[ ص: 447 ] ذكر إسحاق بن إبراهيم عليهما الصلاة والتسليم 
قد قدمنا أنه ولد ولأبيه مائة سنة بعد أخيه إسماعيل  بأربع عشرة سنة ، وكان عمر أمه سارة  حين بشرت به تسعين سنة قال الله تعالى : وبشرناه بإسحاق نبيا من الصالحين وباركنا عليه وعلى إسحاق ومن ذريتهما محسن وظالم لنفسه مبين    [ الصافات : 112 ، 113 ] . وقد ذكره الله تعالى بالثناء عليه في غير ما آية من كتابه العزيز ، وقدمنا في حديث  أبي هريرة  عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أن الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم    . وذكر أهل الكتاب  أن إسحاق  لما تزوج رفقا بنت ثبوائيل  في حياة أبيه كان عمره أربعين سنة ، وأنها كانت عاقرا فدعا الله لها فحملت فولدت غلامين توءمين أولهما سموه عيصو  ، وهو الذي تسميه العرب العيص    . وهو والد الروم  ، والثاني خرج وهو آخذ بعقب أخيه فسموه يعقوب ، وهو إسرائيل  الذي ينتسب إليه بنو إسرائيل  قالوا : وكان إسحاق  يحب العيص  أكثر من يعقوب  لأنه بكره ، وكانت أمهما رفقا   [ ص: 448 ] تحب يعقوب  أكثر لأنه الأصغر . قالوا : فلما كبر إسحاق  ، وضعف بصره اشتهى على ابنه العيص  طعاما ، وأمره أن يذهب فيصطاد له صيدا ، ويطبخه له ليبارك عليه ويدعو له ، وكان العيص  صاحب صيد فذهب يبتغي ذلك فأمرت رفقا  ابنها يعقوب  أن يذبح جديين من خيار غنمه ، ويصنع منهما طعاما ، كما اشتهاه أبوه ، ويأتي إليه به قبل أخيه ليدعو له وقامت فألبسته ثياب أخيه ، وجعلت على ذراعيه وعنقه من جلد الجديين ؛ لأن العيص  كان أشعر الجسد ويعقوب  ليس كذلك ، فلما جاءه به وقربه إليه قال : من أنت ؟ قال : ولدك . فضمه إليه وجسه ، وجعل يقول : أما الصوت فصوت يعقوب  ، وأما الجس والثياب فالعيص  ، فلما أكل وفرغ دعا له أن يكون أكبر إخوته قدرا ، وكلمته عليهم ، وعلى الشعوب بعده ، وأن يكثر رزقه وولده . فلما خرج من عنده جاء أخوه العيص  بما أمره به والده يقربه إليه ، فقال له : ما هذا يا بني ؟ قال : هذا الطعام الذي اشتهيته . فقال : أما جئتني به قبل الساعة وأكلت منه ودعوت لك . فقال : لا والله . وعرف أن أخاه قد سبقه إلى ذلك فوجد في نفسه عليه وجدا كثيرا . وذكروا أنه تواعده بالقتل إذا مات أبوهما ، وسأل أباه فدعا له بدعوة أخرى ، وأن يجعل لذريته غليظ الأرض ، وأن يكثر أرزاقهم وثمارهم ، فلما سمعت أمهما ما يتواعد به العيص  أخاه يعقوب  أمرت ابنها يعقوب  أن يذهب إلى أخيها لابان  الذي بأرض حران  ، وأن يكون عنده إلى حين يسكن غضب أخيه عليه ، وأن يتزوج من بناته ، وقالت لزوجها إسحاق  أن يأمره بذلك ويوصيه ويدعو له ففعل فخرج يعقوب  عليه السلام من عندهم آخر ذلك اليوم فأدركه المساء في موضع فنام فيه أخذ حجرا فوضعه تحت رأسه   [ ص: 449 ] ونام فرأى في نومه ذلك معراجا منصوبا من السماء إلى الأرض ، وإذا الملائكة يصعدون فيه وينزلون ، والرب تبارك وتعالى يخاطبه ، ويقول له : إني سأبارك عليك ، وأكثر ذريتك ، وأجعل لك هذه الأرض ولعقبك من بعدك ، فلما هب من نومه فرح بما رأى ، ونذر لله لئن رجع إلى أهله سالما ليبنين في هذا الموضع معبدا لله عز وجل ، وأن جميع ما يرزقه من شيء يكون لله عشره ، ثم عمد إلى ذلك الحجر فجعل عليه دهنا يتعرفه به . وسمى ذلك الموضع بيت إيل أي بيت الله ، وهو موضع بيت المقدس  اليوم الذي بناه يعقوب  بعد ذلك ، كما سيأتي قالوا : فلما قدم يعقوب  على خاله أرض حران  إذا له ابنتان اسم الكبرى ليا  ، واسم الصغرى راحيل  ، فخطب إليه راحيل  ، وكانت أحسنهما ، وأجملهما فأجابه إلى ذلك بشرط أن يرعى على غنمه سبع سنين ، فلما مضت المدة عمل خاله لابان  طعاما ، وجمع الناس عليه ، وزف إليه ليلا ابنته الكبرى ليا  ، وكانت ضعيفة العينين قبيحة المنظر ، فلما أصبح يعقوب  إذا هي ليا  ، فقال لخاله : لم غدرت بي ، وأنت إنما خطبت إليك راحيل    . فقال : إنه ليس من سنتنا أن نزوج الصغرى قبل الكبرى فإن أحببت أختها فاعمل سبع سنين أخرى وأزوجكها . فعمل سبع سنين ، وأدخلها عليه مع أختها ، وكان ذلك سائغا في ملتهم ، ثم نسخ في شريعة التوراة ، وهذا وحده دليل كاف على وقوع النسخ ؛ لأن فعل يعقوب  عليه السلام دليل على جواز هذا وإباحته ؛ لأنه معصوم . ووهب لابان  لكل واحدة من ابنتيه جارية ؛   [ ص: 450 ] فوهب لليا  جارية اسمها زلفا  ، ووهب لراحيل  جارية اسمها بلها  ، وجبر الله تعالى ضعف ليا  بأن وهب لها أولادا فكان أول من ولدت ليعقوب  روبيل  ، ثم شمعون  ، ثم لاوي  ، ثم يهوذا  ، فغارت عند ذلك راحيل  ، وكانت لا تحبل فوهبت ليعقوب  جاريتها بلها  فوطئها فحملت وولدت له غلاما سمته دان  ، وحملت وولدت غلاما آخر سمته يفثالي  ، فعمدت عند ذلك ليا  فوهبت جاريتها زلفا  من يعقوب  عليه السلام فولدت له جاد  وأشير  غلامين ذكرين ، ثم حملت ليا  أيضا فولدت غلاما خامسا منها وسمته أيساخر  ، ثم حملت وولدت غلاما سادسا سمته زابلون  ، ثم حملت وولدت بنتا سمتها دينا  ، فصار لها سبعة من يعقوب  ، ثم دعت الله تعالى راحيل  وسألته أن يهب لها غلاما من يعقوب  ، فسمع الله نداءها وأجاب دعاءها فحملت من نبي الله يعقوب  فولدت له غلاما عظيما شريفا حسنا جميلا سمته يوسف  كل هذا ، وهم مقيمون بأرض حران  ، وهو يرعى على خاله غنمه بعد دخوله على البنتين ست سنين أخرى فصار مدة مقامه عشرين سنة ، فطلب يعقوب  من خاله لابان  أن يسرحه ليمر إلى أهله فقال له خاله : إني قد بورك لي بسببك فسلني من مالي ما شئت . فقال : تعطيني كل حمل يولد من غنمك هذه السنة أبقع ، وكل حمل ملمع أبيض بسواد ، وكل أملح ببياض ، وكل أجلح أبيض من المعز . فقال : نعم . فعمد بنوه فأبرزوا من غنم أبيهم ما كان على هذه الصفات من التيوس لئلا يولد شيء من الحملان على هذه الصفات ، وساروا بها مسيرة ثلاثة أيام عن غنم أبيهم قالوا : فعمد يعقوب   [ ص: 451 ] عليه السلام إلى قضبان رطبة بيض من لوز ودلب ، فكان يقشرها بلقاء وبيضاء ، ويضعها في مساقي الغنم من المياه لينظر الغنم إليها فتفزع ، وتتحرك أولادها في بطونها فتصير ألوان حملانها كذلك . وهذا يكون من باب خوارق العادات ، وينتظم في سلك المعجزات . فصار ليعقوب  عليه السلام أغنام كثيرة ودواب وعبيد ، وتغير له وجه خاله وبنيه ، وكأنهم انحصروا منه . 
وأوحى الله تعالى إلى يعقوب  أن يرجع إلى بلاد أبيه وقومه ، ووعده بأن يكون معه فعرض ذلك على أهله فأجابوه مبادرين إلى طاعته ، فتحمل بأهله وماله ، وسرقت راحيل  أصنام أبيها ، فلما جاوزوا وتحيزوا عن بلادهم لحقهم لابان  وقومه ، فلما اجتمع لابان  بيعقوب  عاتبه في خروجه بغير إذنه وعلمه ، وهلا أعلمه فيخرجهم في فرح ومزامر وطبول ، وحتى يودع بناته وأولادهن ، ولم أخذوا أصنامه معهم ، ولم يكن عند يعقوب  علم من أصنامه ، فأنكر أن يكون أخذوا له أصناما فدخل بيوت بناته وإمائهن يفتش فلم يجد شيئا ، وكانتراحيل  قد جعلتهن في بردعة الجمل ، وهي تحتها فلم تقم ، واعتذرت بأنها طامث فلم يقدر عليهن فعند ذلك تواثقوا على رابية هناك يقال لها : جلعاد    . على أنه لا يهين بناته   [ ص: 452 ] ولا يتزوج عليهن ، ولا يجاوز هذه الرابية إلى بلاد الآخر لا لابان  ولا يعقوب  ، وعملا طعاما وأكل القوم معهم ، وتودع كل منهما من الآخر ، وتفارقوا راجعين إلى بلادهم ، فلما اقترب يعقوب  من أرض ساعير  تلقته الملائكة يبشرونه بالقدوم ، وبعث يعقوب  البرد إلى أخيه العيصو  يترقق له ويتواضع له ، فرجعت البرد وأخبرت يعقوب  بأن العيص  قد ركب إليك في أربعمائة راجل ، فخشي يعقوب  من ذلك ، ودعا الله عز وجل وصلى له وتضرع إليه وتمسكن لديه ، وناشده عهده ووعده الذي وعده به . وسأله أن يكف عنه شر أخيه العيص  ، وأعد لأخيه هدية عظيمة وهي ؛ مائتا شاة ، وعشرون تيسا ، ومائتا نعجة ، وعشرون كبشا ، وثلاثون لقحة ، وأربعون بقرة ، وعشرة من الثيران ، وعشرون أتانا ، وعشرة من الحمر ، وأمر عبيده أن يسوقوا كلا من هذه الأصناف وحده ، وليكن بين كل قطيع وقطيع مسافة فإذا لقيهم العيص  فقال للأول : لمن أنت ؟ ولمن هذه معك ؟ فليقل : لعبدك يعقوب  ، أهداها لسيدي العيص    . وليقل الذي بعده كذلك ، وكذا الذي بعده ، وكذا الذي بعده ، ويقول كل منهم : وهو جاء بعدنا . وتأخر يعقوب  بزوجتيه وأمتيه وبنيه الأحد عشر بعد الكل بليلتين ، وجعل يسير فيهما ليلا ويكمن نهارا ، فلما كان وقت الفجر من الليلة الثانية تبدى له ملك من الملائكة في صورة رجل فظنه   [ ص: 453 ] يعقوب  رجلا من الناس فأتاه يعقوب  ليصارعه ويغالبه ، فظهر عليه يعقوب  فيما يرى إلا أن الملك أصاب وركه فعرج يعقوب  ، فلما أضاء الفجر قال له الملك : ما اسمك ؟ قال : يعقوب    . قال : لا ينبغي أن تدعى بعد اليوم إلا إسرائيل    . فقال له يعقوب    : ومن أنت ؟ وما اسمك ؟ فذهب عنه فعلم أنه ملك من الملائكة ، وأصبح يعقوب  وهو يعرج من رجله فلذلك لا يأكل بنو إسرائيل  عرق النسا ، ورفع يعقوب  عينيه فإذا أخوه عيص  قد أقبل في أربعمائة راجل ، فتقدم أمام أهله ، فلما رأى أخاه العيص  سجد له سبع مرات ، وكانت هذه تحيتهم في ذلك الزمان ، وكان مشروعا لهم ، كما سجدت الملائكة لآدم  تحية له ، وكما سجد إخوة يوسف  وأبواه له ، كما سيأتي ، فلما رآه العيص  تقدم إليه واحتضنه وقبله وبكى ، ورفع العيص  عينيه ، ونظر إلى النساء والصبيان ، فقال : من أين لك هؤلاء ؟ فقال : هؤلاء الذين وهب الله لعبدك . فدنت الأمتان وبنوهما فسجدوا له ، ودنت ليا  وبنوها فسجدوا له ، ودنت راحيل  وابنها يوسف  آخرا فسجدا له ، وعرض عليه أن يقبل هديته وألح عليه فقبلها ، ورجع العيص  فتقدم أمامه ، ولحقه يعقوب  بأهله وما معه من الأنعام والمواشي والعبيد قاصدين جبال ساعير  ، فلما مر بساحورا  ابتنى له بيتا ولدوابه ظلالا ، ثم مر على أورشليم  قرية سحيم فنزل قبل القرية واشترى مزرعة بني حمور أبي سحيم  بمائة نعجة ، فضرب هنالك فسطاطه وابتنى ثم مذبحا فسماه إيل إله إسرائيل  ، وأمره الله ببنائه ليستعلن   [ ص: 454 ] له فيه وهو بيت المقدس  اليوم الذي جدده بعد ذلك سليمان بن داود  عليهما السلام ، وهو مكان الصخرة التي أعلمها بوضع الدهن عليها قبل ذلك ، كما ذكرنا أولا . 
وذكر أهل الكتاب  هنا قصة دينا بنت يعقوب  من ليا  ، وما كان من أمرها مع سحيم بن حمور  الذي قهرها على نفسها وأدخلها منزله ، ثم خطبها من أبيها وإخوتها ، فقال إخوتها : لا نفعل إلا أن تختتنوا كلكم فنصاهركم وتصاهرونا ، فإنا لا نصاهر قوما غلفا . فأجابوهم إلى ذلك ، واختتنوا كلهم ، فلما كان اليوم الثالث واشتد وجعهم من ألم الختان ، مال عليهم بنو يعقوب  فقتلوهم عن آخرهم وقتلوا سحيما  وأباه حمورا  لقبيح ما صنعوا إليهم ، مضافا إلى كفرهم ، وما كانوا يعبدونه من أصنامهم فلهذا قتلهم بنو يعقوب  ، وأخذوا أموالهم غنيمة ، والله أعلم . 
ثم حملت راحيل  فولدت غلاما ، وهو بنيامين  إلا أنها جهدت في طلقها به جهدا شديدا ، وماتت عقيبه فدفنها يعقوب  في أفراث ، وهي بيت لحم  ، وصنع يعقوب  على قبرها حجرا ، وهي الحجارة المعروفة بقبر راحيل  إلى اليوم .   [ ص: 455 ] وكان أولاد يعقوب  الذكور اثني عشر رجلا ، فمن ليا  ؛ روبيل  ، وشمعون  ، ولاوي  ، ويهوذا  ، وأيساخر  ، وزابلون    . ومن راحيل  ؛ يوسف  ، وبنيامين  ، ومن أمة راحيل  ؛ دان  ، ونفثالي    . ومن أمة ليا  ؛ جاد  ، وأشير    . عليهم السلام ، وجاء يعقوب  إلى أبيه إسحاق  فأقام عنده بقرية حبرون  التي في أرض كنعان  حيث كان يسكن إبراهيم  ، ثم مرض إسحاق  ومات عن مائة وثمانين سنة ، ودفنه ابناه العيص  ويعقوب  مع أبيه إبراهيم الخليل  في المغارة التي اشتراها كما قدمنا . والله سبحانه أعلم بذلك . 
				
						
						
