الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
وأما أهل السنة والجماعة من سلف الأمة وأئمتها، ومشايخ أهل التصوف والحديث، فلا ينكرون حقيقة محبة الله أصلا، وهؤلاء هم الباقون على ملة إبراهيم خليل الرحمن الذي قال الله تعالى فيه: ومن أحسن دينا ممن أسلم وجهه لله وهو محسن واتبع ملة إبراهيم حنيفا واتخذ الله إبراهيم خليلا ، وعلى أصل هؤلاء فيظهر أن يكون الله هو المقصود بالقصد الأول، المحبوب المطلوب لذاته.

يبقى أن يقال: فالحب والإرادة فرع الشعور، فكيف يكون هذا هو الأصل، وهو مسبوق بطلب وإرادة، وذلك مستلزم لحب؟ فلا بد أن يكون قد أحب شيئا ما حتى أداه ذلك إلى هذه المعرفة المستلزمة محبة الله وقصده لذاته؟ فيجاب عن ذلك بوجهين:

أحدهما: أن كون الإقرار بالله لا يكون إلا نظريا، إنما قاله طوائف من أهل الكلام كالمعتزلة ومن سلك سبيلهم، وليس هذا قول سلف الأمة وأئمتها، ولا قول مشايخ التصوف ومشايخ أهل الحديث، ولا قول جميع أهل الكلام، بل طوائف كثيرة من أهل الكلام والنظر قد يقولون: إنها لا تكون نظرية بحال، بل لا تكون إلا ضرورية.

والتحقيق أنها فطرية ضرورية، ولكن قد يحصل لبعض الفطر ما يفسدها، فيحيلنا إلى نظر، كما يقرن النظر بالضرورة، كما قال النبي [ ص: 141 ] - صلى الله عليه وسلم -: "كل مولود يولد على الفطرة- وفي لفظ: على هذه الملة، وفي لفظ: على فطرة الإسلام- فأبواه يهودانه وينصرانه ويمجسانه، كما تنتج البهيمة بهيمة جمعاء، هل تحسون فيها جدعاء"، ثم يقول أبو هريرة: اقرؤوا إن شئتم: فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم .

وذلك قوله تعالى: فأقم وجهك للدين حنيفا فطرت الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم ولكن أكثر الناس لا يعلمون منيبين إليه واتقوه وأقيموا الصلاة ولا تكونوا من المشركين من الذين فرقوا دينهم وكانوا شيعا كل حزب بما لديهم فرحون .

الوجه الثاني: أن الحب يتبع الشعور، فإذا شعر بالحق مجملا أحبه مجملا، وإذا شعر به مفصلا أحبه مفصلا، لا بد من الشعور به ومحبته ولو مجملا، وإن لم يكن ذلك أصل مقصوده كان معلولا، فإن من كان مطلوبه الحق من حيث هو حق، غير متبع لهواه المخالف للحق، فإنما مقصوده في الحقيقة هو الله، فإنه الحق المحض، إذ كل مخلوق فإنما قوامه به، وبه صار موجودا، ثم إنه قد يشعر أولا بموجود قديم، أو موجود واجب، إذ الوجود شاهد بأنه لا بد فيه من قديم واجب، إذ يمتنع أن يكون الوجود كله محدثا ممكنا، فإن ذلك لا يكون بنفسه، وهذا من أوضح المعارف الضرورية، فالإقرار بموجود [ ص: 142 ] قديم واجب أمر ضروري فطري في النفوس كلها.

ولهذا تجد جميع الأمم معرفة بالله فطرية، فإن أخطأ بعضهم عينه فاعتقده غير ما هو، فالمقصود الأول هو الله، والقلب مفطور على الحنيفية التي هي الإقرار بالله وعبادته المتضمنة معرفته ومحبته. ولكن قد يعرض للفطرة ما يغيرها، وإذا كان كذلك، فقد دل الكتاب والسنة - في غير موضع- على أن من كان هذا مقصوده، وكان مجتهدا في ذلك، فإنه يحصل له الهدى، وأن من اتبع هواه فلم يكن الحق مقصوده، ضل عن سبيله، قال تعالى: والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا ، فإن المجاهد في الله لا بد له من شيئين:

أحدهما: محبة الله وإرادته المستلزمة بغض عدوه.

والثاني: الاجتهاد في دفع ما يبغضه الحق ويكرهه، بقهر عدوه، ليحصل ما يحبه الحق ويرضاه بعلو كلمته، وأن يكون الدين كله لله.

التالي السابق


الخدمات العلمية