وأما العلل الطبعية الموجودة في الخارج، مثل كون الأكل والشرب علة للشبع والري، والإحراق والإغراق علة للحرق والغرق، فكثير من متكلمة أهل الإثبات من أصحابنا وغيرهم لما ناظروا أهل الطبع وأهل القدر في أن الله خالق كل شيء أنكروا أن يكون في العلم علة أو سبب، وقالوا: إن الله يخلق هذه الآثار عند هذه الحوادث، فهؤلاء إذا تكلموا في العلة والسبب لم يدخل هذا في كلامهم، وهذه طريقة كثير من الفقهاء
الحنبلية والمالكية والشافعية ومتكلمة أهل الإثبات من
الأشعرية وغيرهم. فإذا وجدت في كلام
nindex.php?page=showalam&ids=12604القاضي أبي بكر ابن الباقلاني أو
nindex.php?page=showalam&ids=14953القاضي أبي يعلى أو
القاضي أبي الطيب أو
أبي إسحاق الفيروزابادي أو
nindex.php?page=showalam&ids=11851أبي الخطاب أو
nindex.php?page=showalam&ids=13372ابن عقيل أو نحو هؤلاء الفرق بين العلل العقلية والشرعية فهذا مرادهم.
وأما جمهور العقلاء من أهل الإسلام وسائر الملل وإن كانوا يردون على أهل الطبيعة الذين يضيفون الحوادث إلى ما دون الله من جسم أو طبع أو فلك أو نجم أو عقل أو نفس، وعلى القدرية الذين
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28716_28719_28722_30239يزعمون أن أفعال الحيوان لم يخلقها الله ولا يقدر على خلقها، ويعلمون أن الله خالق كل شيء فلا ينكرون ثبوت الأسباب وأن الله يخلق الأشياء بها، كما نطق بذلك الكتاب والسنة، وكما اتفق عليه
[ ص: 211 ] سلف الأمة والسالمو الفطرة من أهل الملة. قال الله تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وهو الذي يرسل الرياح إلى قوله:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57فأنزلنا به الماء فأخرجنا به من كل الثمرات ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164وما أنزل الله من السماء من ماء فأحيا به الأرض بعد موتها ، وقال:
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=60فأنبتنا به حدائق ذات بهجة ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9فأنبتنا به جنات وحب الحصيد ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يهدي به الله من اتبع رضوانه سبل السلام ، وقال تعالى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يضل به كثيرا ويهدي به كثيرا . وهذا كثير في الكتاب والسنة. فمن قال: لا يقال: إن الله يفعل بها، وإنما يفعل عندها لا بها، فقد خالف الكتاب والسنة وفطر العقلاء.
فإن قلت: قد ذكرت أنه
nindex.php?page=treesubj&link=28783ليس في الوجود علة تامة وحدها إلا مشيئة الله، فكيف تصنع بالإحراق والإغراق والإزهاق والتكسير والتعليم ونحو هذه الأفعال التي لها أفعال مطاوعة، فإن الكسر مستلزم للانكسار، والإحراق مستلزم للاحتراق، والإزهاق مستلزم للزهوق، ونحو ذلك.
قلت: الإحراق ونحوه إما أن يعنى به فعل المحرق فقط، أو يعنى
[ ص: 212 ] به فعله وقبول المحترق، فإن عني به فعل الفاعل فقط فهو من العلل المقتضية لا الموجبة، يقال: أحرقته فلم يحترق، وعلمته فلم يتعلم، وكسرته فلم ينكسر، وإن عني به فعل الفاعل وقبول القابل فهما أمران مركبان.
وهذا طرد قولنا: ليس في الوجود علة تامة إلا مركبة سوى مشيئة الله تعالى، وقد تقدم الكلام على الصفات والأحوال هل تدخل في العلل أم لا. فهذا أحد القسمين.
وَأَمَّا الْعِلَلُ الطَّبْعِيَّةُ الْمَوْجُودَةُ فِي الْخَارِجِ، مِثْلَ كَوْنِ الْأَكْلِ وَالشُّرْبِ عِلَّةً لِلشِّبَعِ وَالرَّيِّ، وَالْإِحْرَاقِ وَالْإِغْرَاقِ عِلَّةً لِلْحَرْقِ وَالْغَرَقِ، فَكَثِيرٌ مِنْ مُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنْ أَصْحَابِنَا وَغَيْرِهِمْ لَمَّا نَاظَرُوا أَهْلَ الطَّبْعِ وَأَهْلَ الْقَدَرِ فِي أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ أَنْكَرُوا أَنْ يَكُونَ فِي الْعِلْمِ عِلَّةٌ أَوْ سَبَبٌ، وَقَالُوا: إِنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ هَذِهِ الْآثَارَ عِنْدَ هَذِهِ الْحَوَادِثِ، فَهَؤُلَاءِ إِذَا تَكَلَّمُوا فِي الْعِلَّةِ وَالسَّبَبِ لَمْ يَدْخُلْ هَذَا فِي كَلَامِهِمْ، وَهَذِهِ طَرِيقَةُ كَثِيرٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ
الْحَنْبَلِيَّةِ وَالْمَالِكِيَّةِ وَالشَّافِعِيَّةِ وَمُتَكَلِّمَةِ أَهْلِ الْإِثْبَاتِ مِنَ
الْأَشْعَرِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ. فَإِذَا وَجَدْتَ فِي كَلَامِ
nindex.php?page=showalam&ids=12604الْقَاضِي أَبِي بَكْرٍ ابْنِ الْبَاقِلَّانِيِّ أَوِ
nindex.php?page=showalam&ids=14953الْقَاضِي أَبِي يَعْلَى أَوِ
الْقَاضِي أَبِي الطَّيِّبِ أَوْ
أَبِي إِسْحَاقَ الْفَيْرُوزَابَادِيِّ أَوْ
nindex.php?page=showalam&ids=11851أَبِي الْخَطَّابِ أَوِ
nindex.php?page=showalam&ids=13372ابْنِ عَقِيلٍ أَوْ نَحْوِ هَؤُلَاءِ الْفَرْقَ بَيْنَ الْعِلَلِ الْعَقْلِيَّةِ وَالشَّرْعِيَّةِ فَهَذَا مُرَادُهُمْ.
وَأَمَّا جُمْهُورُ الْعُقَلَاءِ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ وَسَائِرِ الْمِلَلِ وَإِنْ كَانُوا يَرُدُّونَ عَلَى أَهْلِ الطَّبِيعَةِ الَّذِينَ يُضِيفُونَ الْحَوَادِثَ إِلَى مَا دُونَ اللَّهِ مِنْ جِسْمٍ أَوْ طَبْعٍ أَوْ فَلَكٍ أَوْ نَجْمٍ أَوْ عَقْلٍ أَوْ نَفْسٍ، وَعَلَى الْقَدَرِيَّةِ الَّذِينَ
nindex.php?page=treesubj&link=28713_28716_28719_28722_30239يَزْعُمُونَ أَنَّ أَفْعَالَ الْحَيَوَانِ لَمْ يَخْلُقْهَا اللَّهُ وَلَا يَقْدِرُ عَلَى خَلْقِهَا، وَيَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ خَالِقُ كُلِّ شَيْءٍ فَلَا يُنْكِرُونَ ثُبُوتَ الْأَسْبَابِ وَأَنَّ اللَّهَ يَخْلُقُ الْأَشْيَاءَ بِهَا، كَمَا نَطَقَ بِذَلِكَ الْكِتَابُ وَالسُّنَّةُ، وَكَمَا اتَّفَقَ عَلَيْهِ
[ ص: 211 ] سَلَفُ الْأُمَّةِ وَالسَّالِمُو الْفِطْرَةِ مِنْ أَهْلِ الْمِلَّةِ. قَالَ اللَّهُ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57وَهُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ إِلَى قَوْلِهِ:
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=57فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ فَأَخْرَجْنَا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=164وَمَا أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّمَاءِ مِنَ مَاءٍ فَأَحْيَا بِهِ الأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا ، وَقَالَ:
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=60فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=50&ayano=9فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=5&ayano=16يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوَانَهُ سُبُلَ السَّلامِ ، وَقَالَ تَعَالَى:
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=26يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا . وَهَذَا كَثِيرٌ فِي الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ. فَمَنْ قَالَ: لَا يُقَالُ: إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ بِهَا، وَإِنَّمَا يَفْعَلُ عِنْدَهَا لَا بِهَا، فَقَدْ خَالَفَ الْكِتَابَ وَالسُّنَّةَ وَفِطَرَ الْعُقَلَاءِ.
فَإِنْ قُلْتَ: قَدْ ذَكَرْتَ أَنَّهُ
nindex.php?page=treesubj&link=28783لَيْسَ فِي الْوُجُودِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ وَحْدَهَا إِلَّا مَشِيئَةُ اللَّهِ، فَكَيْفَ تَصْنَعُ بِالْإِحْرَاقِ وَالْإِغْرَاقِ وَالْإِزْهَاقِ وَالتَّكْسِيرِ وَالتَّعْلِيمِ وَنَحْوَ هَذِهِ الْأَفْعَالِ الَّتِي لَهَا أَفْعَالُ مُطَاوَعَةٍ، فَإِنَّ الْكَسْرَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِانْكِسَارِ، وَالْإِحْرَاقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلِاحْتِرَاقِ، وَالْإِزْهَاقَ مُسْتَلْزِمٌ لِلزَّهُوقِ، وَنَحْوَ ذَلِكَ.
قُلْتُ: الْإِحْرَاقُ وَنَحْوَهُ إِمَّا أَنْ يُعْنَى بِهِ فِعْلُ الْمُحْرِقِ فَقَطْ، أَوْ يُعْنَى
[ ص: 212 ] بِهِ فِعْلُهُ وَقَبُولُ الْمُحْتَرِقِ، فَإِنْ عُنِيَ بِهِ فِعْلُ الْفَاعِلِ فَقَطْ فَهُوَ مِنَ الْعِلَلِ الْمُقْتَضِيَةِ لَا الْمُوجِبَةِ، يُقَالُ: أَحْرَقْتُهُ فَلَمْ يَحْتَرِقْ، وَعَلَّمْتُهُ فَلَمْ يَتَعَلَّمْ، وَكَسَرْتُهُ فَلَمْ يَنْكَسِرْ، وَإِنْ عُنِيَ بِهِ فِعْلُ الْفَاعِلِ وَقَبُولُ الْقَابِلِ فَهُمَا أَمْرَانِ مُرَكَّبَانِ.
وَهَذَا طَرْدُ قَوْلِنَا: لَيْسَ فِي الْوُجُودِ عِلَّةٌ تَامَّةٌ إِلَّا مُرَكَّبَةً سِوَى مَشِيئَةِ اللَّهِ تَعَالَى، وَقَدْ تَقَدَّمَ الْكَلَامُ عَلَى الصِّفَاتِ وَالْأَحْوَالِ هَلْ تَدْخُلُ فِي الْعِلَلِ أَمْ لَا. فَهَذَا أَحَدُ الْقِسْمَيْنِ.