                                                        ويختلف في العداوة والقرابة. وقال ابن القاسم: لا تجوز شهادة القريب لقريبه وقال المغيرة: تجوز عليه ولا تجوز له. وقال محمد: ومذهب ابن القاسم، لا ينبغي أن يجيزها في العداوة. وأجازها عبد الملك في العداوة [ ص: 5442 ] وقال: لأن العداوة بينهم ليس لها غمر.

                                                                                                                                                                                        فعلى قوله تجوز في القريب، وأرى أن تجوز في القريب؛ لأنه لا بد أن يكون له قاتل من تلك الجماعة، ولا يتهمون أن يرموا به غير الفاعل ; لأن الآخرين أجنبيون وهم في المنزلة عند البينة سواء، ولا تجوز إن رموا به عدوا لهم; لأنهم يتهمون أن يبرؤوا من ليس بعدو لهم، ويطرحون على عدو.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية