الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                                                                                                                                                                                                              معلومات الكتاب

                                                                                                                                                                                                                              سبل الهدى والرشاد في سيرة خير العباد

                                                                                                                                                                                                                              الصالحي - محمد بن يوسف الصالحي الشامي

                                                                                                                                                                                                                              صفحة جزء
                                                                                                                                                                                                                              ذكر منام عاتكة بنت عبد المطلب

                                                                                                                                                                                                                              روى ابن إسحاق والحاكم والبيهقي من طريق عكرمة ، عن ابن عباس . وموسى بن عقبة ، وابن إسحاق عن عروة . والبيهقي ، عن ابن شهاب ، قالوا : رأت عاتكة بنت عبد المطلب فيما يرى النائم -قبل مقدم ضمضم على قريش بثلاث ليال- رؤيا ، فأصبحت عاتكة فأعظمتها ، فبعثت إلى أخيها العباس بن عبد المطلب فقالت له : يا أخي ، لقد رأيت الليلة رؤيا أفظعتني ، ليدخلن على قومك منها شر وبلاء! فقال : وما هي ؟ قالت : لن أحدثك حتى تعاهدني أنك لا تذكرها ، فإنهم إن سمعوها آذونا وأسمعونا ما لا نحب ، فعاهدها العباس ، فقالت : رأيت أن رجلا أقبل على بعير فوق الأبطح ، فصاح بأعلى صوته : انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، وصاح ثلاث صيحات فأرى الناس اجتمعوا إليه ، ثم إن بعيره دخل به المسجد ، [ ص: 20 ] واجتمع إليه الناس ، ثم مثل به بعيره فإذا هو على رأس الكعبة ، فصاح ثلاث صيحات فقال :

                                                                                                                                                                                                                              انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم أرى بعيره مثل به على رأس أبي قبيس فقال : انفروا يا آل غدر لمصارعكم في ثلاث ، ثم أخذ صخرة عظيمة فنزعها من أصلها فأرسلها من رأس الجبل ، فأقبلت الصخرة تهوي لها حس شديد ، حتى إذا كانت في أسفل الجبل ارتضت فما بقيت دار من دور قومك ولا بيت إلا دخل فيه فلقة ، فقال العباس : والله إن هذه لرؤيا فاكتميها . قالت : وأنت فاكتمها ، لئن بلغت هذه قريشا ليؤذوننا ، فخرج العباس من عندها فلقي الوليد بن عتبة فتحدث بها ، وفشا الحديث بمكة ، حتى تحدثت به قريش في أنديتها .

                                                                                                                                                                                                                              قال العباس : فغدوت لأطوف بالبيت وأبو جهل في رهط من قريش قعود يتحدثون لرؤيا عاتكة ، فلما رآني قال لي أبو جهل : يا بني عبد المطلب : متى حدثت فيكم هذه النبية ؟ قلت : وما ذاك ؟ قال : رؤيا عاتكة . قلت : وما رأت ؟ قال : ما رضيتم يا بني عبد المطلب أن يتنبأ رجالكم حتى تتنبأ نساؤكم . ولفظ ابن عقبة : أما رضيتم يا بني هاشم بكذب الرجال حتى جئتمونا بكذب النساء ، إنا كنا وإياكم كفرسي رهان ، فاستبقنا المجد منذ حين ، فلما تحاكت الركب قلتم : منا نبي ، فما بقي إلا أن تقولوا : منا نبية ، فما أعلم في قريش أهل بيت أكذب امرأة ولا رجلا منكم -وآذاه أشد الأذى- قد زعمت عاتكة في رؤياها أنه قال : انفروا في ثلاث ، فسنتربص بكم هذه الثلاث ، فإن يك حقا ما تقول فسيكون ، وإن تمض الثلاث ولم يكن من ذلك شيء كتبنا عليكم كتابا أنكم أكذب أهل بيت في العرب .

                                                                                                                                                                                                                              قال العباس : فوالله ما كان مني إليه كبير شيء ، إلا أني جحدت ذلك ، وأنكرت أن تكون عاتكة رأت شيئا .

                                                                                                                                                                                                                              وعند ابن عقبة في هذا الخبر أن العباس قال لأبي جهل : هل أنت منته ؟ فإن الكذب فيك وفي أهل بيتك ، فقال من حضرها : ما كنت جهولا يا أبا الفضل ولا خرقا ، وكذلك قال ابن عائذ ، وزاد : فقال العباس : مهلا يا مصفر استه . ولقي العباس من عاتكة أذى شديدا حين أفشى حديثها لهذا الفاسق .

                                                                                                                                                                                                                              قال العباس : فلما أمسيت لم تبق امرأة من بني عبد المطلب إلا أتتني فقالت : أقررتم لهذا الفاسق الخبيث أن يقع في رجالكم ، ثم قد تناول نساءكم وأنت تستمع ، ثم لم يكن عندك كبير شيء مما سمعت ، قلت : قد والله فعلت ، ما كان مني إليه كبير شيء ، وايم الله لأتعرضن له ، فإن عاد لأكفيكنه قال : فغدوت في اليوم الثالث من رؤيا عاتكة وأنا حديد مغضب ، أرى أني قد فاتني من عدو الله أمر أحب أن أدركه منه ، قال : فدخلت المسجد فرأيته ، فوالله إني لأمشي نحوه أتعرضه ليعود لبعض ما قال فأقع به ، وكان رجلا خفيفا ، حديد الوجه ، [ ص: 21 ] حديد اللسان ، حديد النظر ، قال : إذ خرج نحو باب المسجد يشتد ، قال : فقلت في نفسي : ما له لعنه الله أكل هذا فرق من أن أشاتمه ؟ ! قال : وإذا هو قد سمع ما لم أسمع ، صوت ضمضم بن عمرو الغفاري وهو يصرخ ببطن الوادي واقفا على بعيره قد جدع بعيره ، وحول رحله ، وشق قميصه ، وهو يقول : يا معشر قريش يا آل لؤي بن غالب ، اللطيمة اللطيمة ، أموالكم مع أبي سفيان قد عرض لها محمد في أصحابه ، لا أرى أن تدركوها ، الغوث الغوث ، والله ما أرى أن تدركوها ، ففزعت قريش أشد الفزع ، وأشفقوا من رؤيا عاتكة ، فشغله ذلك عني ، وشغلني عنه ما جاء من الأمر . وقالت عاتكة :


                                                                                                                                                                                                                              ألم تكن الرؤيا بحق وجاءكم بتصديقها فل من القوم هارب     فقلتم -ولم أكذب- : كذبت وإنما
                                                                                                                                                                                                                              يكذبنا بالصدق من هو كاذب



                                                                                                                                                                                                                              فتجهز الناس سراعا وقالوا : أيظن محمد وأصحابه أن تكون كعير ابن الحضرمي -أي الآتي في السرايا- كلا والله ليعلمن غير ذلك ، فكانوا بين رجلين ، إما خارج وإما باعث مكانه رجلا ، وكان جهازهم في ثلاثة أيام ، ويقال : في يومين ، وأعان قويهم ضعيفهم .

                                                                                                                                                                                                                              وقال سهيل بن عمرو ، وزمعة بن الأسود ، وطعيمة بن عدي ، وحنظلة بن أبي سفيان يحضون الناس على الخروج . وقال سهيل : يا آل غالب أتاركون أنتم محمدا والصباة معه من شبانكم ، وأهل يثرب يأخذون عيرانكم وأموالكم ، من أراد مالا فهذا مالي ، ومن أراد قوة فهذه قوتي ، فمدحه أمية بن أبي الصلت بأبيات ، ومشى نوفل بن معاوية إلى أهل القوة من قريش ، فكلمهم في بذل النفقة والحملان لمن خرج ، فقال عبد الله بن أبي ربيعة : هذه خمسمائة دينار فضعها حيث رأيت ، وأخذ من حويطب بن عبد العزى مائتي دينار ، ويقال : ثلاثمائة دينار ، وقوي بها في السلاح والظهر ، وحمل طعيمة بن عدي على عشرين بعيرا ، وقواهم وخلفهم في أهلهم بمعونة ، ولم يتركوا كارها للخروج يظنون أنه في صف محمد وأصحابه ، ولا مسلما يعلمون إسلامه ، ولا أحدا من بني هاشم ، إلا من لا يتهمون ، إلا أشخصوه معهم ، وكان ممن أشخصوا العباس بن عبد المطلب ونوفل بن الحارث وطالب بن أبي طالب وعقيل بن أبي طالب في آخرين .

                                                                                                                                                                                                                              وكان لا يتخلف أحد من قريش إلا بعث مكانه بعيثا ، ومشوا إلى أبي لهب فأبى أن يخرج أو يبعث أحدا . ويقال : إنه بعث مكانه العاص بن هشام بن المغيرة -وأسلم بعد ذلك- وكان قد ليط له بأربعة آلاف درهم كانت له عليه ، أفلس بها ، فاستأجره على أن يجزي عنه بعثه ، فخرج عنه وتخلف أبو لهب ، منعه من الخروج رؤيا عاتكة فإنه كان يقول : رؤيا عاتكة كأخذ باليد ، واستقسم أمية بن خلف ، وعتبة ، وشيبة ، وزمعة بن الأسود ، وعمير بن وهب ، وحكيم بن حزام ، وغيرهم ، عند هبل بالآمر والناهي من الأزلام ، فخرج القدح الناهي عن الخروج ، فأجمعوا المقام حتى أزعجهم أبو جهل بن هشام . ولما أجمع أمية بن خلف القعود -وكان شيخا جليلا ، [ ص: 22 ] جسيما ثقيلا- أتاه عقبة بن أبي معيط ، وهو جالس في المسجد بين ظهراني قومه ، بمجمرة فيها نار ومجمر حتى وضعها بين يديه ثم قال : يا أبا علي استجمر؛ فإنما أنت من النساء ، فقال : قبحك الله وقبح ما جئت به ، ثم تجهز وخرج مع الناس ، وسبب تثبطه ما سيأتي عند ذكر مقتله .

                                                                                                                                                                                                                              التالي السابق


                                                                                                                                                                                                                              الخدمات العلمية