الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                        صفحة جزء
                                                                                                                                                                                        باب فيمن نذر المشي إلى مكة هل يأتي به متفرقا، وإذا ركب بعض الطريق عن عجز أو اختيار، أو كان الناذر شيخا كبيرا أو مريضا أو امرأة

                                                                                                                                                                                        ومن نذر أن يمشي إلى مكة; جاز له أن يأتي به متفرقا إذا كان يحج من عامه.

                                                                                                                                                                                        قال مالك في كتاب محمد : إذا مشى من الإسكندرية، فلما بلغ مصر أقام شهرا، ثم مشى فلما بلغ المدينة أقام شهرا، ثم خرج بها عمرته ماشيا حتى قدم مكة فطاف وسعى; فقد فرغ منه .

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ - رضي الله عنه -: وكذلك لو مشى في حج، وكان نذر مشي عام بعينه ، فمشى شهرا ثم أقام ثم مشى ثم حج من عامه، أو كان النذر مضمونا ليس في عام بعينه فمشى شهرا، ثم أقام حولا، ثم مشى شهرا، ثم أقام حولا، ثم مشى شهرا حتى بلغ مكة فحج ; أجزأه على قول مالك وابن القاسم في [ ص: 1648 ] المدونة، فيمن نذر صوم سنة أن له أن يأتي بها غير متتابع . وعند ابن حبيب أنه يأتي بالمشي متتابعا ، قال: وهو بمنزلة من عليه صوم شهرين متتابعين. ومر في ذلك على أصله فيمن نذر صوم سنة: أنه يأتي بها متتابعا.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في المدونة، فيمن عجز، ثم عاد فمشى ما ركب: إنه يهدي; لأنه فرق مشيه . وهذا نحو قول ابن حبيب ; لأن المشي قد وفي به ، فلا يؤمر بالهدي إلا على القول أن عليه أن يأتي به متتابعا، إلا أن يعلم أنه إن عاد لم يوف بما عجز عنه، فيكون عليه الهدي لأنه لم يوف.

                                                                                                                                                                                        والقول الأول أبين; لأن النذر إنما يتضمن مشيا بعقبه حج أو عمرة، فهو إذا أتى به في أعوام موف بنذره، إلا أن ينوي تكلف ذلك في عام، وإن ركب بعض الطريق عن عجز أو مرض، فإنه لا يخلو أن يكون يسيرا; الأميال ونحوها أو الأيام، إلا أنه أقل الطريق أو النصف فأكثر، وكان نذره في المواضع القريبة كالمدينة ونحوها، أو البعيدة كمصر والإسكندرية، أو أبعد من ذلك مثل إفريقية أو الأندلس; فإن كان ذلك الشيء اليسير الأميال أو البريد أو اليوم; أهدى وأجزأ عنه مشيه. وإن كان النصف فأكثر رجع ومشى الطريق كله، وهو قول عبد الملك في المبسوط، قال: لو كثر ركوبه، يعجز [ ص: 1649 ] فيركب ، ثم يمشي ثم يركب، قال: أبطله مالك أجمع، قال: ولو ابتدأ فمشى مثل ميل أو ميلين، ثم اعتل فركب فبلغ إلى الروحاء، ثم صح فمشى حتى بلغ مكة، فإنه يعيد ذلك كله، وهو كمن ابتدأ مشيه بركوب، فهو وإن قل مشيه بعد ذلك أو كثر فهو منتقض.

                                                                                                                                                                                        وقال مالك في كتاب محمد : إن كان عليه مشي فعجز، فكان يمشي عقبة، ويركب عقبة حتى بلغ: أرى له أن يعود، ويعيد المشي كله من أوله .

                                                                                                                                                                                        ومحمل قوله على أنه كان قادرا على الصبر في موضع عجزه، فيأتي من المشي بأكثر من ذلك، وأما إذا كانت تلك قدرته فهو في العام الثاني على مثل ذلك، فلا يكلف غير مشي ما ركب. ومثله إذا كان لا يقدر على الصبر عن أصحابه، وكل هذا إذا كان نذره من المواضع القريبة كالمدينة ونحوها.

                                                                                                                                                                                        واختلف إذا كان بعيدا مثل مصر ونحوها، فقال مالك في كتاب محمد : يرجع لما عجز .

                                                                                                                                                                                        وقال في شرح ابن مزين فيمن عجز، وكان نذره من مصر: إن موضعك [ ص: 1650 ] لبعيد، وقد أجزأ عنك مشيك، ولا عودة عليك.

                                                                                                                                                                                        وهذا أحسن; لأنه لو كان نذره من المدينة فعاد، فلم يوف بنذره، لم يعد الثالثة لمشقة ذلك ، ولا شك أن مشقة الرجوع أول مرة على من كان نذره من مصر أعظم مشقة.

                                                                                                                                                                                        وأما من كان نذره من أبعد من ذلك كإفريقية والأندلس; فلا يكلف العودة بحال، وكل هذا إذا كان النذر مضمونا، فأما من نذر المشي في عام بعينه فمرض فيه; لم يكن عليه أن يقضي ما مرض فيه، وكذلك لو مرضه كله لم يكن عليه شيء.

                                                                                                                                                                                        وإذا حضر خروج الحاج وهو مريض، وكان إن تأخر فاته الحج; خرج على حاله- إذا كان نذره في عام بعينه- راكبا إذا كان لا يضر به السفر، فإن صح في بعض الطريق مشى. وإن لم يصح أجزأ عنه وأهدى. وإن كان مضمونا أمهل لعام آخر، ولم يكن عليه أن يخرج الآن. فإن خرج راكبا لم يجزئه، وكان بمنزلة من ركب اختيارا; لأنه كان غير مخاطب بالخروج الآن.

                                                                                                                                                                                        قال ابن القاسم في المدونة: إذا حنث وهو مريض، فإن كان مرضا لا يرجى برؤه; كان كالشيخ الكبير، وإن كان يطمع بالبرء; ينتظر حتى يصح، إلا أن يعلم أنه لا يقدر على المشي وإن صح، فليمش ما أطاق وهذا استحسان، والقياس إذا كان لا يقدر الآن إلا على مشي الأميال واليوم وما أشبهه ، وإن [ ص: 1651 ] صح قدر أن يمشي ما له قدر وبال: أن يؤخر حتى يصح فيمشي، ثم يكون العجز والهدي .

                                                                                                                                                                                        وقال في الشيخ الكبير: يمشي ما أطاق ولو نصف ميل، ثم يركب ويهدي .

                                                                                                                                                                                        يريد: لأن محمل نذره على مشي جميع الطريق.

                                                                                                                                                                                        ولو نوى أن يمشي ما أطاق ثم يركب; لم يكن عليه هدي، فكذلك الشاب الصحيح الضعيف البنية والمرأة يمشيان ما أطاقا، ثم يهديان، إلا أن يكونا نويا من ذلك ما يطيقان خاصة، فلا يكون عليهما هدي.

                                                                                                                                                                                        ولو نذرت المرأة مشي جميع الطريق ثم عجزت، وكان إن عادت وفت بجميع المشي; لعادت. قاله محمد .

                                                                                                                                                                                        وإذا كانت المرأة شابة قوية، وكان مشي مثلها عورة وكشفة عليها; لرأيت أن تمشي الأميال محتجزة عن الناس، ثم تركب وتهدي.

                                                                                                                                                                                        وفي كتاب مسلم : قال عقبة بن عامر : إن أختي نذرت أن تمشي إلى بيت الله حافية، فقال النبي - صلى الله عليه وسلم -: " لتمش ولتركب" . وجوابه هذا محتمل أن يكون لأنها شابة ومشيها عورة، أو يكون عند العجز.

                                                                                                                                                                                        وقال محمد فيمن مشى في الطريق ثم عجز فأتى لعام قابل فمشى الطريق كله لا هدي عليه لأنه لم يفرق مشيه . [ ص: 1652 ]

                                                                                                                                                                                        قال الشيخ رحمه الله: أما إذا كان النذر الأول مضمونا فكلام محمد صحيح، وإن كان في عام بعينه فيختلف في القضاء; لأنه مغلوب، فمن قال: لا قضاء عليه، قال: لا دم عليه ، ومن قال عليه القضاء يكون عليه الدم بتفرقة المشي.

                                                                                                                                                                                        التالي السابق


                                                                                                                                                                                        الخدمات العلمية