فصل ( إنكار المعتزلة للميزان والرد عليهم    ) 
وقد نقل القرطبي  عن بعضهم أن الميزان له كفتان عظيمتان ، لو وضعت السماوات والأرض في كل واحدة منهما لوسعتها ، فأما كفة الحسنات فنور ، وأما الأخرى فظلمة ، وهو منصوب بين يدي العرش ، وعن يمينه الجنة ، وكفة النور من ناحيتها ، وعن يساره جهنم ، وكفة الظلمة من ناحيتها . 
قال : وقد أنكرت المعتزلة الميزان ، وقالوا : الأعمال أعراض لا جرم لها ،   [ ص: 514 ] فكيف توزن قال : وقد روي عن ابن عباس    : أن الله يخلق الأعراض أجساما ، فتوزن . قال : والصحيح أنه توزن كتب الأعمال . قلت : قد تقدم ما يدل على الأول ، وعلى الثاني ، وعلى أن العامل نفسه يوزن مع عمله . 
قال القرطبي    : وقد روي عن مجاهد ،  والضحاك ،   والأعمش ،  أن الميزان هنا بمعنى العدل والقضاء ، وذكر الوزن والميزان ضرب مثل ، كما يقال : هذا الكلام في وزن هذا   . 
قلت : لعل هؤلاء إنما فسروا هذا عند قوله تعالى : والسماء رفعها ووضع الميزان ألا تطغوا في الميزان وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان    [ الرحمن : 7 - 9 ] . فها هنا المراد بالميزان أنه تعالى وضع العدل بين عباده ، وأمر عباده أن يتعاملوا به فيما بينهم ، فأما الميزان الموضوع يوم القيامة فقد تواترت بذكره الأحاديث كما رأيت ، وهو ظاهر القرآن العظيم : فمن ثقلت موازينه    [ الأعراف : 8 ] . ومن خفت موازينه    [ الأعراف : 9 ] . وهذا إنما يكون لشيء محسوس . 
قال القرطبي    : فالميزان حق ، وليس هو في حق كل أحد ، بدليل قوله تعالى . يعرف المجرمون بسيماهم فيؤخذ بالنواصي والأقدام    [ الرحمن : 41 ] . وقوله صلى الله عليه وسلم : " فيقول الله : يا محمد ،  أدخل من أمتك من لا حساب عليه من الباب الأيمن ، وهم شركاء الناس فيما سواه من الأبواب   " . 
 [ ص: 515 ] قلت : وقد تواترت الأخبار في السبعين ألفا الذين يدخلون الجنة بغير حساب  ، لكن يلزم من هذا أن لا توزن أعمالهم ، وفي هذا نظر ، والله أعلم . وقد توزن أعمال الشهداء ، وإن كانت راجحة; لإظهار شرفهم وفضلهم على رءوس الأشهاد ، والتنويه بسعادتهم ونجاتهم ، وإن كانوا لا حساب عليهم . وأما الكفار فتوزن أعمالهم ، وإن لم يكن لهم حسنات تنفعهم يقابل بها كفرهم ، فإن حسناتهم - ولو بلغت ما بلغت - لا تقابل كفرهم ولا توازنه ، وهي غير نافعة لهم ، فتوزن لإظهار شقائهم وتوبيخهم وفضيحتهم على رءوس الأشهاد . وقد جاء في الحديث : " إن الله لا يظلم أحدا حسنة ، أما الكافر فيطعمه بحسناته في الدنيا ، حتى يوافي الله وليس له حسنة يجزيه بها   " . 
وقد ذكر القرطبي  في " التذكرة " أن الكافر قد يوافي يوم القيامة بصدقة وصلة رحم وعتق  ، فيخفف الله عنه بذلك من عذابه ، واستشهد بقضية أبي طالب  حين جعله الله في ضحضاح من نار يغلي منه دماغه ، وفي هذا نظر; إذ قد يكون هذا خاصا به; لأجل حياطة رسول الله صلى الله عليه وسلم ونصرته له ، كما سقي أبو لهب  في النقرة التي هي في ظهر الإبهام بسبب عتاقته ثويبة  التي أرضعت رسول الله صلى الله عليه وسلم واستدل القرطبي  على ذلك بعموم قوله تعالى : ونضع الموازين القسط ليوم القيامة فلا تظلم نفس شيئا  الآية [ الأنبياء : 47 ] . 
قلت : وقصارى هذه الآية العموم ، فيخص من ذلك الكافرون ، وقد سئل   [ ص: 516 ] رسول الله صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن جدعان ،    : ذكر له أنه كان يقري الضيف ، ويطعم الجائع ، ويصل الرحم ، ويعتق ، فهل ينفعه ذلك؟ قال : " لا; إنه لم يقل يوما من الدهر : لا إله إلا الله   " . وفي رواية : " لم يقل يوما : رب اغفر لي خطيئتي يوم الدين . وقال تعالى : وقدمنا إلى ما عملوا من عمل فجعلناه هباء منثورا    [ الفرقان : 23 ] . وقال عن أعمال الكفار : والذين كفروا أعمالهم كسراب بقيعة يحسبه الظمآن ماء حتى إذا جاءه لم يجده شيئا ووجد الله عنده فوفاه حسابه والله سريع الحساب    [ النور : 39 ] . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					