روى عن البخاري ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحجر في غزوة تبوك أمرهم ألا يشربوا من بئرها ولا يستقوا منها . فقالوا : قد عجنا واستقينا . فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا الماء وأن يطرحوا ذلك العجين . لما نزل
وفي الصحيح عن ابن عمر الحجر أرض ثمود ، فاستقوا من آبارها وعجنوا به العجين ، فأمرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يهريقوا ما استقوا ويعلفوا الإبل العجين ، وأمرهم أن يستقوا من البئر التي تردها الناقة . وروي أيضا عن أن الناس نزلوا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على ابن عمر قال : الحجر فقال لنا رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إلا أن تكونوا باكين حذرا أن يصيبكم مثل ما أصابهم ثم زجر فأسرع لا تدخلوا مساكن الذين ظلموا أنفسهم . مررنا مع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - على
قلت : ففي هذه الآية التي بين الشارع حكمها وأوضح أمرها ثمان مسائل ، استنبطها العلماء واختلف في بعضها الفقهاء ،
فأولها : كراهة دخول تلك المواضع ، وعليها حمل بعض العلماء ; فإن دخل الإنسان شيئا من تلك المواضع والمقابر فعلى الصفة التي أرشد إليها النبي - صلى الله عليه وسلم - من الاعتبار والخوف والإسراع . وقد قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : دخول مقابر الكفار بابل فإنها ملعونة . لا تدخلوا أرض
[ مسألة ] . أمر النبي ثمود وإلقاء ما عجن وخبز به لأجل أنه ماء سخط ، فلم يجز الانتفاع به فرارا من سخط الله . وقال اعلفوه الإبل . بهرق ما استقوا من بئر
قلت : وهكذا حكم . الماء النجس وما يعجن به
وثانيها : قال مالك : إن ; إذ لا تكليف عليها ; وكذلك قال ، في العسل النجس : إنه يعلفه النحل . ما لا يجوز استعماله من الطعام والشراب يجوز أن تعلفه الإبل والبهائم
وثالثها : أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بعلف ما عجن بهذا الماء الإبل ، ولم يأمر بطرحه كما أمر في لحوم الحمر الإنسية يوم خيبر ; فدل على أن [ ص: 43 ] أشد في التحريم وأغلظ في التنجيس . وقد أمر رسول الله - صلى الله عليه وسلم - بكسب الحجام أن يعلف الناضح والرقيق ، ولم يكن ذلك لتحريم ولا تنجيس . قال لحم الحمر : ولو كان حراما لم يأمره أن يطعمه رقيقه ; لأنه متعبد فيه كما تعبد في نفسه . الشافعي
ورابعها : في أمره - صلى الله عليه وسلم - بعلف الإبل العجين دليل على جواز ; خلافا لمن منع ذلك من أصحابنا وقال : تطلق الكلاب عليها ولا يحملها إليهم . حمل الرجل النجاسة إلى كلابه ليأكلوها
وخامسها : أمره - صلى الله عليه وسلم - أن يستقوا من بئر الناقة دليل على ، وإن تقادمت أعصارهم وخفيت آثارهم ; كما أن في الأول دليلا على التبرك بآثار الأنبياء والصالحين . هذا ، وإن كان التحقيق أن الجمادات غير مؤاخذات ، لكن المقرون بالمحبوب محبوب ، والمقرون بالمكروه المبغوض مبغوض ; كما قال كثير : بغض أهل الفساد وذم ديارهم وآثارهم
أحب لحبها السودان حتى أحب لحبها سود الكلاب
وكما قال آخر :
أمر على الديار ديار ليلى أقبل ذا الجدار وذا الجدارا
وما تلك الديار شغفن قلبي ولكن حب من سكن الديارا
وسادسها : منع بعض العلماء الصلاة بهذا الموضع وقال : لا تجوز الصلاة فيها لأنها دار سخط وبقعة غضب . قال : فصارت هذه البقعة مستثناة من قوله - صلى الله عليه وسلم - : ابن العربي فلا يجوز التيمم بترابها ولا الوضوء من مائها ولا الصلاة فيها . وقد روى جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا الترمذي عن ابن عمر أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - المزبلة والمجزرة والمقبرة ، وفي وقارعة الطريق وفي الحمام وفوق بيت الله معاطن الإبل . وفي الباب عن نهى أن يصلى في سبع مواطن : في أبي مرثد وجابر وأنس : حديث ابن عمر إسناده ليس بذاك القوي ، وقد تكلم في [ ص: 44 ] زيد بن جبيرة من قبل حفظه . وقد زاد علماؤنا : الدار المغصوبة والكنيسة والبيعة والبيت الذي فيه تماثيل ، والأرض المغصوبة أو موضعا تستقبل فيه نائما أو وجه رجل أو جدارا عليه نجاسة . قال : ومن هذه المواضع ما منع لحق الغير ، ومنه ما منع لحق الله - تعالى - ، ومنه ما منع لأجل النجاسة المحققة أو لغلبتها ; فما منع لأجل النجاسة إن فرش فيه ثوب طاهر كالحمام والمقبرة فيها أو إليها فإن ذلك جائز في المدونة . وذكر ابن العربي أبو مصعب عنه الكراهة . وفرق علماؤنا بين المقبرة القديمة والجديدة لأجل النجاسة ، وبين مقبرة المسلمين والمشركين ; لأنها دار عذاب وبقعة سخط كالحجر . وقال مالك في المجموعة : لا يصلي في أعطان الإبل وإن فرش ثوبا ; كأنه رأى لها علتين : الاستتار بها ونفارها فتفسد على المصلي صلاته ، فإن كانت واحدة فلا بأس ; كما كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يفعل ; في الحديث الصحيح . وقال مالك : إلا من ضرورة . وكره لا يصلى على بساط فيه تماثيل ابن القاسم ، فإن فعل أجزأه وذكر بعضهم عن الصلاة إلى القبلة فيها تماثيل ، وفي الدار المغصوبة مالك أن لا تجزئ . قال الصلاة في الدار المغصوبة : وذلك عندي بخلاف الأرض . فإن الدار لا تدخل إلا بإذن ، والأرض وإن كانت ملكا فإن المسجدية فيها قائمة لا يبطلها الملك . ابن العربي
قلت : الصحيح - إن شاء الله - الذي يدل عليه النظر والخبر أن الصلاة بكل موضع طاهر جائزة صحيحة . وما روي من قوله - صلى الله عليه وسلم - : إن هذا واد به شيطان وقد رواه معمر عن الزهري فقال : واخرجوا عن الموضع الذي أصابتكم فيه الغفلة . وقول علي : بابل فإنها ملعونة أصلي بأرض . وقوله - عليه السلام - حين مر نهاني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن بالحجر من ثمود : ونهيه عن لا تدخلوا على هؤلاء المعذبين إلا أن تكونوا باكين إلى ذلك مما في هذا الباب ، فإنه مردود إلى الأصول المجتمع عليها والدلائل الصحيح مجيئها . قال الصلاة في معاطن الإبل الإمام الحافظ أبو عمر : المختار عندنا في هذا الباب أن ذلك الوادي وغيره من بقاع الأرض جائز أن يصلى فيها كلها ما لم تكن فيها نجاسة متيقنة تمنع من ذلك ، ولا معنى لاعتلال من اعتل بأن [ ص: 45 ] موضع النوم عن الصلاة موضع شيطان ، وموضع ملعون لا يجب أن تقام فيه الصلاة ، وكل ما روي في هذا الباب من النهي عن وبأرض الصلاة في المقبرة بابل وأعطان الإبل وغير ذلك مما في هذا المعنى ، كل ذلك عندنا منسوخ ومدفوع لعموم قوله - صلى الله عليه وسلم - : جعلت لي الأرض كلها مسجدا وطهورا ، وقوله - صلى الله عليه وسلم - مخبرا : إن ذلك من فضائله ومما خص به ، وفضائله عند أهل العلم لا يجوز عليها النسخ ولا التبديل ولا النقص . قال - صلى الله عليه وسلم - : - وقد روي ستا ، وقد روي ثلاثا وأربعا ، وهي تنتهي إلى أزيد من تسع ، قال فيهن - أوتيت خمسا رواه جماعة من الصحابة . وبعضهم يذكر بعضها ، ويذكر بعضهم ما لم يذكر غيره ، وهي صحاح كلها . وجائز على فضائله الزيادة وغير جائز فيها النقصان ; ألا ترى أنه كان عبدا قبل أن يكون نبيا ثم كان نبيا قبل أن يكون رسولا ; وكذلك روي عنه . وقال : لم يؤتهن أحد قبلي بعثت إلى الأحمر والأسود ونصرت بالرعب وجعلت أمتي خير الأمم وأحلت لي الغنائم وجعلت لي الأرض مسجدا وطهورا وأوتيت الشفاعة وبعثت بجوامع الكلم وبينا أنا نائم أوتيت بمفاتيح الأرض فوضعت في يدي وأعطيت الكوثر . وختم بي النبيون ما أدري ما يفعل بي ولا بكم ثم نزلت ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر . إبراهيم وقال : لا يقولن أحدكم أنا خير من يونس بن متى وقال : السيد يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم - عليهم السلام - ثم قال بعد ذلك كله : آدم ولا [ ص: 46 ] فخر أنا سيد ولد . ففضائله - صلى الله عليه وسلم - لم تزل تزداد إلى أن قبضه الله ; فمن هاهنا قلنا : إنه لا يجوز عليها النسخ ولا الاستثناء ولا النقصان ، وجائز فيها الزيادة . وبقوله - صلى الله عليه وسلم - : وسمع رجلا يقول : يا خير البرية ; فقال : ذاك أجزنا جعلت لي الأرض مسجدا وطهورا الصلاة في المقبرة وفي كل موضع من الأرض إذا كان طاهرا من الأنجاس . وقال - صلى الله عليه وسلم - والحمام لأبي ذر : ذكره حيثما أدركتك الصلاة فصل فإن الأرض كلها مسجد ولم يخص موضعا من موضع . وأما من احتج بحديث البخاري ابن وهب قال : أخبرني يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة عن عن داود بن حصين نافع عن ابن عمر حديث الترمذي الذي ذكرناه فهو حديث انفرد به زيد بن جبيرة وأنكروه عليه ، ولا يعرف هذا الحديث مسندا إلا برواية يحيى بن أيوب عن زيد بن جبيرة . وقد كتب الليث بن سعد إلى عبد الله بن نافع مولى ابن عمر يسأله عن هذا الحديث ، وكتب إليه عبد الله بن نافع لا أعلم من حدث بهذا عن نافع إلا قد قال عليه الباطل . ذكره الحلواني عن عن سعيد بن أبي مريم الليث ، وليس فيه تخصيص مقبرة المشركين من غيرها . وقد روي عن علي بن أبي طالب قال : بابل فإنها ملعونة . وإسناده ضعيف مجتمع على ضعفه ، نهاني حبيبي - صلى الله عليه وسلم - أن أصلي في المقبرة ، ونهاني أن أصلي في أرض الذي رواه عن وأبو صالح علي هو سعيد بن عبد الرحمن الغفاري ، بصري ليس بمشهور ولا يصح له سماع عن علي ، ومن دونه مجهولون لا يعرفون . قال أبو عمر : وفي الباب عن علي من قوله غير مرفوع حديث حسن الإسناد ، رواه قال : حدثنا الفضل بن دكين المغيرة بن أبي الحر الكندي قال حدثني أبو العنبس حجر بن عنبس قال : خرجنا مع علي إلى الحرورية ، فلما جاوزنا سوريا وقع بأرض بابل ، قلنا : يا أمير المؤمنين أمسيت ، الصلاة الصلاة ; فأبى أن يكلم أحدا . قالوا : يا أمير المؤمنين ، قد أمسيت . قال بلى ، ولكن لا أصلي في أرض خسف الله بها . والمغيرة بن أبي الحر كوفي ثقة ; قاله وغيره . يحيى بن معين وحجر بن عنبس من كبار أصحاب علي . وروى الترمذي عن قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : أبي سعيد الخدري . قال الأرض كلها مسجد إلا المقبرة والحمام الترمذي : رواه سفيان [ ص: 47 ] الثوري عن عمرو بن يحيى عن أبيه عن النبي - صلى الله عليه وسلم - مرسلا ، وكأنه أثبت وأصح . قال أبو عمر : فسقط الاحتجاج به عند من لا يرى المرسل حجة ، ولو ثبت كان الوجه ما ذكرنا . ولسنا نقول كما قال بعض المنتحلين لمذهب المدنيين : أن المقبرة في هذا الحديث وغيره أريد بها مقبرة المشركين خاصة ; فإنه قال : المقبرة والحمام بالألف واللام ; فغير جائز أن يرد ذلك إلى مقبرة دون مقبرة أو حمام دون حمام بغير توقيف عليه ، فهو قول لا دليل عليه من كتاب ولا سنة ولا خبر صحيح ، ولا مدخل له في القياس ولا في المعقول ، ولا دل عليه فحوى الخطاب ولا خرج عليه الخبر . ولا يخلو تخصيص من خص مقبرة المشركين من أحد وجهين : إما أن يكون من أجل اختلاف الكفار إليها بأقدامهم فلا معنى لخصوص المقبرة بالذكر ; لأن كل موضع هم فيه بأجسامهم وأقدامهم فهو كذلك ، وقد جل رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أن يتكلم بما لا معنى له . أو يكون من أجل أنها بقعة سخط ، فلو كان كذلك ما كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ليبني مسجده في مقبرة المشركين وينبشها ويسويها ويبني عليها ، ولو جاز لقائل أن يخص من المقام مقبرة للصلاة فيها لكانت مقبرة المشركين أولى بالخصوص والاستثناء من أجل هذا الحديث . وكل من كره الصلاة في المقبرة لم يخص مقبرة من مقبرة ; لأن الألف واللام إشارة إلى الجنس لا إلى معهود ، ولو كان بين مقبرة المسلمين والمشركين فرق لبينه - صلى الله عليه وسلم - ولم يهمله ; لأنه بعث مبينا . ولو ساغ لجاهل أن يقول : مقبرة كذا لجاز لآخر أن يقول : حمام كذا ; لأن في الحديث المقبرة والحمام . وكذلك قوله : المزبلة والمجزرة ; غير جائز أن يقال : مزبلة كذا ولا مجزرة كذا ولا طريق كذا ; لأن التحكم في دين الله غير جائز . وأجمع العلماء على أن إذا كان الموضع طيبا طاهرا نظيفا جائز . وكذلك أجمعوا على أن من التيمم على مقبرة المشركين على موضع طاهر ، أن صلاته ماضية جائزة . وقد تقدم هذا في سورة " براءة " . ومعلوم أن الكنيسة أقرب إلى أن تكون بقعة سخط من المقبرة ; لأنها بقعة يعصى الله ويكفر به فيها ، وليس كذلك المقبرة . وقد وردت السنة باتخاذ البيع والكنائس مساجد . روى صلى في كنيسة أو بيعة عن النسائي طلق بن علي قال : . وذكر خرجنا وفدا إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - فبايعناه وصلينا معه ، وأخبرناه أن بأرضنا بيعة لنا ، وذكر الحديث . وفيه : فإذا أتيتم أرضكم فاكسروا بيعتكم واتخذوها مسجدا أبو داود عن عثمان بن أبي العاص مسجد الطائف حيث كانت طواغيتهم . وقد تقدم في " براءة " . وحسبك [ ص: 48 ] أن النبي - صلى الله عليه وسلم - أمره أن يجعل بمسجد النبي - صلى الله عليه وسلم - الذي أسس على التقوى مبنيا في مقبرة المشركين ; وهو حجة على كل من كره الصلاة فيها . وممن كره الصلاة في المقبرة سواء كانت لمسلمين أو مشركين الثوري وأبو حنيفة والأوزاعي وأصحابهم وعند والشافعي الثوري لا يعيد . وعند أجزأه إذا صلى في المقبرة في موضع ليس فيه نجاسة ; للأحاديث المعلومة في ذلك ، ولحديث الشافعي أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أبي هريرة ، ولحديث صلوا في بيوتكم ولا تتخذوها قبورا أبي مرثد الغنوي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - أنه قال : . وهذان حديثان ثابتان من جهة الإسناد ، ولا حجة فيهما ; لأنهما محتملان للتأويل ، ولا يجب أن يمتنع من الصلاة في كل موضع طاهر إلا بدليل لا يحتمل تأويلا . ولم يفرق أحد من فقهاء المسلمين بين مقبرة المسلمين والمشركين إلا ما حكيناه من خطل القول الذي لا يشتغل بمثله ، ولا وجه له في نظر ولا في صحيح أثر . لا تصلوا إلى القبور ولا تجلسوا عليها
وثامنها : الحائط يلقى فيه النتن والعذرة ليكرم فلا يصلى فيه حتى يسقى ثلاث مرات ، لما رواه عن الدارقطني مجاهد عن ابن عباس عن النبي - صلى الله عليه وسلم - في الحائط يلقى فيه العذرة والنتن قال : إذا سقي ثلاث مرات فصل فيه . وخرجه أيضا من حديث نافع ابن عمر أنه سئل عن هذه فقال : إذا سقيت ثلاث مرات فصل فيها . رفع ذلك إلى النبي - صلى الله عليه وسلم الحيطان التي تلقى فيها العذرات وهذا الزبل ، أيصلى فيها ؟ - واختلف في الإسناد ، والله أعلم . عن