فصل في إيراد أحاديث في معنى الباب وذكر أحكام التلاوة بالأصوات 
قال أبو عبيد   : حدثنا عبد الله بن صالح  ، عن قباث بن رزين  ، عن  علي بن رباح اللخمي  ، عن عقبة بن عامر  قال : خرج علينا رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما ونحن في المسجد نتدارس القرآن ، فقال : تعلموا كتاب الله واقتنوه   . قال : وحسبت أنه قال : وتغنوا به ، فوالذي نفسي بيده ، لهو أشد تفلتا من المخاض من العقل  . 
وحدثنا عبد الله بن صالح  ، عن موسى بن علي  ، عن أبيه ، عن عقبة بن عامر  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مثل ذلك إلا أنه قال : واقتنوه وتغنوا به ولم يشك ، وهكذا رواه أحمد   والنسائي  في فضائل  [ ص: 61 ] القرآن ، من حديث موسى بن علي  ، عن أبيه به ومن حديث  عبد الله بن المبارك  ، عن قباث بن رزين  ، عن علي بن رباح  ، عن عقبة  ، وفي بعض ألفاظه : خرج علينا ونحن نقرأ القرآن فسلم علينا ، وذكر الحديث . ففيه دلالة على السلام على القارئ   . 
ثم قال أبو عبيد   : حدثنا أبو اليمان  ، عن أبي بكر بن عبد الله بن أبي مريم  ، عن المهاصر بن حبيب  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : يا أهل القرآن ، لا توسدوا القرآن ، واتلوه حق تلاوته آناء الليل والنهار ، وتغنوه واقتنوه ، واذكروا ما فيه لعلكم تفلحون وهذا مرسل . 
ثم قال أبو عبيد   : قوله : تغنوه : يعني : اجعلوه غناءكم من الفقر ، ولا تعدوا الإقلال منه فقرا . وقوله : واقتنوه ، يقول : اقتنوه ، كما تقتنون الأموال : اجعلوه مالكم . 
وقال أبو عبيد   : حدثني هشام بن عمار  ، عن يحيى بن حمزة ،  عن الأوزاعي  ، حدثني إسماعيل بن عبيد الله بن أبي المهاجر  ، عن فضالة بن عبيد  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم قال : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن من صاحب القينة إلى قينته  . 
قال أبو عبيد   : هذا الحديث بعضهم يزيد في إسناده يقول : عن إسماعيل بن عبيد الله  عن مولى فضالة عن فضالة  ، وهكذا رواه ابن ماجه  ، عن راشد بن سعيد بن أبي راشد  ، عن الوليد  ، عن الأوزاعي  عن إسماعيل بن عبيد الله  عن ميسرة مولى فضالة  عن فضالة  عن النبي صلى الله عليه وسلم : لله أشد أذنا إلى الرجل الحسن الصوت بالقرآن [ يجهر به ] من صاحب القينة إلى قينته  . قال أبو عبيد   : يعني الاستماع . وقوله في الحديث الآخر : ما أذن الله لشيء أي : ما استمع . 
وقال أبو القاسم البغوي   : حدثنا محمد بن حميد  ، حدثنا  سلمة بن الفضل  ، حدثنا عبد الله بن عبد الرحمن  ، عن  ابن أبي مليكة  ، حدثنا  القاسم بن محمد  ، حدثنا السائب  قال : قال لي سعد   : يا ابن أخي ، هل قرأت القرآن ؟ قلت : نعم . قال : غن به ، فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : غنوا بالقرآن ، ليس منا من لم يغن بالقرآن ، وابكوا ، فإن لم تقدروا على البكاء فتباكوا   . 
وقد روى أبو داود  من حديث الليث   وعمرو بن دينار  كلاهما عن  عبد الله بن أبي مليكة  ، عن عبيد الله بن أبي نهيك  ، عن  سعد بن أبي وقاص  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن  . 
ورواه ابن ماجه  من حديث  ابن أبي مليكة  ، عن عبد الرحمن بن السائب  ، عن سعد بن أبي  [ ص: 62 ] وقاص  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن هذا القرآن نزل بحرف ، فإذا قرأتموه فابكوا ، فإن لم تبكوا فتباكوا ، وتغنوا به ، فمن لم يتغن به فليس منا  . 
وقال أحمد   : حدثنا  وكيع  ، حدثنا سعيد بن حسان المخزومي  ، عن  ابن أبي مليكة  ، عن عبد الله بن أبي نهيك  ، عن  سعد بن أبي وقاص  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن  . [ قال  وكيع   : يعني : يستغني به ] . 
ورواه أيضا عن الحجاج  وأبي النضر  ، كلاهما عن الليث بن سعد  ، وعن سفيان بن عيينة  ، عن  عمرو بن دينار  ، كلاهما عن  عبد الله بن أبي مليكة  به . وفي هذا الحديث كلام طويل يتعلق بسنده ليس هذا موضعه ، والله أعلم . 
وقال أبو داود   : حدثنا عبد الأعلى بن حماد  ، حدثنا عبد الجبار بن الورد ،  سمعت  ابن أبي مليكة  ، يقول : قال عبيد الله بن أبي يزيد   : مر بنا أبو لبابة  فاتبعناه حتى دخل بيته فدخلنا عليه ، فإذا رجل رث البيت ، رث الهيئة ، فانتسبنا له ، فقال : تجار كسبة ، فسمعته يقول : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : ليس منا من لم يتغن بالقرآن  . قال : فقلت  لابن أبي مليكة   : يا أبا محمد ، أرأيت إذا لم يكن حسن الصوت قال : يحسنه ما استطاع . تفرد به أبو داود   . 
فقد فهم من هذا أن السلف ، رضي الله عنهم ، إنما فهموا من التغني بالقرآن   : إنما هو تحسين الصوت به ، وتحزينه ، كما قاله الأئمة - رحمهم الله - ويدل على ذلك - أيضا - ما رواه أبو داود  حيث قال : حدثنا  عثمان بن أبي شيبة  ، حدثنا جرير  ، عن الأعمش  ، عن طلحة  ، عن عبد الرحمن بن عوسجة  ، عن  البراء بن عازب  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : زينوا القرآن بأصواتكم  . 
وأخرجه  النسائي   وابن ماجه  من حديث شعبة  ، عن طلحة  وهو ابن مصرف به . 
وأخرجه  النسائي  من طرق أخر عن طلحة  وهذا إسناد جيد . 
وقد وثق  النسائي  ،  وابن حبان  عبد الرحمن بن عوسجة  هذا ، ونقل الأزدي  عن  يحيى بن سعيد القطان  أنه قال : سألت عنه بالمدينة ، فلم أرهم يحمدونه .  [ ص: 63 ] 
وقال  أبو عبيد القاسم بن سلام   : حدثنا يحيى بن سعيد  ، عن شعبة  قال : نهاني أيوب  أن أحدث بهذا الحديث : زينوا القرآن بأصواتكم  . قال أبو عبيد   : وإنما كره أيوب  فيما نرى ، أن يتأول الناس بهذا الحديث الرخصة من رسول الله صلى الله عليه وسلم في الألحان المبتدعة ، فلهذا نهاه أن يحدث به . 
قلت : ثم إن شعبة  روى الحديث متوكلا على الله ، كما روي له ، ولو ترك كل حديث بتأول مبطل لترك من السنة شيء كثير ، بل قد تطرقوا إلى تأويل آيات كثيرة وحملوها على غير محاملها الشرعية المرادة ، والله المستعان ، وعليه التكلان ، ولا حول ولا قوة إلا بالله . 
والمراد من تحسين الصوت بالقرآن   : تطريبه وتحزينه والتخشع به ، كما رواه الحافظ الكبير بقي بن مخلد  ، حيث قال : حدثنا أحمد بن إبراهيم  ، حدثنا يحيى بن سعيد الأموي  ، حدثنا طلحة بن يحيى بن طلحة  ، عن  أبي بردة بن أبي موسى  ، عن أبيه قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : لو رأيتني وأنا أستمع قراءتك البارحة . قلت : أما والله لو علمت أنك تستمع قراءتي لحبرتها لك تحبيرا  . ورواه مسلم  من حديث طلحة  به وزاد : لقد أوتيت مزمارا من مزامير آل داود  . وسيأتي هذا في بابه حيث يذكره  البخاري  ، والغرض أن أبا موسى  قال : لو أعلم أنك تستمع لحبرته لك تحبيرا ، فدل على جواز تعاطي ذلك وتكلفه ، وقد كان أبو موسى  كما قال - عليه السلام - قد أعطي صوتا حسنا كما سنذكره إن شاء الله ، مع خشية تامة ورقة أهل اليمن  الموصوفة ، فدل على أن هذا من الأمور الشرعية . 
قال أبو عبيد   : حدثنا عبد الله بن صالح  ، عن الليث  ، عن يونس  ، عن ابن شهاب  ، عن أبي سلمة  قال : كان عمر  إذا رأى أبا موسى  قال : ذكرنا ربنا يا أبا موسى  ، فيقرأ عنده . 
وقال أبو عبيد   : وحدثنا إسماعيل بن إبراهيم  ، حدثنا سليمان التيمي  ، أنبئت عنه ، حدثنا أبو عثمان النهدي  قال : كان أبو موسى  يصلي بنا ، فلو قلت : إني لم أسمع صوت صنج قط ، ولا بربط قط ، ولا شيئا قط أحسن من صوته . 
وقال ابن ماجه   : حدثنا العباس بن عبد الرحمن الدمشقي  ، حدثنا  الوليد بن مسلم  ، حدثني حنظلة بن أبي سفيان  أنه سمع عبد الرحمن بن سابط الجمحي  يحدث عن عائشة  قالت : أبطأت على رسول الله صلى الله عليه وسلم ليلة بعد العشاء ، ثم جئت فقال : أين كنت ؟ . قلت : كنت أستمع قراءة رجل من أصحابك لم أسمع مثل قراءته وصوته من أحد ، قالت : فقام فقمت معه حتى استمع له ، ثم التفت إلي فقال : هذا سالم مولى أبي حذيفة  ، الحمد لله الذي جعل في أمتي مثل هذا  . إسناد جيد . 
وفي الصحيحين عن جبير بن مطعم  قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقرأ في المغرب بالطور ، فما  [ ص: 64 ] سمعت أحدا أحسن صوتا أو قال : قراءة منه . وفي بعض ألفاظه : فلما سمعته قرأ : ( أم خلقوا من غير شيء أم هم الخالقون   ) [ الطور : 35 ] ، خلت أن فؤادي قد انصدع . وكان جبير  لما سمع هذا بعد مشركا على دين قومه ، وإنما قدم في فداء الأسارى بعد بدر  ، وناهيك بمن تؤثر قراءته في المشرك المصر على الكفر ! وكان هذا سبب هدايته ولهذا كان أحسن القراءة ما كان عن خشوع القلب ، كما قال أبو عبيد   : حدثنا إسماعيل بن إبراهيم  ، عن ليث  ، عن طاوس  قال : أحسن الناس صوتا بالقرآن أخشاهم لله . 
حدثنا قبيصة  ، عن سفيان  ، عن  ابن جريج  ، عن ابن طاوس  ، عن أبيه ، وعن الحسن بن مسلم  ، عن طاوس  قال : سئل رسول الله صلى الله عليه وسلم : أي الناس أحسن صوتا بالقرآن ؟ فقال : الذي إذا سمعته رأيته يخشى الله  . 
وقد روي هذا متصلا من وجه آخر ، فقال ابن ماجه   : حدثنا بشر بن معاذ الضرير  ، حدثنا عبد الله بن جعفر المديني  ، حدثنا إبراهيم بن إسماعيل بن مجمع  ، عن  أبي الزبير  ، عن جابر  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : إن من أحسن الناس صوتا بالقرآن الذي إذا سمعتموه يقرأ حسبتموه يخشى الله ولكن عبد الله بن جعفر هذا - وهو والد علي بن المديني   - وشيخه ضعيفان ، والله أعلم . 
والغرض أن المطلوب شرعا إنما هو التحسين بالصوت الباعث على تدبر القرآن وتفهمه  والخشوع والخضوع والانقياد للطاعة ، فأما الأصوات بالنغمات المحدثة المركبة على الأوزان والأوضاع الملهية والقانون الموسيقائي ، فالقرآن ينزه عن هذا ويجل ويعظم أن يسلك في أدائه هذا المذهب ، وقد جاءت السنة بالزجر عن ذلك ، كما قال  الإمام العلم أبو عبيد القاسم بن سلام  ، رحمه الله : 
حدثنا نعيم بن حماد  ، عن بقية بن الوليد  ، عن حصين بن مالك الفزاري   : سمعت شيخا يكنى أبا محمد  يحدث عن حذيفة بن اليمان  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : اقرءوا القرآن بلحون العرب وأصواتها  ، وإياكم ولحون أهل الفسق وأهل الكتابين ، ويجيء قوم من بعدي يرجعون بالقرآن ترجيع الغناء والرهبانية والنوح ، لا يجاوز حناجرهم ، مفتونة قلوبهم وقلوب الذين يعجبهم شأنهم  . 
حدثنا يزيد  ، عن شريك  ، عن أبي اليقظان عثمان بن عمير  ، عن  زاذان أبي عمر  ، عن عليم  قال : كنا على سطح ومعنا رجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم . قال يزيد : لا أعلمه إلا قال : عابس الغفاري ،  فرأى الناس يخرجون في الطاعون فقال : ما هؤلاء ؟ قالوا : يفرون من الطاعون ، فقال : يا طاعون خذني ، فقالوا : تتمنى الموت وقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : لا يتمنين أحدكم الموت ؟ فقال : إني أبادر خصالا سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يتخوفهن على أمته : بيع الحكم ، والاستخفاف بالدم ، وقطيعة الرحم ، وقوم يتخذون القرآن مزامير يقدمون أحدهم ليس بأفقههم ولا أفضلهم إلا ليغنيهم  [ ص: 65 ]  [ به ] غناء وذكر خصلتين أخريين . 
وحدثنا إبراهيم بن يعقوب  ، عن ليث بن أبي سليم  ، عن عثمان بن عمير  ، عن زاذان  ، عن عابس الغفاري  ، عن النبي صلى الله عليه وسلم مثل ذلك أو نحوه . وحدثنا يعقوب بن إبراهيم  ، عن الأعمش  ، عن رجل ، عن أنس بن مالك   : أنه سمع رجلا يقرأ القرآن بهذه الألحان التي أحدث الناس ، فأنكر ذلك ونهى عنه  . 
هذه طرق حسنة في باب الترهيب ، وهذا يدل على أنه محذور كبير ، وهو قراءة القرآن بالألحان  التي يسلك بها مذاهب الغناء ، وقد نص الأئمة ، رحمهم الله ، على النهي عنه ، فأما إن خرج به إلى التمطيط الفاحش الذي يزيد بسببه حرفا أو ينقص حرفا ، فقد اتفق العلماء على تحريمه ، والله أعلم . 
وقال  الحافظ أبو بكر البزار   : حدثنا محمد بن معمر  ، حدثنا روح  ، حدثنا عبيد الله بن الأخنس  ، عن  ابن أبي مليكة  ، عن ابن عباس  قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : ليس منا من لم يتغن بالقرآن  . 
ثم قال : وإنما ذكرناه لأنهم اختلفوا على  ابن أبي مليكة  فيه ، فرواه ابن عبد الجبار بن الورد  عنه عن أبي لبابة  ، ورواه  عمرو بن دينار   والليث  عنه عن أبي نهيك  عن سعد  ، ورواه عسل بن سفيان  عنه ، عن عائشة  ورواه نافع مولى ابن عمر  عنه ، عن ابن الزبير   . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					