لما رجع من دفن أبيه خارج باب الجابية الصغير - وكان ذلك في يوم الخميس ، وقيل : الجمعة . للنصف من شوال من هذه السنة - أعني سنة ست وثمانين - لم يدخل المنزل حتى صعد المنبر - منبر المسجد الأعظم بدمشق - فخطب الناس ، فكان مما قال : إنا لله وإنا إليه راجعون ، والله المستعان على مصيبتنا بموت أمير المؤمنين ، والحمد لله على ما أنعم به علينا من الخلافة ، قوموا فبايعوا ، فكان أول من قام إليه عبد الله بن همام السلولي وهو يقول :
الله أعطاك التي لا فوقها وقد أراد الملحدون عوقها عنك ويأبى الله إلا سوقها
إليك حتى قلدوك طوقها
وذكر الواقدي : أنه حمد الله وأثنى بما هو أهله عليه ، ثم قال : أيها الناس ، إنه لا مقدم لما أخر الله ، ولا مؤخر لما قدم الله ، وقد كان من قضاء الله وسابقته ، وما كتبه على أنبيائه وحملة عرشه وملائكته الموت ، وقد صار إلى منازل الأبرار بما لاقى في هذه الأمة - يعني بالذي يحق لله عليه - من الشدة [ ص: 403 ] على المريب ، واللين لأهل الحق والفضل ، وإقامة ما أقام الله من منار الإسلام ، وإعلائه من حج هذا البيت ، وغزو هذه الثغور ، وشن هذه الغارات على أعداء الله عز وجل ، فلم يكن عاجزا ولا مفرطا ، أيها الناس عليكم بالطاعة ولزوم الجماعة ; فإن الشيطان مع الفرد ، أيها الناس ، من أبدى لنا ذات نفسه ضربنا الذي فيه عيناه ، ومن سكت مات بدائه ، ثم نزل فنظر إلى ما كان من دواب الخلافة ، فحازها وكان جبارا عنيدا .
وقد ورد في تولية الوليد حديث غريب ، وإنما هو كما سيأتي بيانه ، وكما تقدم تقريره في كتاب دلائل النبوة ، في باب الإخبار عن الغيوب المستقبلة ، فيما يتعلق بدولة الوليد بن يزيد بن عبد الملك بني أمية .
وأما هذا فقد كان صينا في نفسه ، حازما في رأيه ، يقال : إنه لا تعرف له صبوة . ومن جملة محاسنه ما صح عنه أنه قال : لولا أن الله قص علينا قصة الوليد بن عبد الملك قوم لوط في كتابه ما ظننت أن ذكرا يأتي ذكرا كما تؤتى النساء . كما سيأتي ذلك في ترجمته عند ذكر وفاته في سنة ست وتسعين ، إن شاء الله تعالى وهو باني جامع دمشق الذي لا يعرف في الآفاق أحسن بناء منه ، وقد شرع في بنائه في ذي القعدة من هذه السنة ، فلم يزل في بنائه وتحسينه مدة خلافته ، وهي عشر سنين فلما أنهاه انتهت أيام خلافته ، كما سيأتي بيان [ ص: 404 ] ذلك مفصلا ، وقد كان موضع هذا المسجد كنيسة يقال لها : كنيسة يوحنا ، فلما فتحت الصحابة دمشق جعلوها مناصفة ، فأخذوا منها الجانب الشرقي فحولوه مسجدا ، وبقي الجانب الغربي كنيسة بحاله من لدن سنة أربع عشرة إلى هذه السنة ، فعزم الوليد على أخذ بقية هذه الكنيسة منهم ، وعوضهم عنها كنيسة مريم لدخولها في جانب السيف ، وقيل : عوضهم عنها كنيسة توما ، وهدم بقية هذه الكنيسة وأضافها إلى مسجد الصحابة ، وجعل الجميع مسجدا واحدا ، على هيئة بديعة لا يعرف كثير من الناس أو أكثرهم لها نظيرا في البنيان والديارات والآثار والعمارات ، والله سبحانه وتعالى أعلم .