الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
( يا أيها الذين آمنوا إنما المشركون نجس فلا يقربوا المسجد الحرام بعد عامهم هذا وإن خفتم عيلة فسوف يغنيكم الله من فضله إن شاء إن الله عليم حكيم ) ; لما أمر النبي صلى الله عليه وسلم عليا أن يقرأ على مشركي مكة أول ( براءة ) ، وينبذ إليهم عهدهم ، وأن الله بريء من المشركين ورسوله قال أناس : يا أهل مكة ستعلمون ما تلقون من الشدة وانقطاع السبل وفقد الحمولات ، فنزلت . وقيل : لما نزل ( إنما المشركون نجس ) ، شق على المسلمين وقالوا : من يأتينا بطعامنا ، وكانوا يقدمون عليهم بالتجارة ، فنزلت ( وإن خفتم عيلة ) الآية . والجمهور على أن المشرك من اتخذ مع الله إلها آخر ، وعلى أن أهل الكتاب ليسوا بمشركين ، ومن العلماء من أطلق عليهم اسم الإشراك لقوله : ( إن الله لا يغفر أن يشرك به ) ; أي يكفر به . وقرأ الجمهور : ( نجس ) بفتح النون والجيم ، وهو مصدر نجس نجسا ; أي قذر قذرا ، والظاهر الحكم عليهم بأنهم نجس أي ذوو نجس . قال ابن عباس ، والحسن ، وعمر بن عبد العزيز ، وغيره : الشرك هو الذي نجسهم ، فأعيانهم نجسة كالخمر والكلاب والخنازير . وقال الحسن : من صافح مشركا فليتوضأ . وفي التحرير : وبالغ الحسن حتى قال : إن الوضوء يجب من مس المشرك ، ولم يأخذ أحد بقول الحسن إلا الهادي من الزيدية . وقال قتادة ، ومعمر بن راشد وغيرهما : وصف المشرك بالنجاسة ; لأنه جنب ، إذ غسله من الجنابة [ ص: 28 ] ليس بغسل ، وعلى هذا القول يجب الغسل على من أسلم من المشركين ، وهو مذهب مالك . وقال ابن عبد الحكم : لا يجب ، ولا شك أنهم لا يتطهرون ولا يغتسلون ولا يجتنبون النجاسات ، فجعلوا نجسا مبالغة في وصفهم بالنجاسة .

وقرأ أبو حيوة : ( نجس ) بكسر النون وسكون الجيم على تقدير حذف الموصوف ، أي : جنس نجس ، أو ضرب نجس ، وهو اسم فاعل من نجس ، فخففوه بعد الإتباع كما قالوا في كبد : كبد ، وكرش : كرش . وقرأ ابن السميفع : أنجاس ، فاحتمل أن يكون جمع نجس المصدر كما قالوا أصناف ، واحتمل أن يكون جمع نجس اسم فاعل .

وفي النهي عن القربان منعهم عن دخوله والطواف به بحج أو عمرة أو غير ذلك ، كما كانوا يفعلون في الجاهلية ، وهذا النهي من حيث المعنى هو متعلق بالمسلمين ; أي لا يتركونهم يقربون المسجد الحرام . والظاهر أن النهي مختص بالمشركين وبالمسجد الحرام ، وهذا مذهب أبي حنيفة . وأباح دخول اليهود والنصارى المسجد الحرام وغيره ، ودخول عبدة الأوثان في سائر المساجد . وقال الزمخشري : إن معنى قوله : " فلا يقربوا المسجد الحرام " : فلا يحجوا ولا يعتمروا ، ويدل عليه قول علي حين نادى بـ ( براءة ) : لا يحج بعد عامنا هذا مشرك ، قال : ولا يمنعون من دخول الحرم ، والمسجد الحرام ، وسائر المساجد عند أبي حنيفة انتهى . وقال الشافعي : هي عامة في الكفار ، خاصة في المسجد الحرام ، فأباح دخول اليهود والنصارى والوثنيين في سائر المساجد . وقاس مالك جميع الكفار من أهل الكتاب وغيرهم على المشركين ، وقاس سائر المساجد على المسجد الحرام ، ومنع من دخول الجميع في جميع المساجد . وقال عطاء : المراد بالمسجد الحرام الحرم ، وأن على المسلمين أن لا يمكنوهم من دخوله . وقيل : المراد من القربان أن يمنعوا من تولي المسجد الحرام والقيام بمصالحه ، ويعزلوا عن ذلك . وقال جابر بن عبد الله وقتادة : لا يقرب المسجد الحرام مشرك إلا أن يكون صاحب حرية ، أو عبدا لمسلم . والمعنى بقوله بعد عامهم هذا : هو عام تسع من الهجرة ، وهو العام الذي حج فيه أبو بكر أميرا على الموسم ، وأتبع بعلي ونودي فيها بـ ( براءة ) . وقال قتادة : هو العام العاشر الذي حج فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ، و ( العيلة ) : الفقر . وقرأ ابن مسعود وعلقمة من أصحابه : عائلة وهو مصدر كالعاقبة ، أو نعت لمحذوف ؛ أي : حالا عائلة . و ( إن ) هنا على بابها من الشرط ، وقال عمرو بن قائد : المعنى : وإذ خفتم كقولهم : إن كنت ابني فأطعني ; أي : إذ كنت . وكون ( إن ) بمعنى ( إذ ) قول مرغوب عنه . وتقدم سبب نزول هذه الآية وفضله تعالى . قال الضحاك : ما فتح عليهم من أخذ الجزية من أهل الذمة . وقال عكرمة : أغناهم بإدرار المطر عليهم ، وأسلمت العرب فتمادى حجهم ونحرهم ، وأغنى الله من فضله بالجهاد والظهور على الأمم ، وعلق الإغناء بالمشيئة ; لأنه يقع في حق بعض دون بعض ، وفي وقت دون وقت . وقيل : لإجراء الحكم على الحكمة ، فإن اقتضت الحكمة والمصلحة إغناءكم أغناكم . وقال القرطبي : إعلاما بأن الرزق لا يأتي بحيلة ولا اجتهاد ، وإنما هو فضل الله . ويروى للشافعي :


لو كان بالحيل الغنى لوجدتني بنجوم أقطار السماء تعلقي     لكن من رزق الحجا حرم الغنى
ضدان مفترقان أي تفرق     ومن الدليل على القضاء وكونه
بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق



( إن الله عليم ) بأحوالكم ( حكيم ) لا يعطي ولا يمنع إلا عن حكمة . وقال ابن عباس : عليم بما يصلحكم ، حكيم فيما حكم في المشركين .

[ ص: 29 ] ( قاتلوا الذين لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر ولا يحرمون ما حرم الله ورسوله ولا يدينون دين الحق من الذين أوتوا الكتاب حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون ) نزلت حين أمر الرسول صلى الله عليه وسلم بغزو الروم ، وغزا بعد نزولها تبوك ، وقيل : نزلت في قريظة والنضير فصالحهم ، وكانت أول جزية أصابها المسلمون ، وأول ذلك أصاب أهل الكتاب بأيدي المسلمين نفي الإيمان بالله عنهم ; لأن سبيلهم سبيل من لا يؤمن بالله ، إذ يصفونه بما لا يليق أن يوصف به ، قاله الكرماني . وقال الزجاج : لأنهم جعلوا له ولدا وبدلوا كتابهم ، وحرموا ما لم يحرم ، وحللوا ما لم يحلل . وقال ابن عطية : لأنهم تركوا شرائع الإسلام الذي يجب عليهم الدخول فيه ، فصار جميع ما لهم في البعث وفي الله من تخيلات واعتقادات لا معنى لها ; إذ يلقونها من غير طريقها . وأيضا فلم تكن اعتقاداتهم مستقيمة ; لأنهم شبهوا وقالوا : عزير ابن الله ، وثالث ثلاثة ، وغير ذلك . ولهم أيضا في البعث آراء كثيرة في منازل الجنة من الرهبان . وقول اليهود في النار يكون فيها أياما انتهى . وفي الغنيان : نفى عنهم الإيمان ; لأنهم مجسمة ، والمؤمن لا يجسم انتهى . والمنقول عن اليهود والنصارى إنكار البعث الجسماني ، فكأنهم يعتقدون البعث الروحاني .

( ما حرم الله ) في كتابه ( ورسوله ) في السنة . وقيل : في التوراة والإنجيل ; لأنهم أباحوا أشياء حرمتها التوراة والإنجيل ، والرسول على هذا موسى وعيسى ، وعلى القول الأول محمد صلى الله عليه وسلم . وقيل : ولا يحرمون الخمر والخنزير . وقيل : ولا يحرمون الكذب على الله ، قالوا : ( نحن أبناء الله وأحباؤه ) ، ( وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ) . وقيل : ما حرم الله من الربا وأموال الأميين . والظاهر عموم ما حرم الله ورسوله في التوراة والإنجيل والقرآن . ( ولا يدينون دين الحق ) ; أي : لا يعتقدون دين الإسلام الذي هو دين الحق ، وما سواه باطل . وقيل : دين الحق دين الله ، والحق هو الله ، قاله قتادة . يقال : فلان يدين بكذا أي يتخذه دينا ويعتقده . وقال أبو عبيدة : معناه ولا يطيعون طاعة أهل الإسلام ، وكل من كان في سلطان ملك فهو على دينه ، وقد دان له وخضع . قال زهير :


لئن حللت بجو في بني أسد     في دين عمرو وحالت بيننا فدك



( من الذين أوتوا الكتاب ) بيان لقوله : ( الذين ) . والظاهر اختصاص أخذ الجزية من أهل الكتاب وهم بنو إسرائيل والروم نصا . وأجمع الناس على ذلك . وأما المجوس فقال ابن المنذر : لا أعلم خلافا في أن الجزية تؤخذ منهم انتهى . وروي أنه كان بعث في المجوس نبي اسمه زرادشت ، واختلف أصحاب مالك في مجوس العرب . وأما السامرة والصابئة فالجمهور على أنهم من اليهود والنصارى تؤخذ منهم الجزية وتؤكل ذبيحتهم . وقالت فرقة : لا تؤخذ منهم جزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقيل : تؤخذ منهم الجزية ، ولا تؤكل ذبائحهم . وقال الأوزاعي : تؤخذ من كل عابد وثن أو نار أو جامد مكذب . وقال أبو حنيفة : لا يقبل من مشركي العرب إلا الإسلام أو السيف ، وتقبل من أهل الكتاب ومن سائر كفار العجم الجزية . وقال مالك : تؤخذ من عابد النار والوثن وغير ذلك كائنا من كان من عربي تغلبي أو قرشي أو عجمي إلا المرتد . وقال الشافعي ، وأحمد ، وأبو ثور : لا تقبل إلا من اليهود والنصارى والمجوس فقط . والظاهر شمول جميع أهل الكتاب في إعطاء الجزية . وقال أبو حنيفة ومالك والشافعي : لا تؤخذ إلا من الرجال البالغين الأحرار العقلاء ، ولا تضرب على رهبان الديارات والصوامع المنقطعين . وقال مالك في الواضحة : إن كانت قد ضربت عليهم ثم انقطعوا لم تسقط ، وتضرب على رهبان الكنائس ، واختلف في الشيخ الفاني .

ولم تتعرض الآية لمقدار ما على كل رأس [ ص: 30 ] ولا لوقت إعطائها . فأما مقدارها فذهب مالك وكثير من أهل العلم إلى ما فرضه عمر : أربعة دنانير على أهل الذهب ، وأربعون درهما على أهل الفضة ، وفرض عمر ضيافة وأرزاقا وكسوة . وقال الثوري : رويت عن عمر ضرائب مختلفة ، وأظن ذلك بحسب اجتهاده في عسرهم ويسرهم . وقال الشافعي وغيره : على كل رأس دينار . وقال أبو حنيفة : على الفقير المكتسب اثنا عشر درهما ، وعلى المتوسط في المعنى ضعفها ، وعلى المكثر ضعف الضعف ثمانية وأربعون درهما ، ولا يؤخذ عنده من فقير لا كسب له . قال ابن عطية : وهذا كله في الفترة . وأما الصلح فهو ما صولحوا عليه من قليل أو كثير . وأما وقتها فعند أبي حنيفة أول كل سنة ، وعند الشافعي آخر السنة . وسميت جزية من جزى يجزي إذ كافأ عما أسدي عليه ، فكأنهم أعطوها جزاء ما منحوا من الأمن ، وهي كالعقدة والجلسة ، ومن هذا المعنى قول الشاعر :


نجزيك أو نثني عليك وإن من     أثنى عليك بما فعلت فقد جزى



وقيل : لأنها طائفة مما على أهل الذمة أن يجزوه ; أي يقضوه .

( عن يد ) ; قال ابن عباس : يعطونها بأيديهم ولا يرسلون بها . وقال عثمان : يعطونها نقدا لا نسيئة . وقال قتادة : يعطونها وأيديهم تحت يد الآخذ ، فالمعنى أنهم مستعلى عليهم . وقيل : عن اعتراف . وقيل : عن قوة منكم وقهر وذل ونفاذ أمر فيهم ، كما تقول : اليد في هذا لفلان ; أي الأمر له . وقيل : عن إنعام عليهم بذلك ; لأن قبولها منهم عوضا عن أرواحهم إنعام عليهم من قولهم : له علي يد أي : نعمة . وقال القتبي : يقال أعطاه عن يد وعن ظهر يد إذا أعطاه مبتدئا غير مكافئ . وقيل : عن يد : عن جماعة ; أي : لا يعفى عن ذي فضل منهم لفضله . واليد جماعة القوم ، يقال القوم على يد واحدة ; أي : هم مجتمعون . وقيل : عن يد ; أي عن غنى وقدرة ، فلا تؤخذ من الفقير . ولخص الزمخشري في ذلك فقال : إما أن يريد يد الآخذ فمعناه حتى يعلوها عن يد قاهرة مستولية وعن إنعام عليهم ; لأن قبول الجزية منهم وترك أرواحهم لهم نعمة عظيمة عليهم . وإما أن يريد يد المعطي فالمعنى عن يد مواتية غير ممتنعة ; لأن من أبى وامتنع لم يعط يده بخلاف المطيع المنقاد ، ولذلك قالوا : أعطى بيده إذا انقاد واحتجب . ألا ترى إلى قولهم : نزع يده عن الطاعة ، أو عن يد إلى يد ; أي نقدا غير نسيئة أو لا مبعوثا على يد آخر ولكن عن يد المعطي البريد الآخذ .

( وهم صاغرون ) جملة حالية ; أي : ذليلون حقيرون . وذكروا كيفيات في أخذها منهم ، وفي صغارهم لم تتعرض لتعيين شيء منها الآية . قال ابن عباس : يمشون بها ملببين . وقال سليمان الفارسي : لا يحمدون على إعطائهم . وقال عكرمة : يكون قائما والآخذ جالسا . وقال الكلبي : يقال له عند دفعها : أد الجزية ويصك في قفاه . وحكى البغوي : يؤخذ بلحيته ويضرب في لهزمته .

التالي السابق


الخدمات العلمية