[ ص: 504 ] ثم دخلت سنة أربع وتسعين وثلاثمائة  
وفيها ولى بهاء الدولة  الشريف أبا أحمد الحسين بن أحمد بن موسى الموسوي  قضاء القضاة والحج والمظالم ونقابة الطالبيين ، ولقب بالطاهر الأوحد ذي المناقب ، وكان التقليد له بشيراز  ، فلما وصل الكتاب إلى بغداد  لم يأذن له الخليفة القادر  في قضاء القضاة ، فتوقف حاله بسبب ذلك . 
وفيها ملك أبو العباس بن واصل  بلاد البطيحة  ، وأخرج منها مهذب الدولة  فقصده زعيم الجيوش ليأخذها منه ، فهزمه ابن واصل  ونهب أمواله وحواصله ، وكان في جملة ما أصاب في خيمة الخزانة ثلاثون ألف دينار وخمسون ألف درهم . 
وفيها خرج الركب العراقي في جحفل كبير وتجمل كثير ، فاعترضهم الأصيفر أمير الأعراب لينهبهم  ، فبعثوا إليه بشابين قارئين مجيدين كانا معهم - يقال لهما : أبو الحسين بن الرفاء ،  وأبو عبد الله بن الدجاجي  ، وكانا من أحسن الناس قراءة - ليكلماه في شيء يأخذه من الحجيج ، ويطلق سراحهم ;   [ ص: 505 ] ليدركوا الحج ، فلما جلسا بين يديه قرآ جميعا عشرا بأصوات هائلة مطبوعة ، فأدهشه ذلك وأعجبه جدا ، وقال لهما : كيف عيشكما ببغداد  ؟ فقالا : بخير ، لا يزال الناس يكرموننا ويبعثون إلينا بالذهب والدراهم والتحف ، فقال : هل أطلق لكما أحد منهم ألف ألف دينار ؟ فقالا : لا ، ولا ألف دينار في يوم واحد ؟! ، قال : فإني أطلق لكما ألف ألف دينار . فأطلق بسببهما الحجيج ، فلم يعرض لأحد منهم ، وذهب الناس ، وهم سالمون شاكرون لذينك الرجلين المقرئين . ولما وقف الناس بعرفات  قرأ هذان الرجلان قراءة عظيمة على جبل الرحمة  ، فضج الناس من سائر الركوب لقراءتهما ، وقالوا لأهل العراق     : ما كان ينبغي لكم أن تخرجوا معكم بهذين الرجلين في سفرة واحدة ; لاحتمال أن يصابا جميعا ، بل كان ينبغي أن تخرجوا بأحدهما ، فإذا أصيب سلم الآخر . وكانت الحجة والخطبة في هذه السنة أيضا للمصريين كما هي لهم من سنين متقدمة . 
وقد كان أمير العراقيين عزم على العود سريعا إلى بغداد  على طريقهم التي جاءوا منها ، وأن لا يسير إلى المدينة  النبوية ; خوفا من الأعراب ، وكثرة الخفارات ، فشق ذلك على الناس ، فوقف هذان القارئان على جادة الطريق التي منها يعدل إلى المدينة  النبوية ، وقرآ ما كان لأهل المدينة ومن حولهم من الأعراب أن يتخلفوا عن رسول الله ولا يرغبوا بأنفسهم عن نفسه    [ التوبة : 120 ] الآيات . فضج الناس بالبكاء ، وأمالت النوق أعناقها نحوهما ، فمال   [ ص: 506 ] الناس والأمير بأجمعهم ميلة واحدة إلى المدينة  النبوية ، فزاروا وعادوا سالمين إلى بلادهم . ولله الحمد والمنة . 
ولما رجع هذان القارئان رتبهما ولي الأمر مع أبي بكر بن البهلول    - وكان مقرئا مجيدا أيضا - ليصلوا بالناس صلاة التراويح في رمضان ، فكثر الجمع وراءهم لحسن تلاوتهم ، وكانوا يتناوبون في الإمامة . 
وقد قرأ ابن البهلول  يوما في جامع المنصور  قوله تعالى : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله وما نزل من الحق    [ الحديد : 16 ] فنهض إليه رجل صوفي ، وهو يتمايل ، فقال : كيف قلت ؟ فأعاد الآية ، فقال الصوفي : بلى والله ، وسقط ميتا رحمه الله . قال  ابن الجوزي    : وكذلك وقع لأبي الحسن بن الخشاب  شيخ ابن الرفا ،  وكان تلميذا لأبي بكر بن الأدمي  المتقدم ذكره ، وكان جيد القراءة حسن الصوت أيضا ، قرأ ابن الخشاب  ليلة في جامع الرصافة  في الإحياء هذه الآية : ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله  فتواجد رجل صوفي ، وقال : بلى والله قد آن . وجلس وبكى بكاء طويلا ، ثم سكت سكتة ، فحركوه فإذا هو ميت رحمه الله تعالى . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					