استهلت هذه السنة والسلطان مخيم بظاهر حماة ، فسار إلى سنة إحدى وثمانين وخمسمائة حلب وتلقاه أخوه العادل ، واجتمعت إليه العساكر ، فخرج منها في صفر ; لقصد الموصل فقطع الفرات ، وجاء إلى حران فقبض على صاحبها مظفر الدين بن زين الدين ، وهو أخو زين الدين صاحب إربل ، ثم رضي عنه ، وأعاده إلى مملكته حتى يتبين حسن طويته ، ثم سار منها إلى الموصل فتلقاه الملوك من كل ناحية ، وجاء إلى خدمته عماد الدين أبو بكر بن قرا أرسلان صاحب بلاد بكر وآمد ، ثم بلغه موت أخيه نور الدين أرسلان ، فطلب دستورا ; لأخذ مملكته فأعطاه ، وسار السلطان فنزل على الإسماعيليات قريبا من الموصل وجاءه صاحب إربل زين الدين وهو ممن خضع له ملوك تلك الناحية - كما تقدم - وأرسل السلطان ضياء الدين بن كمال الدين الشهرزوري إلى الخليفة يعلمه بما عزم عليه من حصار الموصل وإنما مقصوده ردهم إلى طاعة الإمام ، ونصرة الإسلام ، فحاصرها مدة ، ثم ترحل عنها في آخر ربيع الأول ولم يفتحها ، وسار إلى خلاط واستحوذ على بلدان كثيرة ، وأقاليم جمة ببلاد الجزيرة وديار بكر ، وجرت أمور طويلة قد استقصاها في " الكامل " وصاحب " الروضتين " ، ثم وقع الصلح بينه وبين المواصلة ، على أن يكونوا من جنده إذا ندبهم لقتال الفرنج ، وعلى أن [ ص: 570 ] يخطب له ، وتضرب السكة باسمه ، ففعل ذلك في تلك البلاد كلها ، وانقطعت خطبة ابن الأثير السلاجقة والأزيقية بتلك البلاد كلها ، واتفق الحال وزال الإشكال .
واتفق أنه مرض بعد هذا مرضا شديدا ، وهو يتجلد ولا يظهر شيئا من التألم حتى قوي عليه الأمر وتزايد الحال ، حتى وصل إلى حران فخيم هنالك من شدة ألمه ، وشاع ذلك في البلاد ، فخاف الناس عليه وأرجف الكفرة والملحدون ، وخاف أهل البر والمؤمنون ، وقصده أخوه أبو بكر العادل من حلب بالأطباء والأدوية ، فوجده في غاية الضعف ، وأشار عليه بأن يوصي ويعهد ، فقال : ما أبالي وأنا أترك من بعدي أبا بكر وعمر وعثمان وعليا - يعني أخاه العادل صاحب حلب وتقي الدين عمر صاحب حماة وهو إذ ذاك نائب مصر وهو بها مقيم ، وابنيه العزيز عثمان والأفضل عليا - ثم نذر لله تعالى لئن شفاه الله من مرضه هذا ليصرفن همته كلها إلى قتال الكفار ، ولا يقاتل بعد ذلك مسلما ، وليجعلن أكبر همه فتح بيت المقدس ولو صرف في سبيل ذلك جميع ما يملكه من الأموال والذخائر وليقتلن البرنس صاحب الكرك بيده ; وذلك لأنه نقض العهد الذى عاهد السلطان عليه فغدر بقافلة من تجار مصر ، فأخذ أموالهم ، وضرب رقابهم صبرا بين يديه ، وهو يقول : أين محمدكم ينصركم ؟ وكان هذا النذر كله بإشارة القاضي الفاضل ، رحمه الله ، وهو الذي أرشده إلى ذلك وحثه عليه ، حتى عقده مع الله عز وجل ، فشفاه الله عز وجل ، وعافاه مما كان ابتلاه به من ذلك المرض الذي كان فيه ; كفارة لذنوبه ورفع لدرجته ونصرة للإسلام وأهله ، وجاءت البشائر بذلك من كل ناحية ، وزينت البلاد ، ولله الحمد والمنة .
وكتب القاضي الفاضل من دمشق وهو مقيم بها إلى المظفر تقي الدين عمر [ ص: 571 ] نائب مصر لعمه الناصر ; أن العافية الناصرية قد استفاضت أخبارها ، وأنوارها وآثارها ، وولت العلة ، ولله الحمد ، وأطفئت نارها ، وانجلى غبارها ، وخمد شرارها ، وما كانت إلا فلتة وقى الله شرها ، وعظيمة كفى الله الإسلام أمرها ، ونوبة امتحن الله بها نفوسنا ، فرأى أقل ما عندها صبرها ، وما كان الله ليضيع الدعاء وقد أخلصته القلوب ، ولا ليوقف الإجابة وإن سدت طريقها الذنوب ، ولا ليخلف وعد فرج وقد أيس الصاحب والمصحوب .
نعي زاد فيه الدهر ميما فأصبح بعد بؤساه نعيما وما صدق النذير به لأني
رأيت الشمس تطلع والنجوما
ثم ركب السلطان من حران بعد العافية فدخل حلب ثم اجتاز بحماة وحمص ، ودخل إلى دمشق وقد تكاملت عافيته ، وقد كان يوم دخله إليها يوما مشهودا وصباحا محمودا ، ولله المنة .