[ ص: 607 ] 
ثم دخلت سنة ثنتين وستين 
يقال : فيها قدم وفد أهل المدينة  على يزيد بن معاوية   ، فأكرمهم وأجازهم بجوائز سنية ، ثم عادوا من عنده بالجوائز فخلعوه ، وولوا عليهم  عبد الله بن حنظلة الغسيل  ، فبعث إليهم يزيد  جندا في السنة الآتية إلى المدينة  ، فكانت وقعة الحرة   على ما سنبينه في التي بعدها ، إن شاء الله تعالى ، وقد كان يزيد  عزل عن الحجاز  عمرو بن سعيد بن العاص  ، وولى عليهم  الوليد بن عتبة بن أبي سفيان  ، فلما دخل المدينة  احتاط على الأموال والحواصل والأملاك ، وأخذ العبيد الذين لعمرو بن سعيد  فحبسهم ، وكانوا نحوا من ثلاثمائة عبد ، فتجهز عمرو بن سعيد  إلى يزيد  فركب وبعث إلى عبيده أن يخرجوا من السجن ويلحقوا به ، وأعد لهم إبلا يركبونها ، ففعلوا ذلك ، فما لحقوه حتى وصل إلى يزيد  ، فلما دخل عليه أكرمه واحترمه ورحب به يزيد  ، وأدنى مجلسه ، ثم إنه عاتبه في تقصيره في شأن ابن الزبير  ، فقال له : يا أمير المؤمنين ، الشاهد يرى ما لا يرى الغائب ، وإن جل أهل مكة  والحجاز   مالئوه علينا وأحبوه ، ولم يكن لي جند أقوى بهم عليه لو ناهضته ، وقد كان يحذرني ويحترس مني ، وكنت أرفق به كثيرا ، وأداريه لأستمكن منه فأثب عليه ، مع أني قد ضيقت عليه ومنعته من أشياء كثيرة ، وجعلت على مكة  وطرقها وشعابها   [ ص: 608 ] رجالا لا يدعون أحدا يدخلها حتى يكتبوا إلي اسمه واسم أبيه ، ومن أي بلاد الله هو وما جاء له ، وماذا يريد ، فإن كان من أصحابه أو ممن أرى أنه يريده رددته صاغرا ، وإلا خليت سبيله ، وقد وليت الوليد  ، وسيأتيك من عمله وأمره ما لعلك تعرف به فضل مبالغتي في أمرك ومناصحتي لك ، إن شاء الله ، والله يصنع لك ويكبت عدوك . فقال له يزيد    : أنت أصدق ممن رماك وحملني عليك ، وأنت ممن أثق به وأرجو معونته وأدخره لرأب الصدع ، وكفاية المهم وكشف نوازل الأمور العظام . في كلام طويل . 
وأما الوليد بن عتبة  فإنه أقام بالحجاز  ، وقد هم مرارا أن يبطش بعبد الله بن الزبير  ، فلا يجده إلا متحذرا ممتنعا ، قد أعد للأمور أقرانها ، وثار باليمامة  رجل آخر يقال له : نجدة بن عامر الحنفي    . حين قتل الحسين  ، وخالف يزيد بن معاوية  ولم يخالف ابن الزبير  بل بقي على حدة ، له أصحاب يتبعونه ، فإذا كان ليلة عرفة  دفع الوليد بن عتبة  بالجمهور ، وتخلف عنه أصحاب ابن الزبير  وأصحاب نجدة  ، ثم يدفع كل فريق وحدهم . ثم كتب نجدة  إلى يزيد    : إنك بعثت إلينا رجلا أخرق ، لا يتجه لأمر رشد ولا يرعوي لعظة الحكيم ، فلو بعثت إلينا رجلا سهل الخلق ، لين الكنف ، رجوت أن يسهل من الأمور ما استوعر منها ، وأن يجتمع ما تفرق ، فانظر في ذلك ، فإن فيه صلاح خواصنا وعوامنا ،   [ ص: 609 ] إن شاء الله تعالى . 
قالوا : فعزل يزيد  الوليد  ، وولى عثمان بن محمد بن أبي سفيان  ، فسار إلى الحجاز  ، وإذا هو فتى غر حدث غمر ، لم يمارس الأمور ، فطمعوا فيه ، ولما دخل المدينة  بعث إلى يزيد  منها وفدا ، فيهم  عبد الله بن حنظلة الغسيل الأنصاري  ، وعبد الله بن أبي عمرو بن حفص بن المغيرة المخزومي  ،  والمنذر بن الزبير  ، ورجال كثير من أشراف أهل المدينة  فقدموا على يزيد  ، فأكرمهم وأحسن إليهم وأعظم جوائزهم ، ثم انصرفوا راجعين إلى المدينة  ، إلا المنذر بن الزبير  ، فإنه سار إلى صاحبه عبيد الله بن زياد  بالبصرة  ، وكان يزيد  قد أجازه بمائة ألف نظير أصحابه من أولئك الوفد ، ولما رجع وفد المدينة  إليها أظهروا شتم يزيد  وعيبه ، وقالوا : قدمنا من عند رجل ليس له دين ، يشرب الخمر ، وتعزف عنده القينات بالمعازف ، وإنا نشهدكم أنا قد خلعناه . فتابعهم الناس على خلعه ، وبايعوا  عبد الله بن حنظلة الغسيل  على الموت ، وأنكر عليهم  عبد الله بن عمر بن الخطاب  ، ورجع المنذر بن الزبير  من البصرة  إلى المدينة  ، فوافق أولئك على خلع يزيد  ، وأخبرهم عنه أنه يشرب الخمر ويسكر حتى يترك الصلاة ، وعابه أكثر مما عابه أولئك ، فلما بلغ ذلك يزيد  قال : اللهم إني آثرته وأكرمته ففعل ما قد رأيت ، فأدركه وانتقم منه . ثم إن يزيد  بعث إلى أهل المدينة  النعمان بن بشير  ينهاهم عما صنعوا ، ويحذرهم غب ذلك ، ويأمرهم بالرجوع إلى السمع والطاعة   [ ص: 610 ] ولزوم الجماعة ، فسار إليهم ففعل ما أمره يزيد وخوفهم الفتنة ، وقال لهم : إن الفتنة وخيمة . وقال : لا طاقة لكم بأهل الشام    . فقال له عبد الله بن مطيع العدوي    : ما حملك يا نعمان  على تفريق جماعتنا وفساد ما أصلح الله من أمرنا ؟ فقال له النعمان    : أما والله لكأني بك لو قد نزلت تلك التي تدعو إليها ، وقامت الرجال على الركب تضرب مفارق القوم وجباههم بالسيوف ، ودارت رحا الموت بين الفريقين ، وكأني بك قد ضربت جنب بغلتك إلى مكة  وخلفت هؤلاء المساكين - يعني الأنصار    - يقتلون في سككهم ومساجدهم ، وعلى أبواب دورهم . فعصاه الناس ، فلم يسمعوا منه ، فانصرف وكان الأمر والله كما قال سواء . 
قال ابن جرير    : وحج بالناس في هذه السنة الوليد بن عتبة    . كذا قال ، وفيه نظر ، فإنه إن كان وفد أهل المدينة    - وقد رجعوا من عند يزيد    - فإنما وفدهم عثمان بن محمد بن أبي سفيان  ، وإن كان قد حج بالناس فيها الوليد  فما قدم وفد المدينة  إلى يزيد  إلا في أول سنة ثلاث وستين ، وهو أشبه . والله أعلم . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					