المحنة : 
قال عمرو بن حكام   : حدثنا شعبة  ، عن قتادة  ، عن عكرمة  ، عن ابن عباس  ، قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يمنعن أحدكم مخافة الناس أن يتكلم بحق علمه تفرد به عمرو  ، وليس بحجة . 
وقال سليمان بن بنت شرحبيل  ، حدثنا عيسى بن يونس  ، عن سليمان  [ ص: 233 ] التيمي  ، عن  أبي نضرة  ، عن أبي سعيد   : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يمنعن أحدكم هيبة الناس أن يقول بالحق إذا رآه أو سمعه غريب فرد . 
وقال حماد بن سلمة  ، ومعلى بن زياد   - وهذا لفظه - عن أبي غالب  ، عن أبي أمامة  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : أحب الجهاد إلى الله كلمة حق تقال لإمام جائر  . 
إسحاق بن موسى الخطمي   : حدثنا أبو بكر بن عبد الرحمن  ، حدثنا يعقوب بن محمد بن عبد الرحمن القاري  ، عن أبيه ، عن جده ، أن عمر  كتب إلى معاوية   : أما بعد ، فالزم الحق ، ينزلك الحق منازل أهل الحق ، يوم لا يقضى إلا بالحق . 
وبإسناد واه عن أبي ذر   : أبى الحق أن يترك له صديقا  .  [ ص: 234 ] 
الصدع بالحق عظيم ، يحتاج إلى قوة وإخلاص ، فالمخلص بلا قوة يعجز عن القيام به ، والقوي بلا إخلاص يخذل ، فمن قام بهما كاملا ، فهو صديق . ومن ضعف ، فلا أقل من التألم والإنكار بالقلب . ليس وراء ذلك إيمان ، فلا قوة إلا بالله . 
 سفيان الثوري  ، عن الحسن بن عمرو  ، عن محمد بن مسلم مولى حكيم بن حزام  ، عن عبد الله بن عمرو  قال : قال النبي - صلى الله عليه وسلم - : إذا رأيتم أمتي تهاب الظالم أن تقول له : إنك ظالم ، فقد تودع منهم هكذا رواه جماعة عن سفيان   . 
ورواه النضر بن إسماعيل  ، عن الحسن  ، فقال : عن مجاهد  ، عن عبد الله بن عمرو  مرفوعا . ورواه سيف بن هارون  عن الحسن  ، فقال : عن  أبي الزبير   : سمعت عبد الله بن عمرو  مرفوعا . 
 سفيان الثوري  ، عن زبيد  ، عن عمرو بن مرة  ، عن أبي البختري  ،  [ ص: 235 ] عن أبي سعيد  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : لا يحقرن أحدكم نفسه أن يرى أمرا لله فيه مقال ، فلا يقول فيه ، فيقال له : ما منعك ؟ فيقول : مخافة الناس . فيقول : فإياي كنت أحق أن تخاف رواه الفريابي  وأبو نعيم  وخلاد  عنه . 
حماد بن زيد  ، عن أيوب  ، عن أبي قلابة  ، عن أبي أسماء  ، عن ثوبان  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : إن أخوف ما أخاف على أمتي الأئمة المضلون ، وإذا وضع السيف عليهم ، لم يرفع عنهم إلى يوم القيامة ، ولا تزال طائفة من أمتي على الحق ظاهرين ، لا يضرهم من خالفهم أو خذلهم حتى يأتي أمر الله  . 
الحسين بن موسى   : حدثنا  الحسين بن الفضل البجلي  ، حدثنا عبد العزيز بن يحيى المكي  ، حدثنا سليم بن مسلم  ، عن  ابن جريج  ، عن  [ ص: 236 ] عطاء  ، عن ابن عباس  قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : " لله عند إحداث كل بدعة تكيد الإسلام ولي يذب عن دينه  " . الحديث . هذا موضوع ، ما رواه  ابن جريج   . 
كان الناس أمة واحدة ، ودينهم قائما في خلافة أبي بكر  وعمر   . فلما استشهد قفل باب الفتنة عمر   - رضي الله عنه - وانكسر الباب ، قام رءوس الشر على الشهيد عثمان  حتى ذبح صبرا . وتفرقت الكلمة وتمت وقعة الجمل ، ثم وقعة صفين   . فظهرت الخوارج  ، وكفرت سادة الصحابة ، ثم ظهرت الروافض  والنواصب   . 
وفي آخر زمن الصحابة ظهرت القدرية  ، ثم ظهرت المعتزلة  بالبصرة  ، والجهمية  والمجسمة  بخراسان  في أثناء عصر التابعين مع ظهور السنة وأهلها . 
إلى بعد المائتين ، فظهر المأمون الخليفة   - وكان ذكيا متكلما ، له نظر في المعقول - فاستجلب كتب الأوائل ، وعرب حكمة اليونان ، وقام في ذلك وقعد ، وخب ووضع ، ورفعت الجهمية  والمعتزلة  رءوسها ، بل والشيعة  ، فإنه كان كذلك . وآل به الحال إلى أن حمل الأمة على القول بخلق القرآن ، وامتحن العلماء ، فلم يمهل . وهلك لعامه ، وخلى بعده شرا وبلاء في الدين . فإن الأمة ما زالت على أن القرآن العظيم كلام الله - تعالى - ووحيه وتنزيله ، لا يعرفون غير ذلك ، حتى نبغ لهم القول بأنه كلام الله مخلوق مجعول ، وأنه إنما يضاف إلى الله - تعالى - إضافة تشريف ، كبيت الله ، وناقة الله . فأنكر ذلك العلماء . ولم تكن الجهمية  يظهرون في دولة المهدي  والرشيد  والأمين  فلما ولي المأمون  ، كان منهم ، وأظهر المقالة . 
روى  أحمد بن إبراهيم الدورقي  ، عن محمد بن نوح   : أن الرشيد  قال : بلغني أن  بشر بن غياث المريسي  يقول : القرآن مخلوق ، فلله علي  [ ص: 237 ] إن أظفرني به ، لأقتلنه . قال الدورقي   : وكان متواريا أيام الرشيد  فلما مات الرشيد  ، ظهر ، ودعا إلى الضلالة . 
قلت : ثم إن المأمون  نظر في الكلام ، وناظر ، وبقي متوقفا في الدعاء إلى بدعته . 
قال  أبو الفرج بن الجوزي   : خالطه قوم من المعتزلة  ، فحسنوا له القول بخلق القرآن ، وكان يتردد ويراقب بقايا الشيوخ ، ثم قوي عزمه ، وامتحن الناس . 
أخبرنا المسلم بن محمد  في كتابه : أخبرنا أبو اليمن الكندي  ، أخبرنا أبو منصور الشيباني  ، أخبرنا أبو بكر الخطيب  ، أخبرنا أبو بكر الحيري  ، أخبرنا أبو العباس الأصم  ، أخبرنا يحيى بن أبي طالب  ، أخبرني الحسن بن شاذان الواسطي  ، حدثني  ابن عرعرة  ، حدثني ابن أكثم  قال : قال لنا المأمون   : لولا مكان  يزيد بن هارون  ، لأظهرت أن القرآن مخلوق . فقال بعض جلسائه : يا أمير المؤمنين ، ومن يزيد  حتى يتقى ؟ فقال : ويحك ! إني أخاف إن أظهرته فيرد علي يختلف الناس ، وتكون فتنة ، وأنا أكره الفتنة . فقال الرجل : فأنا أخبر ذلك منه ، قال له : نعم . فخرج إلى واسط  ، فجاء إلى يزيد  ، وقال : يا أبا خالد  ، إن أمير المؤمنين يقرئك السلام ، ويقول لك : إني أريد أن أظهر خلق القرآن ، فقال : كذبت على أمير المؤمنين . أمير المؤمنين لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه . فإن كنت صادقا ، فاقعد . فإذا اجتمع الناس في المجلس ، فقل . قال : فلما أن كان الغد ، اجتمعوا . فقام ، فقال كمقالته ، فقال يزيد   : كذبت على أمير المؤمنين ، إنه لا يحمل الناس على ما لا يعرفونه ، وما لم يقل به أحد . قال : فقدم ، وقال : يا أمير المؤمنين ، كنت أعلم ، وقص عليه ، قال : ويحك يلعب بك !!  [ ص: 238 ] 
قال صالح بن أحمد   : سمعت أبي ، يقول : لما دخلنا على إسحاق بن إبراهيم  للمحنة ، قرأ علينا كتاب الذي صار إلى طرسوس  ، يعني : المأمون  ، فكان فيما قرئ علينا : ليس كمثله شيء  و هو خالق كل شيء  فقلت وهو السميع البصير  قال صالح   : ثم امتحن القوم ، ووجه بمن امتنع إلى الحبس ، فأجاب القوم جميعا غير أربعة : أبي ، ومحمد بن نوح  ، والقواريري  ، والحسن بن حماد سجادة   . ثم أجاب هذان ، وبقي أبي ومحمد  في الحبس أياما ، ثم جاء كتاب من طرسوس  بحملهما مقيدين زميلين . 
 الطبراني   : حدثنا عبد الله بن أحمد  ، حدثني أبو معمر القطيعي  قال : لما أحضرنا إلى دار السلطان أيام المحنة ، وكان  أحمد بن حنبل  قد أحضر فلما رأى الناس يجيبون ، وكان رجلا لينا ، فانتفخت أوداجه ، واحمرت عيناه ، وذهب ذلك اللين . فقلت : إنه قد غضب لله ، فقلت أبشر : حدثنا ابن فضيل  ، عن الوليد بن عبد الله بن جميع  ، عن أبي سلمة  قال : كان من أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من إذا أريد على شيء من أمر دينه ، رأيت حماليق عينيه في رأسه تدور كأنه مجنون  . 
أخبرنا عمر بن القواس  ، عن الكندي  ، أخبرنا الكروخي  ، أخبرنا شيخ الإسلام ، أخبرنا أبو يعقوب  ، حدثنا الحسين بن محمد الخفاف   : سمعت ابن أبي أسامة  يقول : حكي لنا أن أحمد  قيل له أيام المحنة : يا أبا عبد الله  ، أو لا ترى الحق كيف ظهر عليه الباطل ؟ قال : كلا ، إن ظهور الباطل على الحق أن تنتقل القلوب من الهدى إلى الضلالة ، وقلوبنا بعد لازمة للحق . 
الأصم : حدثنا عباس الدوري   : سمعت أبا جعفر الأنباري  يقول :  [ ص: 239 ] لما حمل أحمد  إلى المأمون  ، أخبرت ، فعبرت الفرات  ، فإذا هو جالس في الخان ، فسلمت عليه ، فقال : يا أبا جعفر  ، تعنيت . فقلت : يا هذا أنت اليوم رأس ، والناس يقتدون بك ، فوالله لئن أجبت إلى خلق القرآن ، ليجيبن خلق ، وإن أنت لم تجب ، ليمتنعن خلق من الناس كثير . ومع هذا فإن الرجل إن لم يقتلك فإنك تموت ، لا بد من الموت ، فاتق الله ولا تجب . فجعل أحمد  يبكي ، ويقول : ما شاء الله . ثم قال : يا أبا جعفر  ، أعد علي فأعدت عليه ، وهو يقول : ما شاء الله . 
قال أحمد بن محمد بن إسماعيل الأدمي   : حدثنا الفضل بن زياد  ، سمعت  أحمد بن حنبل  يقول : أول يوم امتحنه إسحاق  ، لما خرج من عنده ، وذلك في جمادى الآخرة سنة ثماني عشرة ومائتين ، فقعد في مسجده ، فقال له جماعة : أخبرنا بمن أجاب . فكأنه ثقل عليه ، فكلموه أيضا . قال : فلم يجب أحد من أصحابنا ، والحمد لله . ثم ذكر من أجاب ومن واتاهم على أكثر ما أرادوا . فقال : هو مجعول محدث . وامتحنهم مرة مرة ، وامتحنني مرتين مرتين . فقال لي : ما تقول في القرآن ؟ قلت : كلام الله غير مخلوق . 
فأقامني وأجلسني في ناحية ، ثم سألهم ، ثم ردني ثانية ، فسألني وأخذني في التشبيه . فقلت : ليس كمثله شيء وهو السميع البصير  فقال لي : وما السميع البصير ؟ فقلت : هكذا قال تعالى . 
قال  محمد بن إبراهيم البوشنجي   : جعلوا يذاكرون أبا عبد الله  بالرقة  في التقية وما روي فيها . فقال : كيف تصنعون بحديث خباب   : إن من كان قبلكم كان ينشر أحدهم بالمنشار ، لا يصده ذلك عن دينه فأيسنا منه .  [ ص: 240 ] 
وقال : لست أبالي بالحبس ، ما هو ومنزلي إلا واحد ، ولا قتلا بالسيف ، إنما أخاف فتنة السوط . فسمعه بعض أهل الحبس ، فقال : لا عليك يا أبا عبد الله  ، فما هو إلا سوطان ، ثم لا تدري أين يقع الباقي ، فكأنه سري عنه . 
قال : وحدثني من أثق به ، عن محمد بن إبراهيم بن مصعب  ، وهو يومئذ صاحب شرطة المعتصم  خلافة لأخيه إسحاق بن إبراهيم  قال : ما رأيت أحدا لم يداخل السلطان ، ولا خالط الملوك ، كان أثبت قلبا من أحمد  يومئذ ، ما نحن في عينه إلا كأمثال الذباب . 
وحدثني بعض أصحابنا عن أبي عبد الرحمن الشافعي  أو هو حدثني أنهم أنفذوه إلى أحمد  في محبسه ليكلمه في معنى التقية ، فلعله يجيب . قال : فصرت إليه أكلمه ، حتى إذا أكثرت وهو لا يجيبني . ثم قال لي : ما قولك اليوم في سجدتي السهو ؟ وإنما أرسلوه إلى أحمد  للإلف الذي كان بينه وبين أحمد  أيام لزومهم  الشافعي   . فإن أبا عبد الرحمن  كان يومئذ ممن يتقشف ويلبس الصوف ، وكان أحفظ أصحاب  الشافعي  للحديث من قبل أن يتبطن بمذاهبه المذمومة . ثم لم يحدث أبو عبد الله  بعدما أنبأتك أنه حدثني في أول خلافة الواثق  ، ثم قطعه إلى أن مات ، إلا ما كان في زمن المتوكل   .  [ ص: 241 ] 
قال صالح بن أحمد   : حمل أبي ومحمد بن نوح  من بغداد  مقيدين ، فصرنا معهما إلى الأنبار   . فسأل أبو بكر الأحول  أبي : يا أبا عبد الله  ، إن عرضت على السيف ، تجيب ؟ قال : لا . ثم سيرا ، فسمعت أبي يقول : صرنا إلى الرحبة ورحلنا منها في جوف الليل ، فعرض لنا رجل ، فقال : أيكم  أحمد بن حنبل  ؟ فقيل له : هذا ، فقال للجمال : على رسلك ، ثم قال : يا هذا ، ما عليك أن تقتل هاهنا ، وتدخل الجنة ؟ ثم قال : أستودعك الله ، ومضى . فسألت عنه ، فقيل لي : هذا رجل من العرب من ربيعة  يعمل الشعر في البادية ، يقال له : جابر بن عامر  ، يذكر بخير . 
أحمد بن أبي الحواري   : حدثنا إبراهيم بن عبد الله  قال : قال  أحمد بن حنبل   : ما سمعت كلمة منذ وقعت في هذا الأمر أقوى من كلمة أعرابي كلمني بها في رحبة طوق . قال : يا أحمد  ، إن يقتلك الحق ، مت شهيدا ، وإن عشت ، عشت حميدا . فقوى قلبي  . 
قال صالح بن أحمد   : قال أبي : فلما صرنا إلى أذنة ورحلنا منها في جوف الليل ، وفتح لنا بابها ، إذا رجل قد دخل . فقال : البشرى ! قد مات الرجل; يعني : المأمون   . قال أبي : وكنت أدعو الله أن لا أراه . 
 محمد بن إبراهيم البوشنجي   : سمعت  أحمد بن حنبل  يقول : تبينت الإجابة في دعوتين : دعوت الله أن لا يجمع بيني وبين المأمون  ،  [ ص: 242 ] ودعوته أن لا أرى المتوكل   . فلم أر المأمون  ، مات بالبذندون  قلت وهو نهر الروم    . وبقي أحمد  محبوسا بالرقة  حتى بويع المعتصم  إثر موت أخيه ، فرد أحمد  إلى بغداد   . وأما المتوكل  فإنه نوه بذكر الإمام أحمد  ، والتمس الاجتماع به ، فلما أن حضر أحمد  دار الخلافة بسامراء  ليحدث ولد المتوكل  ويبرك عليه ، جلس له المتوكل  في طاقة ، حتى نظر هو وأمه منها إلى أحمد  ، ولم يره أحمد   . 
قال صالح   : لما صدر أبي ومحمد بن نوح  إلى طرسوس  ، ردا في أقيادهما . فلما صار إلى الرقة  ، حملا في سفينة ، فلما وصلا إلى عانة  توفي محمد  ، وفك قيده ، وصلى عليه أبي . 
وقال حنبل   : قال أبو عبد الله   : ما رأيت أحدا على حداثة سنه ، وقدر علمه أقوم بأمر الله من محمد بن نوح  ، إني لأرجو أن يكون قد ختم له بخير . قال لي ذات يوم : يا أبا عبد الله  ، الله الله ، إنك لست مثلي . أنت رجل يقتدى بك . قد مد الخلق أعناقهم إليك ، لما يكون منك ، فاتق الله واثبت لأمر الله ، أو نحو هذا . فمات ، وصليت عليه ، ودفنته . أظن قال : بعانة   . 
قال صالح   : وصار أبي إلى بغداد  مقيدا . فمكث بالياسرية  أياما ،  [ ص: 243 ] ثم حبس في دار اكتريت عند دار عمارة ، ثم حول إلى حبس العامة في ، درب الموصلية   . فقال : كنت أصلي بأهل السجن ، وأنا مقيد . فلما كان ، في رمضان سنة تسع عشر - قلت : وذلك بعد موت المأمون  بأربعة عشر شهرا - حولت إلى دار إسحاق بن إبراهيم  ، يعني : نائب بغداد   . وأما حنبل  ، فقال : حبس أبو عبد الله  في دار عمارة ببغداد  في إصطبل الأمير محمد بن إبراهيم  أخي إسحاق بن إبراهيم  ، وكان في حبس ضيق ، ومرض في رمضان . ثم حول بعد قليل إلى سجن العامة ، فمكث في ، السجن نحوا من ثلاثين شهرا . وكنا نأتيه ، فقرأ علي كتاب " الإرجاء " وغيره في الحبس ، ورأيته يصلي بهم في القيد ، فكان يخرج رجله من حلقة القيد وقت الصلاة والنوم . 
قال صالح بن أحمد   : قال أبي : كان يوجه إلي كل يوم برجلين ، أحدهما يقال له : أحمد بن أحمد بن رباح  ، والآخر أبو شعيب الحجام  ، فلا يزالان يناظراني ، حتى إذا قاما دعي بقيد ، فزيد في قيودي ، فصار - في رجلي أربعة أقياد . فلما كان في اليوم الثالث ، دخل علي فناظرني ، فقلت له : ما تقول في علم الله ؟ قال : مخلوق . قلت : كفرت بالله فقال الرسول الذي كان يحضر من قبل إسحاق بن إبراهيم   : إن هذا رسول أمير المؤمنين . فقلت : إن هذا قد كفر . فلما كان في الليلة الرابعة ، وجه ، يعني : المعتصم  ، ببغا الكبير  إلى إسحاق  ، فأمره بحملي إليه ، فأدخلت على إسحاق  ، فقال : يا أحمد ،  إنها والله نفسك ، إنه لا يقتلك بالسيف ، إنه قد آلى ، إن لم تجبه ، أن يضربك ضربا بعد ضرب ، وأن يقتلك في موضع لا يرى فيه شمس ولا قمر . أليس قد قال الله تعالى :  [ ص: 244 ] إنا جعلناه قرآنا عربيا  أفيكون مجعولا إلا مخلوقا ؟ فقلت : فقد قال تعالى : فجعلهم كعصف مأكول  أفخلقهم ؟ 
قال : فسكت . فلما صرنا إلى الموضع المعروف بباب البستان  ، أخرجت ، وجيء بدابة فأركبت وعلي الأقياد ، ما معي من يمسكني ، فكدت غير مرة أن أخر على وجهي لثقل القيود . فجيء بي إلى دار المعتصم  ، فأدخلت حجرة ، ثم أدخلت بيتا ، وأقفل الباب علي في جوف الليل ولا سراج . فأردت الوضوء ، فمددت يدي ، فإذا أنا بإناء فيه ماء ، وطست موضوع ، فتوضأت وصليت . 
فلما كان من الغد ، أخرجت تكتي ، وشددت بها الأقياد أحملها ، وعطفت سراويلي . فجاء رسول المعتصم  ، فقال : أجب فأخذ بيدي ، وأدخلني عليه ، والتكة في يدي ، أحمل بها الأقياد ، وإذا هو جالس ، وأحمد بن أبي دواد  حاضر ، وقد جمع خلقا كثيرا من أصحابه . فقال لي المعتصم   : ادنه ادنه . فلم يزل يدنيني حتى قربت منه . ثم قال : اجلس ، فجلست ، وقد أثقلتني الأقياد ، فمكثت قليلا ، ثم قلت : أتأذن في الكلام ؟ قال تكلم ، فقلت : إلى ما دعا الله ورسوله ؟ فسكت هنية ثم قال : إلى شهادة أن لا إله إلا الله ، فقلت : فأنا أشهد أن لا إله إلا الله . ثم قلت : إن جدك ابن عباس  يقول : لما قدم وفد عبد القيس  على رسول الله ، سألوه عن الإيمان ، فقال : أتدرون ما الإيمان ؟ قالوا : الله  [ ص: 245 ] ورسوله أعلم ، قال : شهادة أن لا إله إلا الله ، وأن محمدا رسول الله ، وإقام الصلاة وإيتاء الزكاة ، وأن تعطوا الخمس من المغنم قال أبي : فقال ، يعني : المعتصم   : لولا أني وجدتك في يد من كان قبلي ، ما عرضت لك . 
ثم قال : يا عبد الرحمن بن إسحاق  ، ألم آمرك برفع المحنة ؟ فقلت : الله أكبر ! إن في هذا لفرجا للمسلمين . ثم قال لهم : ناظروه ، وكلموه ، يا عبد الرحمن  كلمه . فقال : ما تقول في القرآن ؟ قلت : ما تقول أنت في علم الله ؟ فسكت ، فقال لي بعضهم : أليس قال الله تعالى الله خالق كل شيء  ؟ والقرآن أليس شيئا ؟ فقلت : 
قال الله تدمر كل شيء  فدمرت إلا ما أراد الله . . فقال بعضهم : ما يأتيهم من ذكر من ربهم محدث  أفيكون محدث إلا مخلوقا ؟ فقلت : قال الله : ص والقرآن ذي الذكر  فالذكر هو القرآن ، وتلك ليس فيها ألف ولام . وذكر بعضهم حديث عمران بن حصين   " إن الله خلق الذكر  " ، فقلت : هذا خطأ ، حدثنا غير واحد : " إن الله كتب الذكر  " واحتجوا بحديث  [ ص: 246 ] ابن مسعود   : ما خلق الله من جنة ولا نار ولا سماء ولا أرض أعظم من آية الكرسي فقلت : إنما وقع الخلق على الجنة والنار والسماء والأرض ، ولم يقع على القرآن . فقال بعضهم : حديث خباب   : يا هنتاه ، تقرب إلى الله بما استطعت ، فإنك لن تتقرب إليه بشيء أحب إليه من كلامه فقلت : هكذا هو . 
قال صالح   : وجعل ابن أبي دواد  ينظر إلى أبي كالمغضب . قال أبي : وكان يتكلم هذا ، فأرد عليه . ويتكلم هذا ، فأرد عليه ، فإذا انقطع الرجل منهم ، اعترض ابن أبي دواد  ، فيقول : يا أمير المؤمنين ، هو ، والله ، ضال مضل مبتدع ! فيقول : كلموه ، ناظروه ، فيكلمني هذا ، فأرد عليه ، ويكلمني هذا ، فأرد عليه ، فإذا انقطعوا ، يقول المعتصم   : ويحك يا أحمد  ، ما تقول ؟ فأقول : يا أمير المؤمنين ، أعطوني شيئا من كتاب الله  [ ص: 247 ] أو سنة رسول الله - صلى الله عليه وسلم - حتى أقول به . فيقول أحمد بن أبي دواد   : أنت لا تقول إلا ما في الكتاب أو السنة ؟ فقلت له : تأولت تأويلا ، فأنت أعلم وما تأولت ما يحبس عليه ، ولا يقيد عليه . 
قال حنبل   : قال أبو عبد الله   : لقد احتجوا علي بشيء ما يقوى قلبي ، ولا ينطلق لساني أن أحكيه . أنكروا الآثار ، وما ظننتهم على هذا حتى سمعته ، وجعلوا يرغون ، يقول الخصم كذا وكذا فاحتججت عليهم بالقرآن بقوله : يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر  أفهذا منكر عندكم ؟ فقالوا : شبه ، يا أمير المؤمنين ، شبه . 
				
						
						
