( فإنك لا تسمع الموتى ولا تسمع الصم الدعاء إذا ولوا مدبرين    ( 52 ) وما أنت بهادي العمي عن ضلالتهم إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون   ( 53 ) ) . 
يقول تعالى : كما أنك ليس في قدرتك أن تسمع الأموات في أجداثها ، ولا تبلغ كلامك الصم الذين لا يسمعون ، وهم مع ذلك مدبرون عنك ، كذلك لا تقدر على هداية العميان عن الحق ، وردهم عن ضلالتهم ، بل ذلك إلى الله تعالى ، فإنه بقدرته يسمع الأموات أصوات الأحياء إذا شاء ، ويهدي من يشاء ، ويضل من يشاء ، وليس ذلك لأحد سواه; ولهذا قال : ( إن تسمع إلا من يؤمن بآياتنا فهم مسلمون   ) أي : خاضعون مستجيبون مطيعون ، فأولئك هم الذين يستمعون الحق ويتبعونه ، وهذا حال المؤمنين ، والأول مثل الكافرين ، كما قال تعالى : ( إنما يستجيب الذين يسمعون والموتى يبعثهم الله ثم إليه يرجعون   ) [ الأنعام : 36 ] . 
وقد استدلت أم المؤمنين عائشة ،  رضي الله عنها ، بهذه الآية : ( إنك لا تسمع الموتى   ) ، على توهيم عبد الله بن عمر  في روايته مخاطبة النبي صلى الله عليه وسلم القتلى الذين ألقوا في قليب بدر ، بعد ثلاثة أيام ، ومعاتبته إياهم وتقريعه لهم ، حتى قال له عمر   : يا رسول الله ، ما تخاطب من قوم قد جيفوا ؟ فقال :  " والذي نفسي بيده ، ما أنتم بأسمع لما أقول منهم ، ولكن لا يجيبون "  . وتأولته عائشة  على أنه قال :  " إنهم الآن ليعلمون أن ما كنت أقول لهم حق "  . 
وقال قتادة   : أحياهم الله له حتى سمعوا مقالته تقريعا وتوبيخا ونقمة . 
 [ ص: 325 ] والصحيح عند العلماء رواية ابن عمر  ، لما لها من الشواهد على صحتها من وجوه كثيرة ، من أشهر ذلك ما رواه  ابن عبد البر  مصححا [ له ] ، عن ابن عباس  مرفوعا :  " ما من أحد يمر بقبر أخيه المسلم ، كان يعرفه في الدنيا ، فيسلم عليه ، إلا رد الله عليه روحه ، حتى يرد عليه السلام "  . 
[ وثبت عنه صلى الله عليه وسلم أن الميت يسمع قرع نعال المشيعين له ، إذا انصرفوا عنه ، وقد شرع النبي صلى الله عليه وسلم لأمته إذا سلموا على أهل القبور أن يسلموا عليهم سلام من يخاطبونه فيقول المسلم : السلام عليكم دار قوم مؤمنين ، وهذا خطاب لمن يسمع ويعقل ، ولولا هذا الخطاب لكانوا بمنزلة خطاب المعدوم والجماد ، والسلف مجمعون على هذا ، وقد تواترت الآثار عنهم بأن الميت يعرف بزيارة الحي له ويستبشر  ، فروى ابن أبي الدنيا  في كتاب القبور عن عائشة ،  رضي الله عنها ، قالت : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم :  " ما من رجل يزور قبر أخيه ويجلس عنده ، إلا استأنس به ورد عليه حتى يقوم "  . 
وروي عن  أبي هريرة  ، رضي الله عنه ، قال : إذا مر رجل بقبر يعرفه فسلم عليه ، رد عليه السلام  . 
وروى ابن أبي الدنيا  بإسناده عن رجل من آل عاصم الجحدري  قال : رأيت عاصما الجحدري  في منامي بعد موته بسنتين ، فقلت : أليس قد مت ؟ قال : بلى ، قلت : فأين أنت ؟ قال : أنا - والله - في روضة من رياض الجنة ، أنا ونفر من أصحابي نجتمع كل ليلة جمعة وصبيحتها إلى  بكر بن عبد الله المزني  ، فنتلقى أخباركم . قال : قلت : أجسامكم أم أرواحكم ؟ قال : هيهات! قد بليت الأجسام ، وإنما تتلاقى الأرواح ، قال : قلت : فهل تعلمون بزيارتنا إياكم ؟ قال : نعلم بها عشية الجمعة ويوم الجمعة كله ويوم السبت إلى طلوع الشمس ، قال : قلت : فكيف ذلك دون الأيام كلها ؟ قال : لفضل يوم الجمعة وعظمته  . 
قال : وحدثنا محمد بن الحسين  ، ثنا بكر بن محمد  ، ثنا حسن القصاب  قال : كنت أغدو مع محمد بن واسع  في كل غداة سبت حتى نأتي أهل الجبان ، فنقف على القبور فنسلم عليهم ، وندعو لهم ثم ننصرف ، فقلت ذات يوم : لو صيرت هذا اليوم يوم الاثنين ؟ قال : بلغني أن الموتى يعلمون بزوارهم يوم الجمعة ويوما قبلها ويوما بعدها . قال : ثنا محمد ،  ثنا عبد العزيز بن أبان  قال : ثنا  سفيان الثوري  قال : بلغني عن الضحاك  أنه قال : من زار قبرا يوم السبت قبل طلوع الشمس  علم الميت بزيارته ، فقيل له : وكيف ذلك ؟ قال : لمكان يوم الجمعة . 
حدثنا خالد بن خداش  ، ثنا جعفر بن سليمان  ، عن أبي التياح  يقول : كان مطرف  يغدو ، فإذا كان يوم الجمعة أدلج . قال : وسمعت أبا التياح  يقول : بلغنا أنه كان ينزل بغوطة ، فأقبل ليلة حتى إذا كان عند المقابر يقوم وهو على فرسه ، فرأى أهل القبور كل صاحب قبر جالسا على قبره ، فقالوا : هذا مطرف  يأتي الجمعة ويصلون عندكم يوم الجمعة ؟ قالوا : نعم ، ونعلم ما يقول فيه الطير . قلت : وما يقولون ؟ قال : يقولون سلام عليكم; حدثني محمد بن الحسن  ، ثنا يحيى بن أبي بكر  ،  [ ص: 326 ] ثنا الفضل بن الموفق  ابن خال سفيان بن عيينة  قال : لما مات أبي جزعت عليه جزعا شديدا ، فكنت آتي قبره في كل يوم ، ثم قصرت عن ذلك ما شاء الله ، ثم إني أتيته يوما ، فبينا أنا جالس عند القبر غلبتني عيناي فنمت ، فرأيت كأن قبر أبي قد انفرج ، وكأنه قاعد في قبره متوشح أكفانه ، عليه سحنة الموتى ، قال : فكأني بكيت لما رأيته . قال : يا بني ، ما أبطأ بك عني ؟ قلت : وإنك لتعلم بمجيئي ؟ قال : ما جئت مرة إلا علمتها ، وقد كنت تأتيني فأسر بك ويسر من حولي بدعائك ، قال : فكنت آتيه بعد ذلك كثيرا . 
حدثني محمد ،  حدثنا يحيى بن بسطام  ، ثنا عثمان بن سويد الطفاوي  قال : وكانت أمه من العابدات ، وكان يقال لها : راهبة ، قال : لما احتضرت رفعت رأسها إلى السماء فقالت : يا ذخري وذخيرتي من عليه اعتمادي في حياتي وبعد موتي ، لا تخذلني عند الموت ولا توحشني . قال : فماتت . فكنت آتيها في كل جمعة فأدعو لها وأستغفر لها ولأهل القبور ، فرأيتها ذات يوم في منامي ، فقلت لها : يا أمي ، كيف أنت ؟ قالت : أي بني ، إن للموت لكربة شديدة ، وإني بحمد الله لفي برزخ محمود يفرش فيه الريحان ، ونتوسد السندس والإستبرق إلى يوم النشور ، فقلت لها : ألك حاجة ؟ قالت : نعم ، قلت : وما هي ؟ قالت : لا تدع ما كنت تصنع من زياراتنا والدعاء لنا ، فإني لأبشر بمجيئك يوم الجمعة إذا أقبلت من أهلك ، يقال لي : يا راهبة ، هذا ابنك ، قد أقبل ، فأسر ويسر بذلك من حولي من الأموات . 
حدثني محمد ،  حدثنا محمد بن عبد العزيز بن سليمان  ، حدثنا بشر بن منصور  قال : لما كان زمن الطاعون كان رجل يختلف إلى الجبان ، فيشهد الصلاة على الجنائز ، فإذا أمسى وقف على المقابر فقال : آنس الله وحشتكم ، ورحم غربتكم ، وتجاوز عن مسيئكم ، وقبل حسناتكم ، لا يزيد على هؤلاء الكلمات ، قال : فأمسيت ذات ليلة وانصرفت إلى أهلي ولم آت المقابر فأدعو كما كنت أدعو ، قال : فبينا أنا نائم إذا بخلق قد جاءوني ، فقلت : ما أنتم وما حاجتكم ؟ قالوا : نحن أهل المقابر ، قلت : ما حاجتكم ؟ قالوا : إنك عودتنا منك هدية عند انصرافك إلى أهلك ، قلت : وما هي ؟ قالوا : الدعوات التي كنت تدعو بها ، قال : قلت فإني أعود لذلك ، قال : فما تركتها بعد  . 
وأبلغ من ذلك أن الميت يعلم بعمل الحي  من أقاربه وإخوانه . قال  عبد الله بن المبارك   : حدثني  ثور بن يزيد  ، عن إبراهيم  ، عن أيوب  قال : تعرض أعمال الأحياء على الموتى ، فإذا رأوا حسنا فرحوا واستبشروا وإن رأوا سوءا قالوا : اللهم راجع به . 
وذكر ابن أبي الدنيا  عن أحمد بن أبي الحوارى  قال : ثنا محمد  أخي قال : دخل عباد بن عباد  على إبراهيم بن صالح  وهو على فلسطين  فقال : عظني ، قال : بم أعظك ، أصلحك الله ؟ بلغني أن أعمال الأحياء تعرض على أقاربهم من الموتى ، فانظر ما يعرض على رسول الله صلى الله عليه وسلم من عملك ، فبكى إبراهيم  حتى أخضل لحيته . قال ابن أبي الدنيا   : وحدثني محمد بن الحسين  ، ثنا خالد بن عمرو الأموي  ، ثنا صدقة بن سليمان الجعفري  قال : كانت لي شرة سمجة ، فمات أبي فتبت وندمت على ما فرطت ، ثم زللت أيما زلة ، فرأيت أبي في المنام ، فقال : أي بني ، ما كان أشد فرحي بك  [ ص: 327 ] وأعمالك تعرض علينا ، فنشبهها بأعمال الصالحين ، فلما كانت هذه المرة استحييت لذلك حياء شديدا ، فلا تخزني فيمن حولي من الأموات ، قال : فكنت أسمعه بعد ذلك يقول في دعائه في السحر ، وكان جارا لي بالكوفة   : أسألك إيابة لا رجعة فيها ولا حور ، يا مصلح الصالحين ، ويا هادي المضلين ، ويا أرحم الراحمين . 
وهذا باب فيه آثار كثيرة عن الصحابة . وكان بعض الأنصار  من أقارب عبد الله بن رواحة  يقول : اللهم إني أعوذ بك من عمل أخزى به عند عبد الله بن رواحة  ، كان يقول ذلك بعد أن استشهد عبد الله   . 
وقد شرع السلام على الموتى  ، والسلام على من لم يشعر ولا يعلم بالمسلم محال ، وقد علم النبي صلى الله عليه وسلم أمته إذا رأوا القبور أن يقولوا :  " سلام عليكم أهل الديار من المؤمنين ، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون ، يرحم الله المستقدمين منا ومنكم والمستأخرين ، نسأل الله لنا ولكم العافية " ، فهذا السلام والخطاب والنداء لموجود يسمع ويخاطب ويعقل ويرد ، وإن لم يسمع المسلم الرد ، والله أعلم ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					