الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب [في اختلاف البينات]

                                                                                                                                                                                        وإن ادعى رجلان دارا أو عبدا، فأقاما البينة اعتبر أربعة أوجه: هل هو في يد أحدهما؟ أو في أيديهما جميعا ؟ أو تحت يد ثالث؟ أو لا يد عليه ؟ والبينة مختلفة العدالة والعدد أو متساوية؟ فإن كان بعضها أعدل قضي بها، من غير مراعاة للمدعى فيه حيث هو، ولا يد من هو عليه؟ وإن تكافأتا في العدالة افترق الجواب.

                                                                                                                                                                                        فإن كان بيد أحدهما كان له بعد يمينه وإن كان بأيديهما حلفا وكان بينهما، وإن كان تحت يد ثالث يدعيه لنفسه، كان فيها قولان: فقيل: ينتزع من يده ويكون بينهما؛ لأن البينتين اتفقتا على انتزاعه من يده. وقيل: يبقى لمن هو تحت يده؛ لأنه يقول البينتان جرح بعضها بعضا، أو أوقف بعضها بعضا، وأي ذلك كان فلا ينتزع شيء من يدي. وإن اعترف به لأحدهما كان على القولين، فمن قال أنه إذا ادعاه لنفسه يقر في يديه، يجعله الآن لمن أقر له به، ومن قال أنه ينتزع منه ويقتسمانه بمنزلة ما لو لم يقر؛ لأن البينتين اتفقتا أنه لا حق له فيه، [ ص: 5514 ] وإن لم تكن عليه يد لأحد وقف خيفة أن يأتي من هو أحق به منهما، وبأثبت مما أتيا به وإلا كان بينهما.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا تنازعا عفوا من الأرض، فقيل: هو بينهما بمنزلة ما لا يد عليه فيقتسمانه. وقال -في المدونة-: تبقى كغيرها من عفو بلاد المسلمين. يريد لأن العبد والدار لابد أن يكون لهما مالك، وعفو الأرض يصح أن يكون لا مالك لها، فيكون خراجها لبيت المال، وعلى قوله في الأرض أنها تبقى، يكون العبد والدار لمن هما في يديه.

                                                                                                                                                                                        واختلف في الترجيح بالأكثر والأعدل إذا تكافئا، على ثلاثة أقوال: فرجح في المدونة بالأعدل ولم يرجح بالأكثر. قال ابن القاسم: وكذلك لو شهد لهذا شاهدان، ولهذا مائة وتكافؤوا في العدالة. ومحمل قوله على الغايات ولو كثروا، حتى يقع العلم بصدقهم لقضي بهم؛ لأن القضاء بالاثنين، لغلبة الظن.

                                                                                                                                                                                        وذكر ابن حبيب عن مالك أنه قال: إذا تساووا في العدالة قضي بالأكثر، فإن كان كلاهما كثيرا ، يكتفي بهم الحاكم فيما يلتمسه من الاستظهار بالاستكثار، لم ينظر إلى الأكثر. قال : وسمعت غير واحد من علمائنا [ ص: 5515 ] يقول : إذا شهد عدلان ومن هو أعدل منهما، أو أكثر عددا سواء.

                                                                                                                                                                                        ويختلف إذا أقام أحدهما شاهدين، والآخر رجلا وامرأتين، أو شاهدا واحدا وقال: أحلف معه، فأوقف ابن القاسم شهادة رجلين، بشهادة رجل وامرأتين، إذا تكافؤوا في العدالة، وبداهم على الرجلين إذا كانوا أعدل، وإن تضمنت تجريح الآخرين؛ لأن كل فريق يقول إن الآخرين كذبة مجرحون، لا تجوز في هذا ولا في غيره. وقيل: في هذا الأصل إنه تجريح، فينبغي أن تقدم شهادة الرجلين.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا شهد لأحدهما شاهدان، وللآخر شاهد. فأجرى ابن القاسم شهادة الواحد مع اليمين مجرى الشاهدين، فإن كان أعدل قضى به مع اليمين القائم به وإن كان مكافئا للآخرين، ولا يد على المدعى فيه، حلفا وكان بينهما، وإن كان بيد من أقام الشاهد حلف وكان له. وقاله أشهب مرة، وقال أيضا: الدار لصاحب الشاهدين. قال محمد: مذهب أشهب أن لا ترد شهادة الرجلين بواحد؛ لأنها جرحة. فعلى قوله أنها جرحة، يقضى بشهادة الرجلين دون الرجل والمرأتين؛ لأن النساء لا يجرحن الرجال. وإن أرختا قضى بالأقدم، وإن كانت الأخرى أعدل ، وسواء كانت الدار تحت يد أحدهما، أو تحت أيديهما، أو تحت يد ثالث، أو لا يد عليها. واختلف إذا أرخت إحداهما، هل تكون لمن أرخت، أو بمنزلة ما لم يؤرخ؟ وقد ذكرت الروايات على ما وردت. [ ص: 5516 ]

                                                                                                                                                                                        وأرى إذا كان العبد في يد أحدهما، أن تسأل البينتان عن تقدم التاريخ، وإن لم يعلموا حقيقته؛ لأنه لا يصح أن يجهلا ، هل ذلك خمس سنين، أو عشرة؟ فإن قالا جميعا هو نحو عشرة سنين تزيد سنة أو تنقص سنة، وإن يد كل واحد عليه إلى الآن كان تكاذبا فيقضى بالأعدل، فإن تكافأتا بقيت اليد واقتسماه إن كان في أيديهما، وإن كان بيد ثالث بقي له، وكذلك إذا قدرا ذلك، وقالت إحداهما لم تزل يده عليه . وقالت الأخرى خفي عنا تمادي يده، وقال القائم بها لم تزل يدي عليه ، فهو تكاذب من إقرار القائم بها، وإن قالتا كان ذلك من ذلك الوقت جميعه يملكه أحدهما ، ثم أبق منه أو غصب صح، أن لا يراعى الأعدل كما ذكر ابن حبيب، لإمكان صدق جميعهما، وأن يكون قد ملكه أحدهما ، ثم أبق منه ثم ملكه الآخر فأبق منه، فلا يرجح باليد لأنه إن قال لم يزل يدي عليه إلى الآن، كان قد كذب بينته؛ لأنها قالت أبق منه وزالت يده عنه، ولا نعلم متى رجع، وإن كان بأيديهما الآن بعد [ ص: 5517 ] إباقه ، لم يكن أحدهما أحق به، وإن كان بيد ثالث انتزع منه لأن البينتين لم يتحقق كذبهما، وإن قالت إحداهما ملكه منذ خمس عشرة سنة وقالت الأخرى منذ عشر، وكلاهما يقول لم تزل يده عليه، أو قالت لا أدري هل تمادت أيديهما؟ وكل واحد يقول لم تزل يدي عليه فهو تكاذب ؛ لأنهما اتفقا على تكاذب البينتين فلم يكن لقدم التاريخ فائدة وكذلك إذا قالت إحداهما لم تزل يده عليه ، وقالت الأخرى لا أدري، وقال من أقامها لم تزل يدي عليه فهو تكاذب أيضا، وإن قالت إحداهما كان يملكه منذ نحو خمس عشرة سنة ، ولا أدري هل تمادت يده عليه ؟ وقال القائم بها أبق مني أو غصب بعد ذلك، من إحدى عشرة سنة. وقالت الأخرى كان يملكه منذ عشر سنين، كان للأول وليس بتكاذب.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية