صفة فتح مصر مجموعا من كلام ابن إسحاق  وسيف  وغيرهما 
قالوا : لما استكمل عمر  والمسلمون فتح الشام  بعث عمرو بن العاص  إلى   [ ص: 90 ] مصر    - وزعم سيف  أنه بعثه بعد فتح بيت المقدس - وأردفه  بالزبير بن العوام ،  وفي صحبته بسر بن أرطاة ،  وخارجة بن حذافة ،  وعمير بن وهب الجمحي ،  فاجتمعا على باب مصر  ، فلقيهم أبو مريم جاثليق مصر   ، ومعه الأسقف أبو مريام  في أهل الثبات ، بعثه المقوقس  صاحب إسكندرية  لمنع بلادهم ، فلما تصافوا قال عمرو بن العاص  لا تعجلوا حتى نعذر إليكم ، ليبرز إلي أبو مريم  وأبو مريام  راهبا هذه البلاد . فبرزا إليه ، فقال لهما عمرو بن العاص  أنتما راهبا هذه البلاد فاسمعا : إن الله بعث محمدا ،  صلى الله عليه وسلم ، بالحق ، وأمره به ، وأمرنا به محمد ،  صلى الله عليه وسلم ، وأدى إلينا كل الذي أمر به ، ثم مضى وتركنا على الواضحة ، وكان مما أمرنا به الإعذار إلى الناس ، فنحن ندعوكم إلى الإسلام ، فمن أجابنا إليه فمثلنا ، ومن لم يجبنا عرضنا عليه الجزية وبذلنا له المنعة ، وقد أعلمنا أنا مفتتحوكم ، وأوصانا بكم ؛ حفظا لرحمنا منكم ، وأن لكم إن أجبتمونا بذلك ذمة إلى ذمة ، ومما عهد إلينا أميرنا : استوصوا بالقبطيين خيرا ؛ فإن رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، أوصانا بالقبطيين خيرا ؛ لأن لهم رحما وذمة . فقالوا : قرابة بعيدة لا يصل مثلها إلا الأنبياء ، معروفة شريفة ، كانت ابنة ملكنا ، وكانت من أهل منف   والملك   [ ص: 91 ] فيهم ، فأديل عليهم أهل عين شمس   فقتلوهم وسلبوهم ملكهم واغتربوا ، فلذلك صارت إلى إبراهيم  عليه السلام ، مرحبا به وأهلا ، أمنا حتى نرجع إليك . فقال عمرو    : إن مثلي لا يخدع ، ولكني أؤجلكما ثلاثا لتنظروا ولتناظرا قومكما ، وإلا ناجزتكم . قالا : زدنا . فزادهم يوما ، فقالا : زدنا . فزادهم يوما ، فرجعا إلى المقوقس  فأبى أرطبون  أن يجيبهما وأمر بمناهدتهم ، وقال لأهل مصر     : أما نحن فسنجتهد أن ندفع عنكم ولا نرجع إليهم ، وقد بقيت أربعة أيام . وأشار عليهم بأن يبيتوا المسلمين . فقال الملأ منهم : ما تقاتلون من قوم قتلوا كسرى  وقيصر  وغلبوهم على بلادهم ؟ ! فألح الأرطبون  في أن يبيتوا المسلمين ، ففعلوا فلم يظفروا بشيء بل قتل منهم طائفة منهم الأرطبون    . وحاصر المسلمون عين شمس  من مصر  في اليوم الرابع ، وارتقى الزبير  عليهم سور البلد ، فلما أحسوا بذلك خرجوا إلى عمرو  من الباب الآخر فصالحوه ، واخترق الزبير  البلد حتى خرج من الباب الذي عليه عمرو ،  فأمضوا الصلح . 
وكتب لهم عمرو  كتاب أمان : بسم الله الرحمن الرحيم ، هذا ما أعطى عمرو بن العاص  أهل مصر   من الأمان على أنفسهم وملتهم وأموالهم وكنائسهم   [ ص: 92 ] وصلبهم ، وبرهم وبحرهم ، لا يدخل عليهم شيء من ذلك ولا ينتقص ، ولا يساكنهم النوبة وعلى أهل مصر   أن يعطوا الجزية إذا اجتمعوا على هذا الصلح ، وانتهت زيادة نهرهم ، خمسين ألف ألف ، وعليهم ما جنى لصوتهم ، فإن أبى أحد منهم أن يجيب ، رفع عنهم من الجزاء بقدرهم ، وذمتنا ممن أبى بريئة ، وإن نقص نهرهم من غايته إذا انتهى ، رفع عنهم بقدر ذلك ، ومن دخل في صلحهم من الروم  والنوبة  ، فله مثل ما لهم وعليه مثل ما عليهم ، ومن أبى واختار الذهاب ، فهو آمن حتى يبلغ مأمنه أو يخرج من سلطاننا ، عليهم ما عليهم أثلاثا ، في كل ثلث جباية ثلث ما عليهم ، على ما في هذا الكتاب عهد الله وذمة رسوله وذمة الخليفة أمير المؤمنين ، وذمم المؤمنين . وعلى النوبة  الذين استجابوا أن يعينوا بكذا وكذا رأسا ، وكذا وكذا فرسا ، على أن لا يغزوا ، ولا يمنعوا من تجارة صادرة ولا واردة . شهد الزبير وعبد الله ومحمد ابناه ،  وكتب وردان  وحضر . 
فدخل في ذلك أهل مصر   كلهم ، وقبلوا الصلح ، واجتمعت الخيول بمصر  ، وعمروا الفسطاط  ، وظهر أبو مريم  وأبو مريام  فكلما عمرا  في السبايا التي أصيبت بعد المعركة ، فأبى عمرو  أن يردها عليهما ، وأمر بطردهما وإخراجهما من بين يديه ، فلما بلغ ذلك أمير المؤمنين عمر بن الخطاب  أمر أن كل   [ ص: 93 ] سبي أخذ في الخمسة أيام التي أمنوهم فيها أن يرد عليهم ، وكل سبي أخذ ممن لم يقاتل وكذلك من قاتل ، فلا يرد عليه سباياه . وقيل : إنه أمره أن يخيروا من في أيديهم من السبي بين الإسلام وبين أن يرجع إلى أهله ، فمن اختار الإسلام فلا يردوه إليهم ، ومن اختارهم ردوه عليهم وأخذوا منه الجزية ، وأما ما تفرق من سبيهم في البلاد ووصل إلى الحرمين وغيرهما ، فإنه لا يقدر على ردهم ، ولا ينبغي أن يصالحهم على ما يتعذر الوفاء به . ففعل عمرو  ما أمر به أمير المؤمنين ، وجمع السبايا وعرضوهم وخيروهم ، فمنهم من اختار الإسلام ، ومنهم من عاد إلى دينه ، وانعقد الصلح بينهم . 
ثم أرسل عمرو  جيشا إلى إسكندرية    - وكان المقوقس  صاحب الإسكندرية  قبل ذلك يؤدي خراج بلده وبلد مصر  إلى ملك الروم    - فلما حاصره عمرو بن العاص  جمع أساقفته وأكابر دولته ، وقال لهم : إن هؤلاء العرب غلبوا كسرى  وقيصر  وأزالوهم عن ملكهم ، ولا طاقة لنا بهم ، والرأي عندي أن نؤدي الجزية   [ ص: 94 ] إليهم . ثم بعث إلى عمرو بن العاص  يقول : إني كنت أؤدي الخراج إلى من هو أبغض إلي منكم ؛ فارس  والروم    . ثم صالحه على أداء الجزية ، وبعث عمرو  بالفتح والأخماس إلى عمر بن الخطاب  ، رضي الله عنه . 
وذكر سيف أن عمرو بن العاص  لما التقى مع المقوقس  جعل كثير من المسلمين يفر من الزحف ، فجعل عمرو  يذمرهم ويحثهم على الثبات ، فقال له رجل من أهل اليمن     : إنا لم نخلق من حجارة ولا حديد . فقال له عمرو    : اسكت فإنما أنت كلب . فقال له الرجل : فأنت إذا أمير الكلاب . فأعرض عنه عمرو  ونادى يطلب أصحاب رسول الله ، صلى الله عليه وسلم ، فلما اجتمع إليه من هناك من الصحابة قال لهم عمرو    : تقدموا فبكم ينصر الله المسلمين . فنهدوا إلى القوم ففتح الله عليهم ، وظفروا أتم الظفر . 
قال سيف    : ففتحت مصر  في ربيع الأول من سنة ست عشرة ، وقام فيها ملك الإسلام . ولله الحمد والمنة . وقال غيره : فتحت مصر  في سنة عشرين ، وفتحت إسكندرية  في سنة خمس وعشرين ، بعد محاصرة ثلاثة أشهر عنوة . وقيل : صلحا على اثني عشر ألف دينار . 
وقد ذكر أن المقوقس  سأل من عمرو  أن يهادنه أولا ، فلم يقبل عمرو  ، وقال له : قد علمتم ما فعلنا بملككم الأكبر هرقل    . فقال المقوقس  لأصحابه :   [ ص: 95 ] صدق ، فنحن أحق بالإذعان . ثم صالح على ما تقدم . 
وذكر غيره أن عمرا  والزبير  سارا إلى عين شمس  فحاصراها ، وأن عمرا  بعث إلى الفرما  أبرهة بن الصباح  ، وبعث عوف بن مالك  إلى الإسكندرية  فقال كل منهما لأهل بلده : إن نزلتم فلكم الأمان . فتربصوا ماذا يكون من أهل عين شمس   ، فلما صالحوا ، صالح الباقون . وقد قال عوف بن مالك  لأهل إسكندرية     : ما أحسن بلدكم ! فقالوا : إن إسكندر  لما بناها قال : لأبنين مدينة فقيرة إلى الله غنية عن الناس . فبقيت بهجتها . وقال أبرهة  لأهل الفرما     : ما أقبح مدينتكم ! فقالوا : إن الفرما    - وهو أخو الإسكندر    - لما بناها قال : لأبنين مدينة غنية عن الله فقيرة إلى الناس . فهي لا يزال ساقطا بناؤها ، فشوهت بذلك . 
وذكر سيف أن  عبد الله بن سعد بن أبي سرح  لما ولي مصر  بعد ذلك زاد في الخراج عليهم رءوسا من الرقيق يهدونها إلى المسلمين في كل سنة ، ويعوضهم المسلمون بطعام مسمى وكسوة . وأقر ذلك عثمان بن عفان  وولاة الأمور بعده ، حتى كان عمر بن عبد العزيز  فأمضاه أيضا ؛ نظرا لهم ، وإبقاء لعهدهم . 
قلت : وإنما سميت ديار مصر  بالفسطاط  نسبة إلى فسطاط  عمرو بن العاص  ، وذلك أنه نصب خيمته - وهي الفسطاط    - موضع مصر  اليوم ، وبنى   [ ص: 96 ] الناس حوله ، وتركت مصر القديمة  من زمان عمرو بن العاص  وإلى اليوم ، ثم رفع الفسطاط  وبنى موضعه جامعا وهو المنسوب إليه اليوم . 
وقد غزا المسلمون بعد فتح مصر  النوبة  ؛ فنالهم جراحات كثيرة ، وأصيبت أعين كثيرة ؛ لجودة رمي النوبة  ، فسموهم جند الحدق . ثم فتحها الله بعد ذلك . ولله الحمد والمنة . 
وقد اختلف في بلاد مصر ،  فقيل : فتحت صلحا إلا الإسكندرية    . وهو قول يزيد بن أبي حبيب    . وقيل : كلها عنوة . وهو قول ابن عمر  وجماعة . 
وعن عمرو بن العاص  أنه خطب الناس فقال : ما قعدت مقعدي هذا ولأحد من القبط عندي عهد ؛ إن شئت قتلت ، وإن شئت بعت ، وإن شئت خمست ، إلا لأهل أنطابلس   ، فإن لهم عهدا نفي به . 
				
						
						
