( أولا يرون أنهم يفتنون في كل عام مرة أو مرتين ثم لا يتوبون ولا هم يذكرون ) : لما ذكر أنهم بموتهم على الكفر رائحون إلى عذاب الآخرة ، ذكر أنهم أيضا في الدنيا لا يخلصون من عذابها . والضمير في ( يرون ) عائد على ( الذين في قلوبهم مرض ) ، وذلك على قراءة الجمهور بالياء . وقرأ حمزة : بالتاء خطابا للمؤمنين . والرؤية يحتمل أن تكون من رؤية القلب ، ومن رؤية البصر . وقرأ أبي ، وابن مسعود : ( أولا ترى ) أي : أنت يا والأعمش محمد ؟ وعن أيضا : ( أولم تروا ) ، وقال الأعمش أبو حاتم عنه : ( أولم يروا ) . قال مجاهد : ( يفتنون ) يختبرون بالسنة والجوع . وقال النقاش عنه : مرضة أو مرضتين . وقال الحسن وقتادة : يختبرون بالأمر بالجهاد . قال ابن عطية : والذي يظهر مما قبل الآية ومما بعدها أن الفتنة والاختبار إنما هي بكشف الله أسرارهم وإفشائه عقائدهم ، فهذا هو الاختبار الذي تقوم عليه الحجة برؤيته وترك التوبة . وأما الجهاد أو الجوع فلا يترتب معهما ما ذكرناه ، فمعنى الآية على هذا : أفلا يزدجر هؤلاء الذين تفضح سرائرهم كل سنة مرة أو مرتين بحسب واحد واحد ، ويعلمون أن ذلك من عند الله فيتوبون ، ويذكرون وعد الله ووعيده . انتهى . وقاله مختصرا مقاتل ، قال : يفضحون بإظهار نفاقهم ، وأما الاختبار بالمرض فهو في المؤمنين ، وقد كان الحسن ينشد :
أفي كل عام مرضة ثم نقهة فحتى متى حتى متى وإلى متى
وقالت فرقة : معنى ( يفتنون ) بما يشيعه المشركون على رسول الله صلى الله عليه وسلم من الأكاذيب والأراجيف ، وأن ملوك الروم قاصدون بجيوشهم وجموعهم إليهم ، وإليه الإشارة بقوله : ( لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض ) فكان الذين في قلوبهم مرض يفتنون في ذلك . وحكى هذا القول عن الطبري حذيفة ، وهو غريب من المعنى . وقال : ( الزمخشري يفتنون ) يبتلون بالمرض [ ص: 117 ] والقحط وغيرهما من بلاء الله تعالى ، ثم لا ينتهون ولا يتوبون من نفاقهم ، ولا يذكرون ولا يعتبرون ولا ينظرون في أمرهم ، أو يبتلون بالجهاد مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ويعاينون أمره وما ينزل الله تعالى عليه من النصر وتأييده ، أو يفتنهم الشيطان فيكذبون وينقضون العهود مع رسول الله صلى الله عليه وسلم فيقتلهم وينكل بهم ، ثم لا ينزجرون . وقرأ : ( ولا هم يتذكرون ) . ابن مسعود
( صرف الله قلوبهم بأنهم قوم لا يفقهون وإذا ما أنزلت سورة نظر بعضهم إلى بعض هل يراكم من أحد ثم انصرفوا ) ذكر أولا ما يحدث عنهم من القول على سبيل الاستهزاء ، ثم ذكر ثانيا ما يصدر منهم من الفعل على سبيل الاستهزاء ، وهو الإيماء والتغامز بالعيون إنكارا للوحي وسخرية ، قائلين : هل يراكم من أحد من المسلمين لننصرف ، فإنا لا نقدر على استماعه ويغلبنا الضحك ، فنخاف الافتضاح بينهم ، أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج والانسلال لواذا ، يقولون : هل يراكم من أحد ؟ والظاهر إطلاق السورة ، أية سورة كانت . وقيل : ثم صفة محذوفة ، أي : سورة تفضحهم ويذكر فيها مخازيهم . ( نظر بعضهم إلى بعض ) على جهة التقرير ، يفهم من تلك النظرة التقرير . هل يراكم من ينقل عنكم ؟ هل يراكم من أحد حين تدبرون أموركم ؟ ( ثم انصرفوا ) ، أي : عن طريق الاهتداء ، وذلك أنهم حينما بين لهم كشف أسرارهم والإعلام بمغيبات أمورهم يقع لهم لا محالة تعجب وتوقف ونظر ، فلو اهتدوا لكان ذلك الوقت مظنة النظر الصحيح والاهتداء . قال الضحاك : هل اطلع أحد منهم على سرائركم مخافة القتل . ( ثم انصرفوا ) إن كان حقيقة ; فالمعنى : قاموا من المكان الذي تتلى فيه السورة ، أو مجازا ، فالمعنى : انصرفوا عن الإيمان ، وذلك وقت رجوعهم إليه وإقبالهم عليه ، قاله الكلبي ، أو رجعوا إلى الاستهزاء أو إلى الطعن في القرآن والتكذيب له ولمن جاء به ، أو عن العمل بما كانوا يسمعونه ، أو عن طريق الاهتداء بعد أن بين لهم ومهد وأقيم دليله ، وهذا القول راجع لقول الكلبي .
( صرف الله قلوبهم ) صيغته خبر ، وهو دعاء عليهم بصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان ، قاله الفراء ، والظاهر أنه خبر ، لما كان الكلام في معرض ذكر التكذيب ; بدأ بالفعل المنسوب إليهم ، وهو قوله : ( ثم انصرفوا ) ، ثم ذكر فعله تعالى بهم على سبيل المجازاة لهم على فعلهم كقوله : ( فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم ) . قال : أضلهم . وقيل : عن فهم القرآن والإيمان به . وقال الزجاج : عن كل رشد وخير وهدى . وقال ابن عباس الحسن : طبع عليها بكفرهم . قال : ( الزمخشري صرف الله قلوبهم ) دعاء عليهم بالخذلان ، ويصرف قلوبهم عما في قلوب أهل الإيمان من الانشراح . ( بأنهم قوم لا يفقهون ) يحتمل أن يكون متعلقا بـ ( انصرفوا ) ، أو بـ ( صرف ) ، فيكون من باب الإعمال ، أي : بسبب انصرافهم ، أو صرف الله قلوبهم هو بسبب أنهم لا يتدبرون القرآن ، فيفقهون ما احتوى عليه مما يوجب إيمانهم والوقوف عنده .