وفيها كان مصعب بن الزبير ، وذلك أن مقتل سار في جنود هائلة من عبد الملك بن مروان الشام قاصدا مصعب بن الزبير بالعراق ، فالتقيا في هذه السنة ، وقد كانا قبلها يركب كل واحد لملتقى الآخر ، فيحول بينهما الشتاء والبرد والوحل ، فيرجع كل واحد منهما إلى بلده ، فلما كان في هذا العام سار إليه عبد الملك ، وبعث بين يديه السرايا ، ودخل بعض من أرسله إلى البصرة فدعا أهلها إلى عبد الملك في السر ، فاستجاب له بعضهم ، وقد كان مصعب سار إلى الحجاز ، فجاء ودخل البصرة على إثر ذلك ، فأنب الكبراء من الناس ، وشتمهم ولامهم على دخول أولئك إليهم ، وإقرارهم لهم على ذلك ، وهدم دور بعضهم ، ثم شخص إلى الكوفة ، ثم بلغه قصد عبد الملك له بجنود الشام فخرج إليه .
ووصل عبد الملك إلى مسكن ، وكتب إلى المروانية الذين استجابوا لمن بعثه إليهم فأجابوه ، واشترطوا عليه أن يوليهم أصبهان ، فقال : نعم . وهم جماعة كثيرة من الأمراء ، وقد جعل عبد الملك على مقدمته أخاه محمد بن مروان بن الحكم ، وعلى ميمنته عبد الله بن يزيد بن معاوية ، وعلى ميسرته خالد بن يزيد بن معاوية ، [ ص: 136 ] وخرج مصعب بن الزبير ، وقد اختلف عليه أهل العراق ، وخذلوه وجعل يتأمل من معه فلا يجدهم يقاومون أعداءه ، فاستقتل وطمن نفسه على ذلك ، وقال : لي بالحسين بن علي أسوة حين امتنع من إلقائه يده ، ومن الذلة ، وجعل ينشد ويقول مسليا نفسه : لعبيد الله بن زياد
وإن الألى بالطف من آل هاشم تأسوا فسنوا للكرام التأسيا
وكان عبد الملك قد أشار عليه بعض أمرائه أن يقيم بالشام ، وأن يبعث إلى مصعب جيشا فأبى ، وقال : لعلي أبعث رجلا شجاعا لا رأي له ، أو من له رأي ولا شجاعة له ، وإني أجد من نفسي بصرا بالحرب وشجاعة ، وإن مصعبا في بيت شجاعة ، أبوه أشجع قريش ، وأخوه لا تجهل شجاعته ، وهو شجاع ، لا علم له بالحرب ، وهو يحب الدعة والخفض ، ومعه من يخالفه ، ومعي من ينصح لي . فسار بنفسه ، فلما تقارب [ ص: 137 ] الجيشان بعث عبد الملك إلى أمراء مصعب بكتب يدعوهم إلى نفسه ويعدهم الولايات ، فجاء إلى إبراهيم بن الأشتر مصعب فألقى إليه كتابا مختوما ، وقال : هذا جاءني من عبد الملك . ففتحه فإذا هو يدعوه إلى الإتيان إليه ، وله نيابة العراق . وقال لمصعب : أيها الأمير ، إنه لم يبق أحد من أمرائك إلا وقد جاءه كتاب مثل هذا فإن أطعتني ضربت أعناقهم . فقال له مصعب : إني لو فعلت ذلك لم تنصحنا عشائرهم بعدهم . فقال : فأوقرهم في الحديد وابعثهم إلى أبيض كسرى فاسجنهم فيه ، ووكل بهم من إن غلبت ضرب أعنقهم ، وإن غلبت مننت بهم على عشائرهم . فقال له : يا أبا النعمان ، إني لفي شغل عن هذا . ثم قال مصعب : رحم الله أبا بحر - يعني الأحنف بن قيس - إن كان ليحذرني غدر أهل العراق ، وكأنه كان ينظر إلى ما نحن فيه الآن .
ثم تواجه الجيشان بدير الجاثليق من مسكن ، فحمل - وهو أمير المقدمة العراقية لجيش إبراهيم بن الأشتر مصعب - على محمد بن مروان - وهو أمير مقدمة الشام - فأزاله عن موضعه ، فأردفه عبد الملك بن مروان بعبد الله بن يزيد بن معاوية ، فحملوا على ، ومن معه فطحنوهم ، وقتل إبراهيم بن الأشتر إبراهيم [ ص: 138 ] بن الأشتر ، رحمه الله وعفا عنه ، وقتل معه جماعة من الأمراء ، وكان عتاب بن ورقاء على خيل مصعب فهرب أيضا ولجأ إلى ، وجعل عبد الملك بن مروان مصعب بن الزبير وهو واقف في القلب ينهض أصحاب الرايات ، ويحث الشجعان والأبطال أن يتقدموا إلى أمام القوم ، فلا يتحرك أحد ، فجعل يقول : يا إبراهيم ولا إبراهيم لي اليوم ! وتفاقم الأمر ، واشتد القتال وتخاذلت الرجال ، وضاق الحال ، وكثر النزال .
قال المدائني : عن يحيى بن إسماعيل بن المهاجر ، عن أبيه قال : أرسل عبد الملك أخاه محمد بن مروان إلى مصعب يعطيه الأمان فأبى ، وقال : إن مثلي لا ينصرف عن هذا الموضع إلا غالبا أو مغلوبا .
قالوا : فنادى محمد بن مروان عيسى بن مصعب فقال : يابن أخي ، لا تقتل نفسك ، لك الأمان . فقال له مصعب : قد آمنك عمك فامض إليه . فقال : لا تتحدث نساء قريش أني أسلمتك للقتل . فقال له : يا بني ، فاركب خيل السبق فالحق بعمك ، فأخبره بما صنع أهل العراق فإني مقتول هاهنا ، فقال : والله إني لا أخبر عنك أحدا أبدا ، ولا أخبر نساء قريش بمصرعك أبدا ، ولا أقتل إلا معك ، ولكن إن شئت ركبت خيلك ، وسرنا إلى البصرة ، فإنهم على [ ص: 139 ] الجماعة . فقال مصعب : لا والله ، ما الفرار لي بعادة ، ولكن أقاتل ، فإن قتلت فما السيف لي بعار ، والله لا تتحدث قريش عني أني فررت من القتال . ثم قال لابنه : تقدم بين يدي حتى أحتسبك . فتقدم ابنه ، فقاتل حتى قتل ، وأثخن مصعب بالرمي ، فنظر إليه زائدة بن قدامة ، وهو كذلك فحمل عليه فطعنه ، وهو يقول : يا ثارات المختار ! فصرعه ، ونزل إليه رجل يقال له : عبيد الله بن زياد بن ظبيان التميمي ، فقتله وحز رأسه ، وأتى به ، فسجد عبد الملك بن مروان عبد الملك ، وأطلق له ألف دينار فأبى أن يقبلها ، وقال : لم أقتله على طاعتك ، ولكن بثأر كان لي عنده ، وكان قد ولي له عملا قبل ذلك فعزله عنه وأهانه .
قالوا : ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك ، قال عبد الملك : لقد كان بيني وبين مصعب صحبة قديمة ، وكان من أحب الناس إلي ، ولكن هذا الملك عقيم .
وقال : لما تفرق عن مصعب جموعه قال له ابنه عيسى : لو اعتصمت ببعض القلاع ، وكاتبت من بعد عنك مثل وغيره فقدموا عليك ، فإذا اجتمع لك ما تريد منهم لقيت القوم ; فإنك قد ضعفت جدا . فلم يرد عليه جوابا . ثم ذكر ما جرى المهلب بن أبي صفرة للحسين بن علي ، وكيف قتل كريما ، ولم يلق بيده ، ولم يجد من أهل العراق وفاء . وكذلك أبوه وأخوه ، ونحن ما وجدنا لهم وفاء .
ثم انهزم أصحابه ، وبقي في قليل من خواصه ، ومال الجميع إلى [ ص: 140 ] عبد الملك ، وقد كان عبد الملك يحب مصعبا حبا شديدا ، وكان خليلا له قبل الخلافة ، فقال لأخيه محمد : اذهب إليه فآمنه ، فجاءه ، فقال له : يا مصعب قد آمنك ابن عمك على نفسك وولدك ومالك وأهلك ، فاذهب حيث شئت من البلاد ، ولو أراد بك غير ذلك لكان ، فقال مصعب : قضي الأمر ، إن مثلي لا ينصرف عن مثل هذا الموقف إلا غالبا أو مغلوبا . فتقدم ابنه عيسى فقاتل ، فقال محمد بن مروان يابن أخي لا تقتل نفسك . ثم ذكر من قوله ما تقدم ، ثم قاتل حتى قتل ، رحمه الله ، ثم ذكر من قتل أبيه بعده ، كما تقدم .
قال : ولما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك بكى وقال : والله ما كنت أقدر أن أصبر عليه ساعة واحدة من حبي له حتى دخل السيف بيننا ، ولكن الملك عقيم ! ولقد كانت المحبة والحرمة بيننا قديمة ، متى تلد النساء مثل مصعب ؟ ثم أمر بمواراته ، ودفنه هو وابنه في قبور وإبراهيم بن الأشتر بمسكن بالقرب من الكوفة .
قال المدائني : وكان مقتل مصعب بن الزبير يوم الثلاثاء الثالث عشر من جمادى الأولى أو الآخرة من سنة إحدى وسبعين في قول الجمهور ، وقال المدائني : سنة ثنتين وسبعين . والله أعلم .
قالوا : ولما قتل عبد الملك مصعبا ارتحل إلى الكوفة فنزل النخيلة فوفدت عليه الوفود بها من رؤساء القبائل وسادات العرب ، وجعل يخاطبهم بفصاحة [ ص: 141 ] وبلاغة واستشهاد بأشعار حسنة ، وبايعه أهل العراق وفرق العمالات في الناس ، وولى الكوفة قطن بن عبد الله الحارثي أربعين يوما ، ثم عزله وولى أخاه بشر بن مروان عليها ، وخطب عبد الملك يوما بالكوفة فقال في خطبته : إن عبد الله بن الزبير لو كان خليفة كما يزعم لخرج فآسى بنفسه ، ولم يغرز ذنبه في الحرم . ثم قال لهم : إني قد استخلفت عليكم أخي بشر بن مروان وأمرته بالإحسان إلى أهل الطاعة ، وبالشدة على أهل المعصية ، فاسمعوا له وأطيعوا .
وأما أهل البصرة فإنهم لما بلغهم مقتل مصعب تنازع في إمارتها ، و حمران بن أبان مولى عثمان بن عفان عبيد الله بن أبي بكرة ، فغلبه حمران بن أبان عليها فبايعه أهلها فكان أشرف الرجلين . قال أعرابي : والله لقد رأيت رداء ابن أبان مال عن عاتقه يوما ، فابتدره مروان ، و سعيد بن العاص أيهما يسويه على منكبيه . وقال غيره : مد حمران يوما رجله فابتدر معاوية ، و عبد الله بن عامر أيهما يغمزها . قال : فبعث [ ص: 142 ] عبد الملك بن مروان خالد بن عبد الله بن خالد بن أسيد واليا عليها - يعني على البصرة - فأخذها من حمران بن أبان واستناب فيها عبيد الله بن أبي بكرة ، وعزل حمران بن أبان عنها .
قالوا : وقد أمر عبد الملك بطعام كثير فعمل لأهل الكوفة فأكلوا من سماطه ، ومعه يومئذ على السرير عمرو بن حريث ، فقال له عبد الملك : ما ألذ عيشنا لو أن شيئا يدوم ، ولكن نحن كما قال الأول :
وكل جديد يا أميم إلى بلى وكل امرئ يوما يصير إلى كان
فلما فرغ الناس من الطعام نهض فدار في القصر ، وجعل يسأل عمرو بن حريث عن أحوال القصر ومن بنى أماكنه وبيوته ، فيخبره ، ثم جاء إلى مجلسه فاستلقى وهو يقول :
اعمل على مهل فإنك ميت واكدح لنفسك أيها الإنسان
فكأن ما قد كان لم يك إذ مضى وكأن ما هو كائن قد كان
قال ابن جرير وفيها رجع عبد الملك - فيما زعم الواقدي - إلى الشام .
[ ص: 143 ] قال : وفيها عزل ابن الزبير جابر بن الأسود عن المدينة ، وولى عليها ، وكان هو آخر أمرائه عليها ، حتى قدم عليها طلحة بن عبد الله بن عوف طارق بن عمرو مولى عثمان ، من جهة . عبد الملك بن مروان
وفيها حج بالناس عبد الله بن الزبير ، ولم يبق له ولاية على العراق .
قال الواقدي : وفيها عقد عبد العزيز بن مروان نائب مصر على غزو لحسان الغساني إفريقية ، فسار إليها في عدد كثير ، فافتتح قرطاجنة وكان أهلها روما عباد أصنام .
وفيها قتل نجدة الحروري الذي تغلب على اليمامة ، وفيها خرج عبد الله بن ثور في اليمامة .
وهذه مصعب بن الزبير رحمه الله ترجمة
وهو - ويقال له : مصعب بن الزبير بن العوام بن خويلد بن أسد بن عبد العزى بن قصي بن كلاب ، أبو عبد الله القرشي أبو عيسى أيضا - الأسدي . وأمه [ ص: 144 ] الرباب بنت أنيف الكلبية . كان من أحسن الناس وجها ، وأشجعهم قلبا ، وأسخاهم كفا .
وقد حكى عن عمر بن الخطاب ، وروى عن أبيه ، الزبير بن العوام وسعد ، ، وروى عنه وأبي سعيد الخدري ، الحكم بن عتيبة وعمرو بن دينار الجمحي ، ، ووفد على وإسماعيل بن أبي خالد معاوية ، وكان ممن يجالس ، وكان من أحسن الناس وجها . أبا هريرة
حكى الزبير بن بكار أن جميلا نظر إليه وهو واقف بعرفة ، فقال : إن هاهنا فتى أكره أن تراه بثينة . وقال الشعبي : ما رأيت أميرا قط على منبر أحسن منه . وكذا قال إسماعيل بن أبي خالد . وقال الحسن : هو أجمل أهل البصرة .
وقال : ولي إمرة الخطيب البغدادي العراقين لأخيه عبد الله بن الزبير ، حتى قتله عبد الملك بن مروان بمسكن في موضع قريب من أوانا على نهر دجيل عند دير الجاثليق ، وقبره إلى الآن معروف هناك . وقد ذكرنا صفة قتله المختار بن أبي عبيد ، وأنه قتل في غداة واحدة من أصحاب المختار سبعة [ ص: 145 ] آلاف . قال الواقدي : لما قتل مصعب المختار طلب أهل القصر من أصحاب المختار من مصعب الأمان فأمنهم ، ثم بعث إليهم عباد بن الحصين فجعل يخرجهم ملتفين ، فقال له رجل : الحمد لله الذي نصركم علينا ، وابتلانا بالأسر ، يابن الزبير من عفا عفا الله عنه ، ومن عاقب لا يأمن القصاص ، نحن أهل قبلتكم وعلى ملتكم وقد قدرت فاسمح واعف عنا . قال : فرق لهم مصعب وأراد أن يخلي سبيلهم ، فقام وغيره من كل قبيلة ، فقالوا : قد قتلوا أولادنا وعشائرنا ، وجرحوا منا خلقا ، اخترنا أو اخترهم . فأمر حينئذ بقتلهم ، فنادوا بأجمعهم : لا تقتلنا واجعلنا مقدمتك في قتال عبد الرحمن بن محمد بن الأشعث ، فإن ظفرنا فلكم ، وإن قتلنا لا نقتل حتى نقتل منهم طائفة وكان الذي تريد . فأبى ذلك عبد الملك بن مروان مصعب ، فقال له مسافر : اتق الله يا مصعب ، فإن الله عز وجل أمرك أن لا تقتل نفسا مسلمة بغير نفس ، وإن : من يقتل مؤمنا متعمدا فجزاؤه جهنم خالدا فيها وغضب الله عليه ولعنه وأعد له عذابا عظيما ( النساء : 93 ) فلم يسمع له ، بل أمر بضرب أعناقهم جميعهم ، وكانوا سبعة آلاف نفس ، ثم كتب مصعب إلى ابن الأشتر : إن أجبتني فلك الشام ، وأعنة الخيل . فسار ابن الأشتر إلى مصعب . وقيل : إن مصعبا لما قدم مكة أتى عبد الله بن عمر فقال : أي عم ، إني أسألك عن قوم خلعوا الطاعة ، وقاتلوا حتى إذا غلبوا تحصنوا ، وسألوا الأمان فأعطوه ، ثم قتلوا بعد ذلك . فقال : وكم هم ؟ قال : خمسة [ ص: 146 ] آلاف . فسبح ابن عمر واسترجع ، وقال : لو أن رجلا أتى ماشية الزبير فذبح منها خمسة آلاف ماشية في غداة واحدة ألست تعده مسرفا ؟ قال : نعم . قال : أفتراه إسرافا في البهائم ولا تراه إسرافا في من ترجو توبته ؟ ! يابن أخي أصب من الماء البارد ما استطعت في دنياك .
ثم إن مصعبا بعث برأس المختار إلى أخيه بمكة ، وتمكن مصعب في العراق تمكنا زائدا ، فقرر بها الولايات والعمال ، وحظي عنده فجعله على الوفادة ، ثم رحل إبراهيم بن الأشتر مصعب إلى أخيه بمكة فأعلمه بما فعل ، فأقره على ما صنع ، إلا لم يمض له ما جعله عليه . فقال له : أعمدت إلى راية خفضها الله ، تريد أن ترفعها ؟ ثم كشف عن ظهره فإذا ضربة قد أصابته ، وقال له : أتراني أحب إبراهيم بن الأشتر الأشتر وهو الذي جرحني هذه الجراحة . ثم استدعى بمن قدم مع مصعب من أهل العراق فقال لهم : والله لوددت أن لي بكل رجلين منكم رجلا من أهل الشام . فقال له أبو حاضر الأسدي - وكان قاضي الجماعة بالبصرة - : إن لنا ولكم مثلا قد مضى يا أمير المؤمنين ، وهو ما قال الأعشى :
علقتها عرضا وعلقت رجلا غيري وعلق أخرى غيرها الرجل
قلت كما قيل أيضا :
جننا بليلى وهي جنت بغيرنا وأخرى بنا مجنونة لا نريدها
علقناك يا أمير المؤمنين ، وعلقت أهل الشام ، وعلق أهل الشام إلى مروان فما عسينا أن نصنع ؟ قال الشعبي : فما سمعت جوابا أحسن منه ، وقال غيره : كان مصعب من أشد الناس محبة للنساء . وقد أعطاه الله من ذلك شيئا كثيرا ، كما روي أنه اجتمع عند الحجر الأسود جماعة ، فقالوا فيما بينهم : ليقم كل واحد منكم فليسأل عند الحجر الأسود من الله شيئا يحبه . فقام كل يسأل حاجته منهم ، وكان منهم مصعب بن الزبير سأل الله عز وجل أن يزوجه سكينة بنت الحسين ، - وكانتا أحسن النساء في ذلك العصر - وأن يعطيه الله إمرة وعائشة بنت طلحة العراقين . فأعطاه الله ذلك كله ؛ تزوج بعائشة بنت طلحة ، وكان صداقها مائة ألف دينار ، وكانت باهرة الجمال جدا ، وكان مصعب أيضا جميلا جدا ، وكذلك بقية زوجاته . قال الأصمعي ، عن ، عن أبيه قال : اجتمع في الحجر [ ص: 148 ] عبد الرحمن بن أبي الزناد مصعب ، و عروة ، و عبد الله ، بنو الزبير ، و عبد الله بن عمر ، فقالوا : تمنوا ، فقال عبد الله بن الزبير : أما أنا فأتمنى الخلافة ، وقال عروة : أما أنا فأتمنى أن يؤخذ عني العلم . وقال مصعب : أما أنا فأتمنى إمرة العراق والجمع بين عائشة بنت طلحة . وقال وسكينة بنت الحسين عبد الله بن عمر أما أنا فأتمنى المغفرة . قال : فنالوا كلهم ما تمنوا ، ولعل ابن عمر قد غفر الله له .
وقال عامر الشعبي : بينما أنا جالس يوما إذ دعاني الأمير مصعب بن الزبير فأدخلني دار الإمارة ، ثم كشف عن ستر فإذا وراءه فلم أر منظرا أبهى ، ولا أحسن منها . فقال : أتدري من هذه ؟ فقلت : لا . فقال : هذه عائشة بنت طلحة ، ثم خرجت ، فقالت عائشة بنت طلحة عائشة : من هذا الذي أظهرتني عليه ؟ قال : هذا عامر الشعبي . قالت : فأطلق له شيئا . فوهبني عشرة آلاف درهم . قال الشعبي : فكان أول مال ملكته .
وحكى أن الحافظ ابن عساكر تغضبت مرة على عائشة بنت طلحة مصعب فترضاها بأربعمائة ألف درهم فأطلقتها هي للمرأة التي أصلحت [ ص: 149 ] بينهما . وقيل : إنه أهديت له نخلة من ذهب ، ثمارها من صنوف الجواهر المثمنة ، فقومت بألفي ألف دينار ، وكانت من متاع الفرس فأعطاها لعبد الله بن أبي فروة . وقيل : إن أخاه عبد الله كان إذا كتب لأحد جائزة بألف درهم جعلها مصعب مائة ألف درهم .
وقد كان مصعب من أجود الناس وأكثرهم عطاء ، لا يستكثر ما يعطي ولو كان ما عساه أن يكون ; فكانت عطاياه للقوي والضعيف والوضيع والشريف متقاربة ، وكان أخوه عبد الله يبخل .
وروى في تاريخه أن الخطيب البغدادي مصعبا غضب مرة على رجل فأمر بضرب عنقه ، فقال له الرجل : أعز الله الأمير ، ما أقبح بمثلي أن يقوم يوم القيامة فيتعلق بأطرافك الحسنة ، وبوجهك الذي يستضاء به ، فأقول : يا رب سل مصعبا فيم قتلني ؟ فعفا عنه ، فقال الرجل : أعز الله الأمير ، إن رأيت أن تجعل ما وهبت لي من حياتي في عيش رخي . فأطلق له مائة ألف ، فقال الرجل : [ ص: 150 ] إني أشهدك أن نصفها لابن قيس الرقيات ; حيث يقول فيك :
إن مصعبا شهاب من الله تجلت عن وجهه الظلماء
ملكه ملك عزة ليس فيه جبروت منه ولا كبرياء
يتقي الله في الأمور وقد أف لح من كان همه الاتقاء
وفي رواية أنه قال له : أيها الأمير ، قد وهبتني حياة ، فإن استطعت أن تجعل ما قد وهبتني من الحياة في عيش رخي وسعة فافعل . فأمر له بمائة ألف .
وقال : حدثنا الإمام أحمد مؤمل ، حدثنا حماد بن سلمة ، ثنا علي بن زيد قال : بلغ مصعبا عن عريف الأنصار شيء فهم به ، فدخل عليه أنس بن مالك ، فقال له : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول : استوصوا بالأنصار خيرا - أو قال : معروفا - اقبلوا من محسنهم وتجاوزوا عن مسيئهم فألقى مصعب نفسه عن سريره وألصق خده بالبساط ، وقال : أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم على [ ص: 151 ] الرأس والعين فتركه .
مصعب في التواضع أنه قال : العجب من ابن آدم كيف يتكبر ، وقد جرى في مجرى البول مرتين ؟ ! ومن كلام
وقال محمد بن يزيد المبرد : سئل عن القاسم بن محمد مصعب فقال : كان نبيلا رئيسا نفيسا أنيسا .
وقد تقدم أنه لما ظهر المختار قتل من أصحابه في غداة واحدة خمسة آلاف وقيل سبعة آلاف ، فلما كان بعد ذلك لقي ابن عمر فسلم عليه فلم يعرفه ابن عمر ; لأنه كان قد انضر في عينيه فتعرف له حتى عرفه ، قال : أنت الذي قتلت في غداة واحدة خمسة آلاف ممن يوحد الله ؟ فاعتذر إليه بأنهم بايعوا المختار ، فقال : أما كان فيهم من هو مستكره أو جاهل فينظر حتى يتوب ؟ أرأيت لو أن رجلا جاء إلى غنم الزبير فنحر منها خمسة آلاف في غداة واحدة أما كان مسرفا ؟ قال : بلى . قال : وهي لا تعبد الله ولا تعرفه كما يعرفه الآدمي ويعبده ؛ فكيف بمن هو موحد ؟ ! ثم قال له : يا بني ، تمتع من الماء البارد في الدنيا ما استطعت . وفي رواية أنه قال له : عش ما استطعت .
[ ص: 152 ] وقال الزبير بن بكار : حدثني محمد بن الحسن ، عن زافر بن قتيبة عن الكلبي قال : قال يوما لجلسائه : من أشجع العرب ؟ قالوا : عبد الملك بن مروان شبيب ، قطري بن الفجاءة ، فلان ، فلان . فقال عبد الملك : إن أشجع العرب لرجل جمع بين ، سكينة بنت الحسين ، وأمة وعائشة بنت طلحة الحميد بنت عبد الله بن عامر بن كريز ، وأمه رباب بنت أنيف الكلبي ، سيد ضاحية العرب ، وولي العراقين خمس سنين ، فأصاب ألف ألف ، وألف ألف ، وألف ألف ، وأعطي الأمان ، فأبى ، ومشى بسيفه حتى مات ، ذلك مصعب بن الزبير ، لا من قطع الجسور مرة هاهنا ، ومرة هاهنا .
قالوا : وكان مقتله يوم الخميس النصف من جمادى الأولى سنة ثنتين وسبعين .
وقال الزبير بن بكار : حدثني فليح بن إسماعيل ، وجعفر بن أبي [ ص: 153 ] كثير ، عن أبيه ، قال : لما وضع رأس مصعب بين يدي عبد الملك قال :
لقد أردى الفوارس يوم عبس غلاما غير مناع المتاع
ولا فرح لخير إن أتاه ولا هلع من الحدثان لاع
ولا وقافة والخيل تعدو ولا خال كأنبوب اليراع
فقال الرجل الذي جاء برأسه : والله يا أمير المؤمنين لو رأيته والرمح في يده تارة ، والسيف تارة ; يفري بهذا ، ويطعن بهذا ، لرأيت رجلا يملأ القلب والعين شجاعة وإقداما ، ولكنه لما تفرقت رجاله ، وكثر من قصده وبقي وحده ما زال ينشد :
وإني على المكروه عند حضوره أكذب نفسي والجفون له تغضي
وما ذاك من ذل ولكن حفيظة أذب بها عند المكارم عن عرضي
وإني لأهل الشر بالشر مرصد وإني لذي سلم أذل من الأرض
فقال عبد الملك : كان والله كما وصف به نفسه وصدق ، ولقد كان من أحب الناس إلي ، وأشدهم لي إلفا ومودة ، ولكن الملك عقيم .
[ ص: 154 ] وروى يعقوب بن سفيان ، عن سليمان بن حرب ، عن غسان بن مضر ، عن سعيد بن يزيد ، أن عبيد الله بن زياد بن ظبيان قتل مصعبا عند دير الجاثليق على شاطئ نهر يقال له : دجيل ، من أرض مسكن ، واحتز رأسه فذهب به إلى عبد الملك فسجد شكرا لله ، وكان ابن ظبيان فاتكا رديا ، وكان يقول : ليتني قتلت عبد الملك حين سجد يومئذ ، فأكون قد قتلت ملكي العرب .
قال يعقوب : وكان ذلك سنة ثنتين وسبعين . قلت : وكذا قال علي بن محمد المدائني . والذي رجحه ابن جرير وغيره أنه سنة إحدى وسبعين ، والله أعلم .
وحكى الزبير بن بكار في عمره يوم قتل ثلاثة أقوال ; أحدها خمس وثلاثون سنة ، والثاني أربعون سنة ، والثالث خمس وأربعون سنة . فالله أعلم .
وروى ، أن امرأته الخطيب البغدادي كانت معه في هذه الوقعة ، فلما قتل تطلبته في القتلى حتى عرفته بشامة في فخذه . [ ص: 155 ] فقالت : نعم بعل المرأة المسلمة كنت ، أدركك والله ما قال سكينة بنت الحسين عنترة :
وحليل غانية تركت مجدلا بالقاع لم يعهد ولم يتثلم
فهتكت بالرمح الطويل إهابه ليس الكريم على القنا بمحرم
قال الزبير : وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا :
لقد أورث المصرين خزيا وذلة قتيل بدير الجاثليق مقيم
فما نصحت لله بكر بن وائل ولا صدقت يوم اللقاء تميم
ولو كان بكريا تعطف حوله كتائب يغلي حميها ويدوم
ولكنه ضاع الذمام ولم يكن بها مضري يوم ذاك كريم
جزى الله كوفيا هناك ملامة وبصريهم إن الملوم ملوم
وإن بني العلات أخلوا ظهورنا ونحن صريح بينهم وصميم
فإن نفن لا يبقى أولئك بعدنا لذي حرمة في المسلمين حريم
[ ص: 156 ] وقال عبيد الله بن قيس الرقيات يرثي مصعبا أيضا :
نعت السحائب والغمام بأسرها جسدا بمسكن عاري الأوصال
تمسي عوائذه السباع وداره بمنازل أطلالهن بوالي
رحل الرفاق وغادروه ثاويا للريح بين صبا وبين شمال
وقد قال : ثنا أبو حاتم الرازي يحيى بن مصعب الكلبي ، ثنا أبو بكر بن عياش ، عن قال : دخلت القصر عبد الملك بن عمير بالكوفة فإذا رأس الحسين بن علي على ترس بين يدي عبيد الله بن زياد ، وعبيد الله على السرير ، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس عبيد الله بن زياد على ترس بين يدي المختار ، والمختار على السرير ، ثم دخلت القصر بعد ذلك بحين فرأيت رأس المختار على ترس بين يدي مصعب بن الزبير ، ومصعب على السرير ، ثم دخلت القصر بعد حين فرأيت رأس مصعب بن الزبير على ترس بين يدي عبد الملك ، وعبد الملك على السرير ، وقد حكاها وغير واحد عن الإمام أحمد رحمه الله . عبد الملك بن عمير
فصل ( ) خطبة عبد الله بن الزبير في مقتل أخيه مصعب
[ ص: 157 ] قال ابن جرير : وذكر أبو زيد ، عن أبي غسان محمد بن يحيى ، حدثني مصعب بن عثمان قال : لما انتهى إلى عبد الله بن الزبير قتل أخيه مصعب ، قام في الناس خطيبا فقال : الحمد لله الذي له الخلق والأمر ، يؤتي الملك من يشاء ، وينزع الملك ممن يشاء ، ويعز من يشاء ويذل من يشاء ، ألا وإنه لم يذل الله من كان الحق معه ، وإن كان فردا وحده ، ولن يفلح من كان وليه الشيطان وحزبه ، ولو كان معه الأنام طرا ، ألا وإنه أتانا من العراق خبر أحزننا وأفرحنا ، أتانا قتل مصعب رحمه الله ، فأما الذي أفرحنا فعلمنا أن قتله له شهادة ، وأما الذي أحزننا فإن لفراق الحميم لوعة يجدها حميمه عند المصيبة به ، ثم يرعوي من بعدها ، وذو الرأي جميل الصبر كريم العزاء ، ولئن أصبت بمصعب فلقد أصبت بالزبير قبله ، وما أنا من عثمان بخلو مصيبة ، وما مصعب إلا عبد من عبيد الله ، وعون من أعواني ، ألا وإن أهل العراق أهل الغدر والنفاق ، أسلموه وباعوه بأقل الثمن ، فإن يقتل فإنا والله ما نموت على مضاجعنا كما تموت بنو أبي العاص ; والله ما قتل رجل في زحف في الجاهلية ولا في الإسلام ، وما نموت إلا بأطراف الرماح أو تحت ظل السيوف ، ألا وإن الدنيا عارية من الملك الأعلى الذي لا يزول سلطانه ولا يبيد ملكه ، فإن تقبل الدنيا لا آخذها أخذ الأشر البطر ، وإن تدبر لا أبك عليها بكاء الحزين المهين ، أقول قولي هذا ، وأستغفر الله لي ولكم .