[ ص: 519 ] القول في ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) تأويل قوله تعالى : (
قال أبو جعفر : قد دللنا فيما مضى قبل على أن تأويل الظلم : وضع الشيء في غير موضعه . وتأويل قوله : ( ومن أظلم ) : وأي امرئ أشد تعديا وجراءة على الله وخلافا لأمره ، من امرئ منع مساجد الله أن يعبد الله فيها؟
و"المساجد" جمع مسجد : وهو كل موضع عبد الله فيه . وقد بينا معنى السجود فيما مضى ، فمعنى "المسجد" : الموضع الذي يسجد لله فيه ، كما يقال للموضع الذي يجلس فيه : "المجلس" ، وللموضع الذي ينزل فيه : "منزل" ، ثم يجمع : "منازل ومجالس" نظير مسجد ومساجد . وقد حكي سماعا من بعض العرب : "مساجد" في واحد المساجد ، وذلك كالخطأ من قائله .
وأما قوله : ( أن يذكر فيها اسمه ) ، فإن فيه وجهين من التأويل : أحدهما : أن يكون معناه : ومن أظلم ممن منع مساجد الله من أن يذكر فيها اسمه ، فتكون "أن" حينئذ نصبا من قول بعض أهل العربية بفقد الخافض ، وتعلق الفعل بها .
والوجه الآخر : أن يكون معناه : ومن أظلم ممن منع أن يذكر اسم الله في مساجده ، فتكون "أن" حينئذ في موضع نصب ، تكريرا على موضع المساجد وردا عليه .
وأما قوله : ( وسعى في خرابها ) ، فإن معناه : ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن [ ص: 520 ] يذكر فيها اسمه ، وممن سعى في خراب مساجد الله ، ف "سعى" إذا عطف على "منع" .
فإن قال قائل : ومن الذي عني بقوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ؟ وأي المساجد هي؟
قيل : إن أهل التأويل في ذلك مختلفون ، فقال بعضهم : الذين منعوا مساجد الله أن يذكر فيها اسمه هم النصارى ، والمسجد بيت المقدس .
ذكر من قال ذلك :
1820 - حدثني محمد بن سعد قال : حدثني أبي قال : حدثني عمي قال : حدثني أبي ، عن أبيه ، عن ابن عباس قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أنهم النصارى .
1821 - حدثني محمد بن عمرو قال : حدثنا أبو عاصم قال : حدثنا عيسى ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد في قول الله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى ، ويمنعون الناس أن يصلوا فيه .
1822 - حدثني المثنى قال : حدثنا أبو حذيفة قال : حدثنا شبل ، عن ابن أبي نجيح ، عن مجاهد ، مثله .
وقال آخرون : هو بختنصر وجنده ومن أعانهم من النصارى ، والمسجد : مسجد بيت المقدس .
ذكر من قال ذلك : -
1823 - حدثنا بشر بن معاذ قال : حدثنا ، عن يزيد بن زريع سعيد ، عن قتادة قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، الآية ، أولئك أعداء الله النصارى ، حملهم بغض اليهود على أن أعانوا بختنصر البابلي المجوسي على تخريب بيت المقدس .
1824 - حدثنا الحسن بن يحيى قال : أخبرنا عبد الرزاق قال : أخبرنا [ ص: 521 ] معمر ، عن قتادة في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : هو بختنصر وأصحابه ، خرب بيت المقدس ، وأعانه على ذلك النصارى .
1825 - حدثني موسى قال : حدثنا عمرو قال : حدثنا أسباط ، عن : ( السدي ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : الروم ، كانوا ظاهروا بختنصر على خراب بيت المقدس ، حتى خربه ، وأمر به أن تطرح فيه الجيف ، وإنما أعانه الروم على خرابه ، من أجل أن بني إسرائيل قتلوا يحيى بن زكريا .
وقال آخرون : بلى عنى الله - عز وجل - بهذه الآية مشركي قريش ، إذ منعوا رسول الله صلى الله عليه وسلم من المسجد الحرام .
ذكر من قال ذلك :
1826 - حدثني ، قال ، حدثنا يونس بن عبد الأعلى ابن وهب قال : قال ابن زيد في قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه وسعى في خرابها ) ، قال : هؤلاء المشركون ، حين حالوا بين رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم الحديبية وبين أن يدخل مكة حتى نحر هديه بذي طوى وهادنهم ، وقال لهم : "ما كان أحد يرد عن هذا البيت ، وقد كان الرجل يلقى قاتل أبيه أو أخيه فيه فما يصده ، وقالوا : لا يدخل علينا من قتل آباءنا يوم بدر وفينا باق!
وفي قوله : ( وسعى في خرابها ) قال : إذ قطعوا من يعمرها بذكره ، ويأتيها للحج والعمرة .
قال أبو جعفر : وأولى التأويلات التي ذكرتها بتأويل الآية قول من قال : عنى الله - عز وجل - بقوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) النصارى . وذلك أنهم هم الذين سعوا في خراب بيت المقدس ، وأعانوا بختنصر [ ص: 522 ] على ذلك ، ومنعوا مؤمني بني إسرائيل من الصلاة فيه بعد منصرف بختنصر عنهم إلى بلاده .
والدليل على صحة ما قلنا في ذلك ، قيام الحجة بأن لا قول في معنى هذه الآية إلا أحد الأقوال الثلاثة التي ذكرناها ، وأن لا مسجد عنى الله عز وجل بقوله : ( وسعى في خرابها ) ، إلا أحد المسجدين ، إما مسجد بيت المقدس ، وإما المسجد الحرام . وإذ كان ذلك كذلك وكان معلوما أن مشركي قريش لم يسعوا قط في تخريب المسجد الحرام ، وإن كانوا قد منعوا في بعض الأوقات رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه من الصلاة فيه صح وثبت أن الذين وصفهم الله عز وجل بالسعي في خراب مساجده ، غير الذين وصفهم الله بعمارتها؛ إذ كان مشركو قريش بنوا المسجد الحرام في الجاهلية ، وبعمارته كان افتخارهم ، وإن كان بعض أفعالهم فيه ، كان منهم على غير الوجه الذي يرضاه الله منهم .
وأخرى ، أن الآية التي قبل قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، مضت بالخبر عن اليهود والنصارى وذم أفعالهم ، والتي بعدها نبهت بذم النصارى والخبر عن افترائهم على ربهم ، ولم يجر لقريش ولا لمشركي العرب ذكر ، ولا للمسجد الحرام قبلها ، فيوجه الخبر - بقول الله عز وجل : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) - إليهم وإلى المسجد الحرام .
وإذ كان ذلك كذلك ، فالذي هو أولى بالآية أن يوجه تأويلها إليه ، وهو ما كان نظير قصة الآية قبلها والآية بعدها ، إذ كان خبرها لخبرهما نظيرا وشكلا إلا أن تقوم حجة يجب التسليم لها بخلاف ذلك ، وإن اتفقت قصصها فاشتبهت .
فإن ظن ظان أن ما قلنا في ذلك ليس كذلك ، إذ كان المسلمون لم يلزمهم [ ص: 523 ] قط فرض الصلاة في [ المسجد المقدس ، فمنعوا من الصلاة فيه فيلجئون ] توجيه قوله ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) إلى أنه معني به مسجد بيت المقدس - فقد أخطأ فيما ظن من ذلك . وذلك أن الله - جل ذكره - إنما ذكر ظلم من منع من كان فرضه الصلاة في بيت المقدس من مؤمني بني إسرائيل ، [ ص: 524 ] وإياهم قصد بالخبر عنهم بالظلم والسعي في خراب المسجد . وإن كان قد دل بعموم قوله : ( ومن أظلم ممن منع مساجد الله أن يذكر فيها اسمه ) ، أن كل مانع مصليا في مسجد لله ، فرضا كانت صلاته فيه أو تطوعا - ، وكل ساع في إخرابه فهو من المعتدين الظالمين .