[ ص: 194 ]  ( قال نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون   ( 41 ) فلما جاءت قيل أهكذا عرشك قالت كأنه هو وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين   ( 42 ) وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين   ( 43 ) قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها قال إنه صرح ممرد من قوارير قالت رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين   ( 44 ) ) 
لما جيء سليمان  ، عليه السلام ، بعرش بلقيس  قبل قدومها ، أمر به أن يغير بعض صفاته ، ليختبر معرفتها وثباتها عند رؤيته ، هل تقدم على أنه عرشها أو أنه ليس به ، فقال : ( نكروا لها عرشها ننظر أتهتدي أم تكون من الذين لا يهتدون   ) . 
قال ابن عباس   : نزع عنه فصوصه ومرافقه . 
وقال مجاهد   : أمر به فغير ما كان أحمر جعل أصفر ، وما كان أصفر جعل أحمر : وما كان أخضر جعل أحمر ، غير كل شيء عن حاله . 
وقال عكرمة   : زادوا فيه ونقصوا . 
[ وقال قتادة   : جعل أسفله أعلاه ومقدمه مؤخره ، وزادوا فيه ونقصوا ] . 
( فلما جاءت قيل أهكذا عرشك   ) أي : عرض عليها عرشها ، وقد غير ونكر ، وزيد فيه ونقص منه ، فكان فيها ثبات وعقل ، ولها لب ودهاء وحزم ، فلم تقدم على أنه هو لبعد مسافته عنها ، ولا أنه غيره ، لما رأت من آثاره وصفاته ، وإن غير وبدل ونكر ، فقالت : ( كأنه هو   ) أي : يشبهه ويقاربه . وهذا غاية في الذكاء والحزم . 
وقوله : ( وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين   ) : قال مجاهد   : سليمان  يقوله . 
وقوله : ( وصدها ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين   ) : هذا من تمام كلام سليمان  ، عليه السلام - في قول مجاهد  ،  وسعيد بن جبير  ، رحمهما الله - أي : قال سليمان   : ( وأوتينا العلم من قبلها وكنا مسلمين   ) ، وهي كانت قد صدها ، أي : منعها من عبادة الله وحده . ( ما كانت تعبد من دون الله إنها كانت من قوم كافرين   ) . وهذا الذي قاله مجاهد  وسعيد  حسن ، وقاله ابن جرير  أيضا . 
ثم قال ابن جرير   : ويحتمل أن يكون في قوله : ( وصدها   ) ضمير يعود إلى سليمان  ، أو إلى الله ، عز وجل ، تقديره : ومنعها ( ما كانت تعبد من دون الله   ) أي : صدها عن عبادة غير الله ( إنها كانت من قوم كافرين   ) . 
قلت : ويؤيد قول مجاهد   : أنها إنما أظهرت الإسلام بعد دخولها إلى الصرح ، كما سيأتي . 
وقوله : ( قيل لها ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها   ) وذلك أن سليمان  ، عليه السلام أمر الشياطين فبنوا لها قصرا عظيما من قوارير ، أي : من زجاج ، وأجرى تحته الماء ، فالذي لا يعرف أمره يحسب أنه ماء ، ولكن الزجاج يحول بين الماشي وبينه . واختلفوا في السبب الذي دعا  [ ص: 195 ] سليمان  ، عليه السلام ، إلى اتخاذه ، فقيل : إنه لما عزم على تزويجها واصطفائها لنفسه ; ذكر له جمالها وحسنها ، ولكن في ساقيها هلب عظيم ، ومؤخر أقدامها كمؤخر الدابة . فساءه ذلك ، فاتخذ هذا ليعلم صحته أم لا ؟ - هذا قول  محمد بن كعب القرظي ،  وغيره - فلما دخلت وكشفت عن ساقيها ، رأى أحسن الناس وأحسنه قدما ، ولكن رأى على رجليها شعرا ; لأنها ملكة ليس لها بعل فأحب أن يذهب ذلك عنها فقيل لها : الموسى ؟ فقالت : لا أستطيع ذلك . وكره سليمان  ذلك ، وقال للجن : اصنعوا شيئا غير الموسى يذهب به هذا الشعر ، فصنعوا له النورة . وكان أول من اتخذت له النورة ، قاله ابن عباس  ، ومجاهد  ، وعكرمة  ،  ومحمد بن كعب القرظي  ،  والسدي  ،  وابن جريج ،  وغيرهم . 
وقال محمد بن إسحاق  ، عن يزيد بن رومان   : ثم قال لها : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها . فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، فقيل لها : إنه صرح ممرد من قوارير . فلما وقفت على سليمان  ، دعاها إلى عبادة الله وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله . 
وقال  الحسن البصري   : لما رأت العلجة الصرح عرفت - والله - أن قد رأت ملكا أعظم من ملكها . 
وقال محمد بن إسحاق  ، عن بعض أهل العلم ، عن  وهب بن منبه  قال : أمر سليمان  بالصرح ، وقد عملته له الشياطين من زجاج ، كأنه الماء بياضا . ثم أرسل الماء تحته ، ثم وضع له فيه سريره ، فجلس عليه ، وعكفت عليه الطير والجن والإنس ، ثم قال : ادخلي الصرح ، ليريها ملكا هو أعز من ملكها ، وسلطانا هو أعظم من سلطانها ( فلما رأته حسبته لجة وكشفت عن ساقيها   ) ، لا تشك أنه ماء تخوضه ، قيل لها : ( إنه صرح ممرد من قوارير   ) ، فلما وقفت على سليمان  ، دعاها إلى عبادة الله ، عز وجل ، وعاتبها في عبادتها الشمس من دون الله . فقالت بقول الزنادقة ، فوقع سليمان  ساجدا إعظاما لما قالت ، وسجد معه الناس ، فسقط في يديها حين رأت سليمان  صنع ما صنع ، فلما رفع سليمان  رأسه قال : ويحك ! ماذا قلت ؟ - قال : وأنسيت ما قالت فقالت : ( رب إني ظلمت نفسي وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين   ) ، فأسلمت وحسن إسلامها . 
وقد روى  الإمام أبو بكر بن أبي شيبة  في هذا أثرا غريبا عن ابن عباس  ، قال : حدثنا الحسين بن علي  ، عن زائدة  ، حدثني عطاء بن السائب  ، حدثنا مجاهد ،  ونحن في الأزد   - قال : حدثنا ابن عباس  قال : كان سليمان  ، عليه السلام ، يجلس على سريره ، ثم توضع كراسي حوله ، فيجلس عليها الإنس ، ثم يجلس الجن ، ثم الشياطين ، ثم تأتي الريح فترفعهم ، ثم تظلهم الطير ، ثم  [ ص: 196 ] يغدون قدر ما يشتهي الراكب أن ينزل شهرا ورواحها شهرا ، قال : فبينما هو ذات يوم في مسير له ، إذ تفقد الطير ففقد الهدهد فقال : ( ما لي لا أرى الهدهد أم كان من الغائبين  لأعذبنه عذابا شديدا أو لأذبحنه أو ليأتيني بسلطان مبين   ) ، قال : فكان عذابه إياه أن ينتفه ، ثم يلقيه في الأرض ، فلا يمتنع من نملة ولا من شيء من هوام الأرض  . 
قال عطاء   : وذكر سعيد بن جبير  عن ابن عباس  مثل حديث مجاهد   ( فمكث غير بعيد   ) - فقرأ حتى انتهى إلى قوله - ( قال سننظر أصدقت أم كنت من الكاذبين اذهب بكتابي هذا   ) وكتب ( بسم الله الرحمن الرحيم   ) ، إلى بلقيس   : ( ألا تعلوا علي وأتوني مسلمين   ) ، فلما ألقى الهدهد بالكتاب إليها ، ألقي في روعها : إنه كتاب كريم ، وإنه من سليمان  ، وأن لا تعلوا علي وأتوني مسلمين . قالوا : نحن أولو قوة . قالت : إن الملوك إذا دخلوا قرية أفسدوها ، وإني مرسلة إليهم بهدية . فلما جاءت الهدية سليمان  قال : أتمدونني بمال ، ارجع إليهم . فلما نظر إلى الغبار - أخبرنا ابن عباس  قال : وكان بين سليمان  وبين ملكة سبأ  ومن معها حين نظر إلى الغبار كما بيننا وبين الحيرة  ، قال عطاء   : ومجاهد  حينئذ في الأزد   - قال سليمان   : أيكم يأتيني بعرشها ؟ قال : وبين عرشها وبين سليمان  حين نظر إلى الغبار مسيرة شهرين ، ( قال عفريت من الجن أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك   ) . قال : وكان لسليمان  مجلس يجلس فيه للناس ، كما يجلس الأمراء ثم يقوم - قال : ( أنا آتيك به قبل أن تقوم من مقامك   ) . قال سليمان   : أريد أعجل من ذلك . فقال الذي عنده علم من الكتاب : أنا أنظر في كتاب ربي ، ثم آتيك به قبل أن يرتد إليك طرفك . قال : [ فنظر إليه سليمان  فلما قطع كلامه رد سليمان  بصره ] ، فنبع عرشها من تحت قدم سليمان  ، من تحت كرسي كان سليمان  يضع عليه رجله ، ثم يصعد إلى السرير . قال : فلما رأى سليمان  عرشها [ مستقرا عنده ] قال : ( هذا من فضل ربي   ) ، ( قال نكروا لها عرشها   ) ، فلما جاءت قيل لها : أهكذا عرشك ؟ قالت : كأنه هو . قال : فسألته عن أمرين ، قالت لسليمان   : أريد ماء [ من زبد رواء ] ليس من أرض ولا من سماء - وكان سليمان  إذا سئل عن شيء ، سأل الإنس ثم الجن ثم الشياطين . [ قال ] فقالت الشياطين : هذا هين ، أجر الخيل ثم خذ عرقها ، ثم املأ منه الآنية . قال : فأمر بالخيل فأجريت ، ثم أخذ عرقها فملأ منه الآنية . قال : وسألت عن لون الله عز وجل . قال : فوثب سليمان  عن سريره ، فخر ساجدا ، فقال : يا رب ، لقد سألتني عن أمر إنه يتكايد ، أي : يتعاظم في قلبي أن أذكره لك . قال : ارجع فقد كفيتكهم ، قال : فرجع إلى سريره فقال : ما سألت عنه ؟ قالت : ما سألتك إلا عن الماء . فقال لجنوده : ما سألت عنه ؟ فقالوا : ما سألتك إلا عن الماء . قال : ونسوه كلهم . قال : وقالت الشياطين لسليمان   : تريد أن تتخذها لنفسك ، فإن اتخذها لنفسه ثم ولد بينهما ولد ، لم ننفك من عبوديته . قال : فجعلوا صرحا ممردا من قوارير ، فيه السمك . قال : فقيل لها :  [ ص: 197 ] ادخلي الصرح فلما رأته حسبته لجة ، وكشفت عن ساقيها ، فإذا هي شعراء . فقال سليمان   : هذا قبيح ، ما يذهبه ؟ فقالوا : تذهبه المواسي . فقال : أثر الموسى قبيح ! قال : فجعلت الشياطين النورة . قال : فهو أول من جعلت له النورة . 
ثم قال أبو بكر بن أبي شيبة   : ما أحسنه من حديث . 
قلت : بل هو منكر غريب جدا ، ولعله من أوهام عطاء بن السائب  على ابن عباس ،  والله أعلم . والأقرب في مثل هذه السياقات أنها متلقاة عن أهل الكتاب ، مما يوجد في صحفهم ، كروايات كعب  ووهب   - سامحهما الله تعالى - فيما نقلاه إلى هذه الأمة من أخبار بني إسرائيل  ، من الأوابد والغرائب والعجائب ، مما كان وما لم يكن ، ومما حرف وبدل ونسخ . وقد أغنانا الله ، سبحانه ، عن ذلك بما هو أصح منه وأنفع وأوضح وأبلغ ، ولله الحمد والمنة . 
أصل الصرح في كلام العرب : هو القصر ، وكل بناء مرتفع ، قال الله ، سبحانه وتعالى ، إخبارا عن فرعون   - لعنه الله - أنه قال لوزيره هامان   ( ابن لي صرحا لعلي أبلغ الأسباب أسباب السماوات فأطلع إلى إله موسى   ) الآية [ غافر : 36 ، 37 ] . والصرح : قصر في اليمن عالي البناء ، والممرد أي : المبني بناء محكما أملس ( من قوارير   ) أي : زجاج . وتمريد البناء تمليسه . ومارد : حصن بدومة الجندل . 
والغرض أن سليمان  ، عليه السلام ، اتخذ قصرا عظيما منيفا من زجاج لهذه الملكة ; ليريها عظمة سلطانه وتمكنه ، فلما رأت ما آتاه الله ، تعالى ، وجلالة ما هو فيه ، وتبصرت في أمره انقادت لأمر الله وعرفت أنه نبي كريم ، وملك عظيم ، فأسلمت لله ، عز وجل ، وقالت : ( رب إني ظلمت نفسي   ) أي : بما سلف من كفرها وشركها وعبادتها وقومها الشمس من دون الله ، ( وأسلمت مع سليمان لله رب العالمين   ) أي : متابعة لدين سليمان  في عبادته لله وحده ، لا شريك له ، الذي خلق كل شيء فقدره تقديرا . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					