( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم وما جعل أدعياءكم أبناءكم ذلكم قولكم بأفواهكم والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ( 4 ) ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ( 5 ) ) .
يقول تعالى موطئا قبل المقصود المعنوي أمرا حسيا معروفا ، وهو أنه كما لا يكون للشخص الواحد قلبان في جوفه ، ولا تصير زوجته التي يظاهر منها بقوله : أنت علي كظهر أمي - أما له ، كذلك لا يصير الدعي ولدا للرجل إذا تبناه فدعاه ابنا له ، فقال : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه وما جعل أزواجكم اللائي تظاهرون منهن أمهاتكم ) ، كقوله : ( ما هن أمهاتهم إن أمهاتهم إلا اللائي ولدنهم وإنهم ليقولون منكرا من القول وزورا ) . [ المجادلة : 3 ] .
وقوله : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) : هذا هو المقصود بالنفي; فإنها نزلت في شأن مولى النبي صلى الله عليه وسلم ، كان النبي صلى الله عليه وسلم قد تبناه قبل النبوة ، وكان يقال له : زيد بن حارثة " زيد بن محمد " فأراد الله تعالى أن يقطع هذا الإلحاق وهذه النسبة بقوله : ( وما جعل أدعياءكم أبناءكم ) كما قال في أثناء السورة : ( ما كان محمد أبا أحد من رجالكم ولكن رسول الله وخاتم النبيين وكان الله بكل شيء عليما ) [ الأحزاب : 40 ] وقال هاهنا : ( ذلكم قولكم بأفواهكم ) يعني : تبنيكم لهم قول لا يقتضي أن يكون ابنا حقيقيا ، فإنه مخلوق من صلب رجل آخر ، فما يمكن أن يكون له أبوان ، كما لا يمكن أن يكون للبشر الواحد قلبان .
( والله يقول الحق وهو يهدي السبيل ) : قال سعيد بن جبير ( يقول الحق ) أي : العدل . وقال قتادة : ( وهو يهدي السبيل ) أي : الصراط المستقيم .
وقد ذكر غير واحد : أن هذه الآية نزلت في رجل من قريش ، كان يقال له : " ذو القلبين " ، وأنه كان يزعم أن له قلبين ، كل منهما بعقل وافر . فأنزل الله هذه الآية ردا عليه . هكذا روى العوفي عن ابن عباس . قاله مجاهد ، وعكرمة ، والحسن ، وقتادة ، واختاره ابن جرير .
وقال : حدثنا الإمام أحمد حسن ، حدثنا زهير ، عن قابوس - يعني ابن أبي ظبيان - أن أباه حدثه قال : قلت : أرأيت قول الله تعالى : ( لابن عباس ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) ، ما عنى بذلك ؟ قال : قام رسول الله صلى الله عليه وسلم يوما يصلي ، فخطر خطرة ، فقال المنافقون الذين يصلون معه : ألا ترون له قلبين ، قلبا معكم وقلبا معهم ؟ فأنزل الله ، عز وجل : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) .
[ ص: 377 ] وهكذا رواه الترمذي عن ، عن عبد الله بن عبد الرحمن الدارمي صاعد الحراني - وعن عبد بن حميد ، عن - كلاهما عن أحمد بن يونس ، به . ثم قال : وهذا حديث حسن . وكذا رواه زهير ، وهو ابن معاوية ابن جرير ، من حديث وابن أبي حاتم زهير ، به .
وقال عبد الرزاق : أخبرنا معمر ، عن الزهري ، في قوله : ( ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه ) قال : بلغنا أن ذلك كان في ، ضرب له مثل ، يقول : ليس ابن رجل آخر ابنك . زيد بن حارثة
وكذا قال مجاهد ، وقتادة ، وابن زيد : أنها نزلت في . وهذا يوافق ما قدمناه من التفسير ، والله أعلم . زيد بن حارثة
وقوله : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) : هذا أمر ناسخ لما كان في ابتداء الإسلام من جواز ، وهم الأدعياء ، فأمر [ الله ] تعالى برد نسبهم إلى آبائهم في الحقيقة ، وأن هذا هو العدل والقسط . ادعاء الأبناء الأجانب
قال رحمه الله : حدثنا البخاري ، معلى بن أسد ، حدثنا عبد العزيز بن المختار ، حدثنا قال : حدثني موسى بن عقبة سالم عن عبد الله بن عمر ; أن مولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ما كنا ندعوه إلا زيد بن حارثة زيد بن محمد ، حتى نزل القرآن : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله ) . وأخرجه مسلم والترمذي من طرق ، عن والنسائي ، به . موسى بن عقبة
وقد كانوا يعاملونهم معاملة الأبناء من كل وجه ، في وغير ذلك; ولهذا قالت الخلوة بالمحارم سهلة بنت سهيل امرأة أبي حذيفة : يا رسول الله ، كنا ندعو سالما ابنا ، وإن الله قد أنزل ما أنزل ، وإنه كان يدخل علي ، وإني أجد في نفس أبي حذيفة من ذلك شيئا ، فقال صلى الله عليه وسلم : الحديث . " أرضعيه تحرمي عليه "
ولهذا لما نسخ هذا الحكم ، أباح تعالى زوجة الدعي ، وتزوج رسول الله صلى الله عليه وسلم بزينب بنت جحش زوجة ، وقال : ( زيد بن حارثة لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرا ) [ الأحزاب : 37 ] ، وقال في آية التحريم : ( وحلائل أبنائكم الذين من أصلابكم ) [ النساء : 23 ] ، احترازا عن زوجة الدعي ، فإنه ليس من الصلب ، فأما الابن من الرضاعة ، فمنزل منزلة ابن الصلب شرعا ، بقوله عليه السلام في الصحيحين : . فأما دعوة الغير ابنا على سبيل التكريم والتحبيب ، فليس مما نهي عنه في هذه الآية ، بدليل ما رواه " حرموا من الرضاعة ما يحرم من النسب " وأهل السنن إلا الإمام أحمد الترمذي ، من حديث ، عن سفيان الثوري سلمة بن كهيل ، [ ص: 378 ] عن الحسن العرني ، عن ابن عباس ، رضي الله عنهما ، قال : قدمنا على رسول الله صلى الله عليه وسلم أغيلمة بني عبد المطلب على حمرات لنا من جمع ، فجعل يلطخ أفخاذنا ويقول : . قال " أبيني لا ترموا الجمرة حتى تطلع الشمس " أبو عبيد وغيره : " أبيني " تصغير بني . وهذا ظاهر الدلالة ، فإن هذا كان في حجة الوداع سنة عشر ، وقوله : ( ادعوهم لآبائهم ) في شأن ، وقد قتل في يوم مؤتة سنة ثمان ، وأيضا ففي صحيح زيد بن حارثة مسلم ، من حديث ، عن أبي عوانة الوضاح بن عبد الله اليشكري الجعد أبي عثمان البصري ، أنس بن مالك ، رضي الله عنه ، قال : قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم : " يا بني " . ورواه عن أبو داود . والترمذي
وقوله : ( فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) : أمر [ الله ] تعالى برد أنساب الأدعياء إلى آبائهم ، إن عرفوا ، فإن لم يعرفوا آباءهم ، فهم إخوانهم في الدين ومواليهم ، أي : عوضا عما فاتهم من النسب . ولهذا قال رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم خرج من مكة عام عمرة القضاء ، وتبعتهم ابنة حمزة تنادي : يا عم ، يا عم . فأخذها علي وقال لفاطمة : دونك ابنة عمك فاحتمليها . فاختصم فيها علي ، وزيد ، وجعفر في أيهم يكفلها ، فكل أدلى بحجة ; فقال علي : أنا أحق بها وهي ابنة عمي - وقال زيد : ابنة أخي . وقال جعفر بن أبي طالب : ابنة عمي ، وخالتها تحتي - يعني أسماء بنت عميس . فقضى النبي صلى الله عليه وسلم لخالتها ، وقال : " الخالة بمنزلة الأم " . وقال لعلي : " أنت مني ، وأنا منك " . وقال لجعفر : " أشبهت خلقي وخلقي " . وقال لزيد : " أنت أخونا ومولانا " .
ففي هذا الحديث أحكام كثيرة من أحسنها : أنه ، عليه الصلاة والسلام حكم بالحق ، وأرضى كلا من المتنازعين ، وقال لزيد : ، كما قال تعالى : ( " أنت أخونا ومولانا " فإخوانكم في الدين ومواليكم ) .
وقال ابن جرير : حدثني يعقوب بن إبراهيم ، حدثنا ، عن ابن علية عيينة بن عبد الرحمن ، عن أبيه قال : قال أبو بكرة : قال الله ، عز وجل : ( ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) ، فأنا ممن لا يعرف أبوه ، وأنا من إخوانكم في الدين . قال أبي : والله إني لأظنه لو علم أن أباه كان حمارا لانتمى إليه .
[ ص: 379 ] وقد جاء في الحديث : . وهذا تشديد وتهديد ووعيد أكيد ، في " من ادعى لغير أبيه ، وهو يعلمه ، كفر ; ولهذا قال : ( التبري من النسب المعلوم ادعوهم لآبائهم هو أقسط عند الله فإن لم تعلموا آباءهم فإخوانكم في الدين ومواليكم ) .
ثم قال : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ) أي : إذا نسبتم بعضهم إلى غير أبيه في الحقيقة خطأ ، بعد الاجتهاد واستفراغ الوسع; فإن الله قد وضع الحرج في الخطأ ورفع إثمه ، كما أرشد إليه في قوله آمرا عباده أن يقولوا : ( ربنا لا تؤاخذنا إن نسينا أو أخطأنا ) [ البقرة : 286 ] . وثبت في صحيح مسلم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : . وفي صحيح " قال الله : قد فعلت " عن البخاري ، عمرو بن العاص قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : . وفي الحديث الآخر : " إذا اجتهد الحاكم فأصاب ، فله أجران ، وإن اجتهد فأخطأ ، فله أجر " . " إن الله رفع عن أمتي الخطأ والنسيان ، وما يكرهون عليه "
وقال هاهنا : ( وليس عليكم جناح فيما أخطأتم به ولكن ما تعمدت قلوبكم وكان الله غفورا رحيما ) أي : وإنما الإثم على من تعمد الباطل كما قال تعالى : ( لا يؤاخذكم الله باللغو في أيمانكم ولكن يؤاخذكم بما كسبت قلوبكم ) . وفي الحديث المتقدم : . وفي القرآن المنسوخ : " من ادعى إلى غير أبيه ، وهو يعلمه ، إلا كفر " . " فإن كفرا بكم أن ترغبوا عن آبائكم "
قال : حدثنا الإمام أحمد عبد الرزاق ، أخبرنا معمر ، عن الزهري ، عن ، عن عبيد الله بن عبد الله بن عتبة بن مسعود ابن عباس ، عن عمر أنه قال : بعث الله محمدا صلى الله عليه وسلم بالحق ، وأنزل معه الكتاب ، فكان فيما أنزل عليه آية الرجم ، فرجم رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ورجمنا بعده . ثم قال : قد كنا نقرأ : " ولا ترغبوا عن آبائكم [ فإنه كفر بكم - أو : إن كفرا بكم - أن ترغبوا عن آبائكم ] ، وإن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال : عيسى بن مريم ، فإنما أنا عبد ، فقولوا : عبده ورسوله " . وربما قال " لا تطروني [ كما أطري ] معمر : النصارى ابن مريم " . " كما أطرت
ورواه في الحديث الآخر : " ثلاث في الناس كفر : الطعن في النسب ، والنياحة على الميت ، والاستسقاء بالنجوم " .