[ ص: 508 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة نسقيكم مما في بطونه من بين فرث ودم لبنا خالصا سائغا للشاربين nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67ومن ثمرات النخيل والأعناب تتخذون منه سكرا ورزقا حسنا إن في ذلك لآية لقوم يعقلون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وأوحى ربك إلى النحل أن اتخذي من الجبال بيوتا ومن الشجر ومما يعرشون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثم كلي من كل الثمرات فاسلكي سبل ربك ذللا يخرج من بطونها شراب مختلف ألوانه فيه شفاء للناس إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون ) : لما ذكر الله تعالى إحياء الأرض بعد موتها ، ذكر ما ينشأ عن ما ينشأ عن المطر وهو حياة الأنعام التي هي مألوف العرب بما يتناوله من النبات الناشئ عن المطر ، ونبه على العبرة العظيمة وهو خروج اللبن من بين فرث ودم . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود بخلاف ،
والحسن ،
nindex.php?page=showalam&ids=15948وزيد بن علي ،
وابن عامر ،
وأبو بكر ،
ونافع ،
وأهل المدينة . نسقيكم هنا ، وفي (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قد أفلح المؤمنون ) : بفتح النون مضارع سقى ، وباقي السبعة بضمها مضارع أسقى ، وتقدم الكلام في سقى وأسقى في قوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22فأسقيناكموه ) وقرأ أبو رجاء : يسقيكم ، بالياء مضمومة ، والضمير عائد على الله ، أي : يسقيكم الله . قال صاحب اللوامح : ويجوز أن يكون مسندا إلى النعم ، وذكر لأن النعم مما يذكر ويؤنث ; ومعناه : وأن لكم في الأنعام نعما يسقيكم ، أي : يجعل لكم سقيا ; انتهى . وقرأت فرقة : بالتاء مفتوحة ; منهم
أبو جعفر . قال
ابن عطية : وهي ضعيفة ; انتهى . وضعفها عنده - والله أعلم - من حيث أنث في ( تسقيكم ) ، وذكر في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ، ولا ضعف في ذلك من هذه الجهة ، لأن التأنيث والتذكير باعتبار وجهين ، وأعاد الضمير مذكرا مراعاة للجنس ، لأنه إذا صح وقوع المفرد الدال على الجنس مقام جمعه جاز عوده عليه مذكرا ، كقولهم : هو أحسن الفتيان وأنبله ، لأنه يصح هو أحسن فتى ، وإن كان هذا لا ينقاس عند
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ، إنما يقتصر فيه على ما قالته العرب . وقيل : جمع التكسير فيما لا يعقل يعامل معاملة الجماعة ، ومعاملة الجمع ، فيعود الضمير عليه مفردا . كقوله :
مثل الفراخ نبقت حواصله
وقيل : أفرد على تقدير المذكور كما يفرد اسم الإشارة بعد الجمع كما قال :
[ ص: 509 ] فيها خطوط من سواد وبلق كأنه في الجلد توليع البهق
فقال : كأنه وقدر بكان المذكور . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15080الكسائي : ، أي في بطون ما ذكرنا . قال
nindex.php?page=showalam&ids=15153المبرد : وهذا سائغ في القرآن ; قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=19إن هذه تذكرة ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=55فمن شاء ذكره ) ، أي : ذكر هذا الشيء . وقال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78فلما رأى الشمس بازغة قال هذا ربي ) ، أي : هذا الشيء الطالع . ولا يكون هذا إلا في التأنيث المجازي ، لا يجوز : جاريتك ذهب . وقالت فرقة : الضمير عائد على البعض ، إذ الذكور لا ألبان لها ، فكأن العبرة إنما هي في بعض الأنعام . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ذكر
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه الأنعام في باب ما لا ينصرف في الأسماء المفردة على أفعال ، كقولهم : ثوب أكياش ، ولذلك رجع الضمير إليه مفردا ، وأما
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=21في بطونها في سورة المؤمنين فلأن معناه الجمع ، ويجوز أن يقال في الأنعام وجهان : أحدهما : أن يكون تكسير نعم كالأجبال في جبل ، وأن يكون اسما مفردا مقتضيا لمعنى الجمع كنعم ، فإذا ذكر فكما يذكر نعم في قوله :
في كل عام نعم تحوونه يلقحه قوم وينتجونه
وإذا أنث ففيه وجهان : إنه تكسير نعم ، وأنه في معنى الجمع ; انتهى . وأما ما ذكره عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ففي كتابه في هذا في باب ما كان على مثال مفاعل ومفاعيل ما نصه : وأما أجمال وفلوس ، فإنها تنصرف وما أشبهها ، لأنها ضارعت الواحد . ألا ترى أنك تقول : أقوال وأقاويل ، وأعراب وأعاريب ، وأيد وأياد ، فهذه الأحرف تخرج إلى مثال مفاعل ومفاعيل كما يخرج إليه الواحد إذا كسر للجمع ، وأما مفاعل ومفاعيل فلا يكسر ، فيخرج الجمع إلى بناء غير هذا ، لأن هذا البناء هو الغاية ، فلما ضارعت الواحد صرفت . ثم قال : وكذلك الفعول لو كسرت مثل الفلوس لأن تجمع جمعا لأخرجته إلى فعائل ، كما تقول : جدود وجدائد ، وركوب وركائب ، ولو فعلت ذلك بمفاعل ومفاعيل لم يجاوز هذا البناء . ويقوي ذلك أن بعض العرب يقول : أتى للواحد ، فيضم الألف ، وأما أفعال فقد تقع للواحد ; من العرب من يقول هو الأنعام ، قال جل ثناؤه وعز :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نسقيكم مما في بطونه .
وقال
أبو الخطاب : سمعت العرب يقولون : هذا ثوب أكياش ; انتهى . والذي ذكره
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه هو الفرق بين مفاعل ومفاعيل ، وبين أفعال وفعول ، وإن كان الجميع أبنية للجمع من حيث إن مفاعل ومفاعيل لا يجمعان ، وأفعال وفعول قد يخرجان إلى بناء شبه مفاعل أو مفاعيل لشبه ذينك بالمفرد ، من حيث إنه يمكن جمعهما وامتناع هذين من الجمع ، ثم قوى شبههما بالمفرد بأن بعض العرب قال في أتى : أتى ، بضم الهمزة ، يعني أنه قد جاء نادرا فعول من غير المصدر للمفرد ، وبأن بعض العرب قد يوقع أفعالا للواحدة من حيث أفرد الضمير فتقول : هو الأنعام ، وإنما يعني أن ذلك على سبيل المجاز ، لأن الأنعام في معنى النعم كما قال الشاعر :
تركنا الخيل والنعم المفدى وقلنا للنساء بها أقيمي
ولذلك قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : وأما أفعال فقد تقع للواحد دليل على أنه ليس ذلك بالوضع . فقول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : إنه ذكره في الأسماء المفردة على أفعال تحريف في اللفظ ، وفهم عن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه ما لم يرده ، ويدل على ما قلناه أن
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه حين ذكر أبنية الأسماء المفردة نص على أن أفعالا ليس من أبنيتها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه في باب ما لحقته الزوائد من بنات الثلاثة وليس في الكلام : أفعيل ، ولا أفعول ولا أفعال ، ولا إفعيل ، ولا إفعال إلا أن تكسر عليه اسما للجميع ; انتهى . فهذا نص منه على أن أفعالا لا يكون في الأبنية المفردة . ونسقيكم مما في بطونه : تبيين للعبرة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : وهو استئناف كأنه قيل : كيف العبرة ؟ فقيل : نسقيكم من بين فرث ودم ، أي :
nindex.php?page=treesubj&link=28783يخلق الله اللبن وسطا بين الفرث والدم يكتنفانه ، وبينه وبينهما برزخ من قدرة الله لا يبغي أحدهما عليه بلون ولا طعم ولا رائحة ، بل هو خالص من كله ; انتهى . قال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : إذا
[ ص: 510 ] استقر العلف في الكرش صار أسفله فرثا يبقى فيه ، وأعلاه دما يجري في العروق ، وأوسطه لبنا يجري في الضرع . وقال
ابن جبير : الفرث في أوسط المصارين ، والدم في أعلاها ، واللبن بينهما ، والكبد يقسم الفرث إلى الكرش ، والدم إلى العروق ، واللبن إلى الضروع .
وقال
أبو عبد الله الرازي : قال المفسرون : المراد من قوله من بين فرث ودم ، هو أن هذه الثلاثة تتولد في موضع واحد ، فالفرث يكون في أسفل الكرش ، والدم في أعلاه ، واللبن في الوسط ، وقد دللنا على أن هذا القول على خلاف الحس والتجربة ، وكان
الرازي قد قدم أن الحيوان يذبح ولا يرى في كرشه دم ولا لبن ، بل الحق أن الغذاء إذا تناوله الحيوان وصل إلى الكرش وانطبخ وحصل الهضم الأول فيه ، فما كان منه كثيفا نزل إلى الأمعاء ، وصافيا انحدر إلى الكبد فينطبخ فيها ويصير دما ، وهو الهضم الثاني مخلوطا بالصفراء والسوداء وزيادة المائية ، فتذهب الصفراء إلى المرارة ، والسوداء إلى الطحال ، والماء إلى الكلية ، وخالص الدم يذهب إلى الأوردة - وهي العروق النابتة من الكبد - فيحصل الهضم الثالث . وبين الكبد وبين الضرع عروق كثيرة ينصب الدم من تلك العروق إلى الضرع ، وهو لحم رخو أبيض فينقلب من صورة الدم إلى صورة اللبن ، فهذا هو الصحيح في كيفية توالد اللبن ; انتهى ، ملخصا . وقال أيضا : وأما نحن فنقول : المراد من الآية هو أن اللبن إنما يتولد من بعض أجزاء الدم ، والدم إنما يتولد من الأجزاء اللطيفة التي في الفرث ، وهي الأشياء المأكولة الحاصلة في الكرش . فاللبن متولد مما كان حاصلا فيما بين الفرث أولا ، ثم مما كان حاصلا فيما بين الدم ثانيا ; انتهى ، ملخصا أيضا .
والذي يظهر من لفظ الآية أن اللبن يكون وسطا بين الفرث والدم ، والبينية يحتمل أن تكون باعتبار المكانية حقيقة كما قاله المفسرون وادعى
الرازي أنه على خلاف الحس والمشاهدة . ويحتمل أن تكون البينية مجازية ، باعتبار تولده من ما حصل في الفرث أولا ، وتولده من الدم الناشئ من لطيف ما كان في الفرث ثانيا كما قرره
الرازي . و ( من ) الأولى : للتبعيض متعلقة بـ نسقيكم ، والثانية : لابتداء الغاية متعلقة بـ نسقيكم ، وجاز تعلقهما بعامل واحد لاختلاف مدلوليهما . ويجوز أن يكون (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66من بين ) في موضع الحال ، فتتعلق بمحذوف ، لأنه لو تأخر لكان صفة ، أي : كائنا من بين فرث ودم . ويجوز أن يكون (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66من بين فرث ) بدلا من ( ما في بطونه ) . وقرأت فرقة : سيغا ، بتشديد الياء ،
وعيسى بن عمر : سيغا ، مخففا من سيغ ، كهين المخفف من هين ، وليس بفعل لازم كان يكون سوغا . والسائغ : السهل في الحلق اللذيذ ، وروي في الحديث "
أن اللبن لم يشرق به أحد قط " ولما ذكر تعالى ما من به من بعض منافع الحيوان ، ذكر ما من به من بعض منافع النبات . والظاهر تعلق (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67ومن ثمرات ) بـ تتخذون ، وكررت ( من ) للتأكيد ، وكان الضمير مفردا راعيا لمحذوف ، أي : ومن عصير ثمرات ، أو على معنى الثمرات ، وهو الثمر ، أو بتقدير من المذكور . وقيل : تتعلق بـ نسقيكم ، فيكون معطوفا على (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مما في بطونه ) ، أو بـ نسقيكم محذوفة دل عليها ( نسقيكم ) المتقدمة ، فيكون من عطف الجمل ، والذي قبله من عطف المفردات إذا اشتركا في العامل . وقيل : معطوف على الأنعام ، أي : ومن ثمرات النخيل والأعناب عبرة ، ثم بين العبرة بقوله : تتخذون . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : التقدير ومن ثمرات النخيل والأعناب ما تتخذون . فحذف ( ما ) وهو لا يجوز على مذهب
البصريين ، وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ويجوز أن يكون صفة موصوف محذوف كقوله : بكفي كان من أرمىالبشر . تقديره : ومن ثمرات النخيل والأعناب ثمر تتخذون منه ; انتهى . وهذا الذي أجازه قاله
الحوفي ; قال : أي : وإن من ثمرات ، وإن شئت شيء ، بالرفع بالابتداء ، ومن ثمرات : خبره ; انتهى .
والسكر في اللغة : الخمر . قال الشاعر :
بئس الصحاة وبئس الشرب شربهم إذا جرى منهم المزاء والسكر
[ ص: 511 ] وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : سميت بالمصدر من سكر سكرا وسكرا نحو : رشد رشدا ورشدا . قال الشاعر :
وجاءونا بهم سكرا علينا فأجلي اليوم والسكران صاحي
وقاله :
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وابن عمر ،
وأبو رزين ،
والحسن ،
ومجاهد ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577والشعبي ،
والنخعي ،
nindex.php?page=showalam&ids=12526وابن أبي ليلى ،
والكلبي ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وابن جبير ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وأبو ثور ، والجمهور . وهذه الآية مكية نزلت قبل تحريم الخمر ، ثم حرمت
بالمدينة فهي منسوخة . قال
الحسن : ذكر الله نعمته في السكر قبل تحريم الخمر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هو الخل بلغة الحبشة . وقيل : العصير الحلو الحلال ، وسمي سكرا باعتبار مآله إذا ترك . وقال
أبو عبيدة : السكر : الطعام ، يقال هذا سكر لك ، أي : طعام ، واختاره
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري قال : والسكر في كلام العرب : ما يطعم . وأنشد
أبو عبيدة :
جعلت أعراض الكرام سكرا
أي : تنقلت بأعراضهم . وقيل : هو من الخمر ، وأنه إذا ابترك في أعراض الناس فكأنه تخمر بها ، قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري ، وتبع
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج قال : يصف أنه يخمر بعيوب الناس ، وعلى هذه الأقوال لا نسخ . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزجاج : قول
أبي عبيدة لا يصح ، وأهل التفسير على خلافه . وقيل : السكر : ما لا يسكر من الأنبذة ، وقيل : السكر : النبيذ ، وهو عصير العنب والزبيب والتمر إذا طبخ حتى يذهب ثلثاه ثم يترك حتى يشتد ، وهو حلال عند
أبي حنيفة إلى حد السكر ; انتهى . وإذا أريد بالسكر الخمر فقد تقدم أن ذلك منسوخ ، وإذا لم نقل بنسخ فقيل : جمع بين العتاب والمنة . يعني بالعتاب على اتخاذ ما يحرم ، وبالمنة على اتخاذ ما يحل ، وهو الخل والرب والزبيب والتمر . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ويجوز أن يجعل السكر رزقا حسنا كأنه قيل : تتخذون منه ما هو سكر ورزق حسن ; انتهى . فيكون من عطف الصفات ، وظاهر العطف المغايرة . ولما كان مفتتح الكلام :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وإن لكم في الأنعام لعبرة ، ناسب الختم بقوله : يعقلون ، لأنه لا يعتبر إلا ذوو العقول كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13إن في ذلك لعبرة لأولي الألباب ) .
وانظر إلى الإخبار عن نعمة اللبن ونعمة السكر والرزق الحسن ، لما كان اللبن لا يحتاج إلى معالجة من الناس ، أخبر عن نفسه تعالى بقوله : نسقيكم . ولما كان السكر والرزق الحسن يحتاج إلى معالجة قال : تتخذون ، فأخبر عنهم باتخاذهم منه السكر والرزق ، ولأمر ما عجزت العرب العرباء عن معارضته . ولما ذكر تعالى المنة بالمشروب اللبن وغيره ، أتم النعمة بذكر العسل النحل . ولما كانت المشروبات من اللبن وغيره هو الغالب في الناس أكثر من العسل ، قدم اللبن وغيره عليه ، وقدم اللبن على ما بعده لأنه المحتاج إليه كثيرا وهو الدليل على الفطرة . ولذلك اختاره الرسول - صلى الله عليه وسلم - حين أسري به ، وعرض عليه اللبن والخمر والعسل ، وجاء ترتيبها في الجنة لهذه الآية قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15وأنهار من لبن لم يتغير طعمه وأنهار من خمر لذة للشاربين وأنهار من عسل مصفى ) ففي إخراج اللبن من النعم ، والسكر والرزق الحسن من ثمرات النخيل والأعناب ، والعسل من النحل ، دلائل باهرة على الألوهية والقدرة والاختيار . والإيحاء هنا الإلهام والإلقاء في روعها ، وتعليمها على وجه هو تعالى أعلم بكنهه لا سبيل إلى الوقوف عليه . والنحل : جنس ، واحده نحلة ، ويؤنث في لغة
الحجاز ، ولذلك قال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68أن اتخذي . وقرأ
nindex.php?page=showalam&ids=17340ابن وثاب : النحل ، بفتح الحاء ، و ( أن ) تفسيرية ، لأنه تقدم معنى القول وهو : وأوحى . أو مصدرية ، أي : باتخاذ ، قال
أبو عبد الله الرازي : ( أن ) هي المفسرة لما في الوحي من معنى القول ، هذا قول جمهور المفسرين وفيه نظر . لأن الوحي هنا بإجماع منهم هو الإلهام ، وليس في الإلهام معنى القول ، وقال : قرر تعالى في أنفسها الأعمال العجيبة التي يعجز عنها للعقلاء من البشر منها بناؤها البيوت المسدسة من أضلاع متساوية بمجرد طباعها ، ولا يتم مثل ذلك للعقلاء إلا بآلات كالمسطرة والبركان ، ولم تبنها بأشكال غير تلك ، فتضيق تلك البيوت عنها لبقاء فرج لا تسعها ، ولها أمير أكبر جثة منها نافذ الحكم يخدمونه ، وإذا نفرت
[ ص: 512 ] عن وكرها إلى موضع آخر وأرادوا عودها إلى وكرها ضربوا الطبول وآلات المويسيقا ، وبوساطة تلك الألحان تعود إلى وكرها ، فلما امتازت بهذه الخواص العجيبة وليس إلا على سبيل الإلهام ، وهي حالة تشبه الوحي لذلك قال : وأوحى ربك إلى النحل ; انتهى ، ملخصا . و ( من ) للتبعيض لأنها لا تبني في كل جبل ، وكل شجر ، وكل ما يعرش ، ولا في كل مكان منها . والظاهر أن البيوت هنا عبارة عن الكوى التي تكون في الجبال ، وفي متجوف الأشجار . وإما من ما يعرش ابن آدم فالخلايا التي يصنعها للنحل ابن آدم ، والكوى التي تكون في الحيطان . ولما كان النحل نوعين : منه ما مقره في الجبال والغياض ولا يتعهده أحد ، ومنه ما يكون في بيوت الناس ويتعهد في الخلايا ونحوها ، شمل الأمر باتخاذ البيوت النوعين . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ما يدل على أن البيوت ليست الكوى ، وإنما هي ما تبنيه هي ، فقال : أريد معنى البعضية ، يعني بمن ، وأن لا يبنى بيوتها في كل جبل وكل شجر وكل ما يعرش . وقال
ابن زيد : ومما يعرشون : الكروم . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطبري : مما يبنون من السقوف . قال
ابن عطية : وهذا منهما تفسير غير متقن ; انتهى . وقرأ
السلمي ،
وعبيد بن نضلة ،
وابن عامر ،
وأبو بكر عن
عاصم : بضم الراء ، وباقي السبعة بكسرها ، وتقتضي ( ثم ) المهلة والتراخي بين الاتخاذ والأكل الذي تدخر منه العسل ، فلذلك كان العطف بثم وهو معطوف على ( اتخذي ) ، وهو أمر معطوف على أمر ، وسيأتي الكلام على أمر غير المكلف في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=18يا أيها النمل ادخلوا مساكنكم ) - إن شاء الله - وكل الثمرات عام مخصوص ، أي : المعتادة ، لا كلها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أي : ابني البيوت ثم كلي من كل ثمرة تشتهيها ; انتهى . فدل قوله : أي : ابني البيوت ، أنه لا يريد بقوله ( بيوتا ) : الكوى التي في الجبال ومتجوف الأشجار ولا الخلايا ، وإنما يراد : البيوت المسدسة التي تبنيها هي . وظاهر ( من ) في قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69من كل الثمرات ) أنها للتبعيض ، فتأكل من الأشجار الطيبة والأوراق العطرة أشياء يولد الله منها في أجوافها عسلا . قال
ابن عطية : إنما تأكل النوار من الأشجار .
وقال
أبو عبد الله الرازي ما ملخصه : يحدث الله تعالى في الهواء ظلا كثيرا يجتمع منه أجزاء محسوسة مثل النرنجبين وهو محسوس ، و قليلا : لطيف الأجزاء صغيرها ، وهو الذي ألهم الله تعالى النحل التقاطه من الأزهار وأوراق الأشجار ، وتغتذي بها فإذا شبعت التقطت بأفواهها شيئا من تلك الأجزاء ، ووضعتها في بيوتها كأنها تحاول أن تدخر لنفسها غذاءها ، فالمجتمع من ذلك هو العسل . وعلى هذا القول تكون ( من ) لابتداء الغاية ، لا للتبعيض ; انتهى . وظاهر العطف بالفاء في ( فاسلكي ) أنه بعقيب الأكل ، أي : فإذا أكلت فاسلكي سبل ربك ، ، أي طرق ربك إلى بيوتك راجعة ، والسبل إذ ذاك مسالكها في الطيران . وربما أخذت مكانها فانتجعت المكان البعيد ، ثم عادت إلى مكانها الأول . وقيل :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69سبل ربك ، أي : الطرق التي ألهمك وأفهمك في عمل العسل ، أو فاسلكي ما أكلت ، أي : في سبل ربك ، أي : في مسالكه التي يحيل فيها بقدرته النوار المر عسلا من أجوافك ومنافذ مأكلك . وعلى هذا القول ينتصب " سبل " ربك على الظرف ، وعلى ما قبله ينتصب على المفعول به . وقيل : المراد بقوله (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثم كلي ) ، ثم اقصدي الأكل من الثمرات فاسلكي في طلبها سبل ربك ، وهذا القول والقول الأول أقرب في المجاز في سبل ربك من القولين اللذين بينهما ، إلا أن ( كلي ) بمعنى اقصدي الأكل ، مجاز أضاف السبل إلى رب النحل من حيث إنه تعالى هو خالقها ومالكها والناظر في تهيئة مصالحها ومعاشها . وقال
مجاهد : ذللا : غير متوعرة عليها سبيل تسلكه ، فعلى هذا ذللا حال من سبيل ربك كقوله تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=15هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا ) وقال
قتادة : أي : مطيعة منقادة . وقال
ابن زيد : يخرجون بالنحل : ينتجعون وهي تتبعهم ، فعلى هذا ذللا :
[ ص: 513 ] حال من النحل كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=72وذللناها لهم ) ثم ذكر تعالى على جهة تعديد النعمة والتنبيه على المنة ثمرة هذا الاتخاذ والأكل والسلوك وهو قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69يخرج من بطونها شراب ، وهو العسل . وسماه شرابا لأنه مما يشرب ، كما ذكر ثمرة الأنعام وهي سقي اللبن ، وثمرة النخيل والأعناب وهو اتخاذ السكر والرزق الحسن . وذكر تعالى المقر الذي يخرج منه الشراب وهو بطونها ، وهو مبدأ الغاية الأولى ، والجمهور على أنه يخرج من أفواهها وهو مبدأ الغاية الأخيرة ، ولذلك قال الحريري :
تقول هذا مجاج النحل تمدحه وإن ذممت تقل قيء الزنابير
والمجاج والقيء لا يكونان إلا من الفم . وروي عن
علي - كرم الله وجهه - أنه قال في تحقير الدنيا : أشرف لباس ابن آدم فيها لعاب دودة ، وأشرف شرابه رجيع نحلة . وعنه أيضا : أما العسل فونيم ذباب ، فظاهر هذا أن العسل يخرج من غير الفم ، وقد خفي من أي المخرجين يخرج ، أمن الفم ؟ أم من أسفل ؟ وحكي أن
سليمان عليه السلام ،
والإسكندر ،
وأرسطاطاليس ، صنعوا لها بيوتا من زجاج لينظروا إلى كيفية صنعها ، وهل يخرج العسل من فيها أم من أسفلها ؟ فلم تضع من العسل شيئا حتى لطخت باطن الزجاج بالطين بحيث يمنع المشاهدة . وقال
الحسن : لباب البر بلعاب النحل بخالص السمن ما عابه مسلم ، فجعله لعابا كالريق الدائم الذي يخرج من فم ابن آدم . وقيل :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69من بطونها : من أفواهها ، سمى الفم بطنا لأنه في حكم البطن ، ولأنه مما يبطن ولا يظهر . واختلاف ألوانه بالبياض والصفرة والحمرة والسواد ، وذلك لاختلاف طباع النحل ، واختلاف المراعي . وقد يختلف طعمه لاختلاف المرعى ، كما في الحديث "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374613جرست نحله العرفط " وقيل : الأبيض تلقيه شباب النحل ، والأصفر كهولها ، والأحمر شبيبها . والظاهر عود الضمير فيه إلى الشراب وهو العسل ، لأنه شفاء من جملة الأشفية والأدوية المشهورة النافعة . وقل معجون من المعاجين لم يذكر الأطباء فيه العسل ، والعسل موجود كثير في أكثر البلدان . وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ، ولم يكن فيما تقدم في أكثر البلدان . وأما السكر فمختص به بعض البلاد وهو محدث ، ولم يكن فيما تقدم من الأزمان يجعل في الأشربة والأدوية إلا العسل ، وليس المراد بالناس هنا العموم ، لأن كثيرا من الأمراض لا يدخل في دوائها العسل ، وإنما المعنى للناس الذي ينجع العسل في أمراضهم . ونكر شفاء إما للتعظيم فيكون المعنى فيه شفاء ، أي : شفاء ، وإما لدلالته على مطلق الشفاء ، أي : فيه بعض الشفاء . وروي عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس ،
والحسن ،
ومجاهد ،
والضحاك ،
nindex.php?page=showalam&ids=14888والفراء ،
وابن كيسان : أن الضمير في ( فيه ) عائد على القرآن ، أي : في القرآن شفاء للناس . قال
النحاس : وهو قول حسن ، أي : فيما قصصنا عليكم من الآيات والبراهين شفاء للناس . قال القاضي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أبو بكر بن العربي : أرى هذا القول لا يصح نقله عن هؤلاء ، ولو صح نقلا لم يصح عقلا فإن سياق الكلام كله للعسل ليس للقرآن فيه ذكر ، ولما كان أمر النحل عجيبا في بنائها تلك البيوت المسدسة ، وفي أكلها من أنواع الأزهار والأوراق الحامض والمر والضار ، وفي طواعيتها لأميرها ولمن يملكها في النقلة معه ، وكأن النظر في ذلك يحتاج إلى تأمل وزيادة تدبر ختم بقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69إن في ذلك لآية لقوم يتفكرون .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=70والله خلقكم ثم يتوفاكم ومنكم من يرد إلى أرذل العمر لكي لا يعلم بعد علم شيئا إن الله عليم قدير nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=71والله فضل بعضكم على بعض في الرزق فما الذين فضلوا برادي رزقهم على ما ملكت أيمانهم فهم فيه سواء أفبنعمة الله يجحدون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72والله جعل لكم من أنفسكم أزواجا وجعل لكم من أزواجكم بنين وحفدة ورزقكم من الطيبات أفبالباطل يؤمنون وبنعمة الله هم يكفرون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73ويعبدون من دون الله ما لا يملك لهم رزقا من السماوات والأرض شيئا ولا يستطيعون nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=74فلا تضربوا لله الأمثال إن الله يعلم وأنتم لا تعلمون )
[ ص: 514 ] لما ذكر تعالى تلك الآيات التي في الأنعام والثمرات والنحل ، ذكر ما نبهنا به على قدرته التامة في إنشائنا من العدم وإماتتنا ، وتنقلنا في حال الحياة من حالة الجهل إلى حالة العلم ، وذلك كله دليل على القدرة التامة والعلم الواسع ، ولذلك ختم بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=70عليم قدير .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=70وأرذل العمر : آخره الذي تفسد فيه الحواس ، ويختل النطق والفكر . وخص بالرذيلة لأنها حالة لا رجاء بعدها لإصلاح ما فسد ، بخلاف حال الطفولة فإنها حالة تتقدم فيها إلى القوة وإدراك الأشياء ولا يتقيد أرذل العمر بسن مخصوص ، كما روي عن
علي : أنه خمس وسبعون سنة . وعن
قتادة : أنه تسعون ، وإنما ذلك بحسب إنسان إنسان فرب ابن خمسين ; انتهى ، إلى أرذل العمر ، ورب ابن مائة لم يرد إليه . والظاهر أن من يرد إلى أرذل العمر عام ، فيمن يلحقه الخرف والهرم . وقيل : هذا في الكافر ، لأن المسلم لا يزداد بطول عمره إلا كرامة على الله ، ولذلك قال تعالى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=95&ayano=5ثم رددناه أسفل سافلين nindex.php?page=tafseer&surano=95&ayano=6إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات ) ، أي : لم يردوا إلى أسفل سافلين . وقال
قتادة :
nindex.php?page=treesubj&link=18620من قرأ القرآن لم يرد إلى أرذل العمر .
واللام في ( لكي ) قال
الحوفي : هي لام كي دخلت على ( كي ) للتوكيد ، وهي متعلقة بيرد ; انتهى . والذي ذهب إليه محققو النحاة في مثل ( لكي ) أن كي حرف مصدري إذا دخلت عليها اللام ، وهي الناصبة كأن ، واللام جارة ، فينسبك من كي والمضارع بعدها مصدر مجرور باللام تقديرا ، فاللام على هذا لم تدخل على ( كي ) للتوكيد لاختلاف معناهما واختلاف عملهما ، لأن اللام مشعرة بالتعليل ، وكي : حرف مصدري ، واللام جارة ، وكي : ناصبة . وقال
ابن عطية : يشبه أن تكون لام صيرورة والمعنى : ليصير أمره بعد العلم بالأشياء إلى أن لا يعلم شيئا . وهذه عبارة عن قلة علمه ، لا أنه لا يعلم شيئا البتة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ليصير إلى حالة شبيهة بحاله في النسيان ، وأن يعلم شيئا ثم يسرع في نسيانه فلا يعلمه إن سئل عنه . وقيل : لئلا يعقل من بعد عقله الأول شيئا . وقيل : لئلا يعلم زيادة علم على علمه ; انتهى . وانتصب ( شيئا ) إما بالمصدر على مذهب
البصريين في اختيار أعماله ما يلي للقرب ، أو بـ ( يعلم ) على مذهب الكوفيين في اختيار أعمال ما سبق للسبق .
ولما ذكر ما يعرض في الهرم من ضعف القوى والقدرة وانتفاء العلم ، ذكر علمه وقدرته اللذين لا يتبدلان ولا يتغيران ولا يدخلهما الحوادث ، ووليت صفة العلم ما جاورها من انتفاء العلم ، وتقدم أيضا ذكر مناسبة للختم بهذين الوصفين . ولما ذكر تعالى خلقنا ، ثم إماتتنا وتفاوتنا في السن ، ذكر
nindex.php?page=treesubj&link=28791تفاوتنا في الرزق ، وأن رزقنا أفضل من رزق المماليك وهم بشر مثلنا ، وربما كان المملوك خيرا من المولى في العقل والدين والتصرف ، وأن الفاضل في الرزق لا يساهم مملوكه فيما رزق فيساويه ، وكان ينبغي أن يرد فضل ما رزق عليه ويساويه في المطعم والملبس ، كما يحكى عن
أبي ذر أنه ريء عبده وإزاره ورداؤه مثل ردائه من غير تفاوت ، عملا بقول رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374614إنما هم إخوانكم فاكسوهم مما تلبسون وأطعموهم مما تطعمون " وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس وقتادة : أن الإخبار بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=71فما الذين فضلوا برادي رزقهم على سبيل المثل ، أي : أن المفضلين في الرزق لا يصح منهم أن يساهموا مماليكهم فيما أعطوا حتى تستوي أحوالهم ، فإذا كان هذا في البشر فكيف تنسبون أنتم أيها الكفرة إلى الله تعالى أنه يشرك في ألوهيته الأوثان والأصنام ، ومن عبد من الملائكة وغيرهم والجميع عبيده وخلقه ؟ وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : أن الآية مشيرة إلى
عيسى ابن مريم عليه وعلى نبينا أفضل الصلاة والسلام . وقال المفسرون : هذه الآية كقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=28ضرب لكم مثلا من أنفسكم )
[ ص: 515 ] الآية . وقيل : المعنى أن الموالي والمماليك أنا رازقهم جميعا ، فهم في رزقي سواء ، فلا تحسبن الموالي أنهم يردون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق ، فإنما ذلك أجريه إليهم على أيديهم . وعلى هذا القول يكون فهم فيه سواء جملة إخبار عن تساوي الجميع في أن الله تعالى هو رازقهم ، وعلى القولين الآخرين تكون الجملة في موضع جواب النفي كأنه قيل : فيستووا . وقيل : هي جملة استفهامية حذف منها الهمزة ; التقدير : أفهم فيه سواء ؟ أي : ليسوا مستوين في الرزق ، بل التفضيل واقع لا محالة . ثم استفهم عن جحودهم نعمه استفهام إنكار ، وأتى بالنعمة الشاملة للرزق وغيره من النعم التي لا تحصى ، أي : إن من تفضل عليكم بالنشأة أولا ثم مما فيه قوام حياتكم جدير بأن تشكر نعمه ولا تكفر .
وقرأ
أبو بكر عن
عاصم ،
وأبو عبد الرحمن ،
nindex.php?page=showalam&ids=13723والأعرج بخلاف عنه : تجحدون ، بالتاء ، على الخطاب لقوله : فضل ، تبكيتا لهم في جحد نعمة الله . ولما ذكر تعالى امتنانه بالإيجاد ثم بالرزق المفضل فيه ، ذكر امتنانه بما يقوم بمصالح الإنسان مما يأنس به ويستنصر به ويخدمه ، واحتمل (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72من أنفسكم ) أن يكون المراد من جنسكم ونوعكم ، واحتمل أن يكون ذلك باعتبار خلق حواء من ضلع من أضلاع آدم ، فنسب ذلك إلى بني آدم ، وكلا الاحتمالين مجاز . والظاهر أن عطف حفدة على بنين يفيد كون الجميع من الأزواج ، وأنهم غير البنين . فقال
الحسن : هم بنو ابنك . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس والأزهري : الحفدة أولاد الأولاد ، واختاره
ابن العربي . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس أيضا : البنون : صغار الأولاد ، والحفدة : كبارهم . وقال
مقاتل : بعكسه ، وقيل : البنات لأنهن يخدمن في البيوت أتم خدمة . ففي هذا القول خص البنين بالذكران لأنه جمع مذكر كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46المال والبنون زينة الحياة الدنيا ) وإنما الزينة في الذكورة . وعن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : هم أولاد الزوجة - من غير الزوج - التي هي في عصمته . وقيل : ( وحفدة ) منصوب بجعل مضمرة ، وليسوا داخلين في كونهم من الأزواج . فقال
nindex.php?page=showalam&ids=10ابن مسعود ،
وعلقمة ،
وأبو الضحى ،
وإبراهيم بن جبير : الأصهار : وهم قرابة الزوجة كأبيها وأخيها . وقال
مجاهد : هم الأنصار والأعوان والخدم . وقالت فرقة : الحفدة هم البنون ، أي : جامعون بين البنوة والخدمة ، فهو من عطف الصفات لموصوف واحد . قال
ابن عطية ما معناه : وهذه الأقوال مبنية على أن كل أحد جعل له من زوجه بنين وحفدة ، وهذا إنما هو في الغالب ومعظم الناس . ويحتمل عندي أن قوله من أزواجكم ، إنما هو على العموم والاشتراك ، أي : من أزواج البشر جعل الله منهم البنين ، ومنهم جعل الخدمة ، وهكذا رتبت الآية النعمة التي تشمل العالم . ويستقيم لفظ الحفدة على مجراها في اللغة ، إذ البشر بجملتهم لا يستغني أحد منهم عن حفدة ; انتهى . وفي قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72من أنفسكم أزواجا ) دلالة على كذب العرب في اعتقادها أن الآدمي قد يتزوج من الجن ويباضعها ، حتى حكوا ذلك عن
عمرو بن هند أنة تزوج سعلاة .
و ( من ) في ( الطيبات ) للتبعيض ، لأن كل الطيبات في الجنة ، والذي في الدنيا أنموذج منها . والظاهر أن الطيبات هنا : المستلذات لا الحلال ، لأن المخاطبين كفار لا يتلبسون بشرع . ولما ذكر تعالى ما امتن به من جعل الأزواج وما ننتفع به من جهتين ، ذكر مننه بالرزق . والطيبات : عام في النبات والثمار والحبوب والأشربة ، ومن الحيوان . وقيل : الطيبات : الغنائم . وقيل : ما أتى من غير نصب . وقال
مقاتل : الباطل الشيطان ، ونعمة الله
محمد صلى الله عليه وسلم وقال
الكلبي : طاعة الشيطان في الحلال والحرام . وقيل : ما يرجى من شفاعة الأصنام وبركتها . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : أفبالباطل يؤمنون وهو ما يعتقدون من منفعة الأصنام وبركتها وشفاعتها ، وما هو إلا وهم باطل لم يتوصلوا إليه بدليل ولا أمارة ، فليس لهم إيمان إلا به . كأنه شيء معلوم مستيقن . ونعمة الله المشاهدة المعاينة التي لا شبهة فيها لذي
[ ص: 516 ] عقل ، وتمييز هم كافرون بها منكرون لها كما ينكر المحال الذي لا تتصوره العقول . وقيل : الباطل ما يسول لهم الشيطان من تحريم البحيرة والسائبة وغيرهما ، ونعمة الله ما أحل لهم ; انتهى . وقرأ الجمهور : يؤمنون ، بالياء ، وهو توقيف للرسول - صلى الله عليه وسلم - على إيمانهم بالباطل ، ويندرج في التوقيف المعطوف بعدها . وقرأ
السلمي ، بالتاء ، ورويت عن
عاصم ، وهو خطاب إنكار وتقريع لهم ، والجملة بعد ذلك مجرد إخبار عنهم . فالظاهر أنه لا يندرج في التقريع . ويعبدون : استفهام إخبار عن حالهم في عبادة الأصنام ، وفي ذلك تبيين لقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72أفبالباطل يؤمنون ، نعى عليهم فساد نظرهم في عبادة ما لا يمكن أن يقع منه ما يسعى عابده في تحصيله منه وهو الرزق ، ولا هو في استطاعته . فنفى أولا أن يكون شيء من الرزق في ملكهم ، ونفى ثانيا قدرتها على أن تحاول ذلك ، وما لا تملك ، عام في جميع من عبد من دون الله من ملك أو آدمي أو غير ذلك . وأجازوا في شيئا انتصابه ، بقوله : رزقا ، أجاز ذلك
أبو علي وغيره . ورد عليه
ابن الطراوة بأن الرزق هو المرزوق كالرعي والطحن ، والمصدر هو الرزق ، بفتح الراء ، كالرعي والطحن . ورد على
ابن الطراوة بأن الرزق بالكسر يكون أيضا مصدرا ، وسمع ذلك فيه ، فصح أن يعمل في المفعول به والمعنى : ما لا يملك أن يرزق من السماوات والأرض شيئا . ومن السماوات متعلق إذ ذاك بالمصدر . قال
ابن عطية بعد أن ذكر إعمال المصدر منونا : والمصدر يعمل مضافا باتفاق ، لأنه في تقدير الانفصال ، ولا يعمل إذا دخله الألف واللام لأنه قد توغل في حال الأسماء وبعد عن الفعلية . وتقدير الانفصال في الإضافة حسن عمله ، وقد جاء عاملا مع الألف واللام في قول الشاعر :
ضعيف النكاية أعداءه
البيت ; وقوله :
لحقت فلم أنكل عن الضرب مسمعا
; انتهى . أما قوله : يعمل ، مضافا بالاتفاق إن عنى من
البصريين فصحيح ، وإن عنى من النحويين فغير صحيح ، لأن بعض النحويين ذهب إلى أنه وإن أضيف لا يعمل ، وإن نصب ما بعده أو رفعه إنما هو على إضمار الفعل المدلول عليه بالمصدر . وأما قوله : لأنه في تقدير الانفصال ليس كذلك ، لأنه لو كان في تقدير الانفصال لكانت الإضافة غير محضة ، وقد قال بذلك
nindex.php?page=showalam&ids=12986أبو القاسم بن برهان ،
وأبو الحسين بن الطراوة ، ومذهبهما فاسد لنعت هذا المصدر المضاف ، وتوكيده بالمعرفة . وأما قوله : ( ولا يعمل ) إلى آخره ، فقد ناقض في قوله أخيرا : وقد جاء عاملا مع الألف واللام . وأما كونه لا يعمل مع الألف واللام فهو مذهب
[ ص: 517 ] منقول عن الكوفيين ، ومذهب
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه جواز إعماله . قال
nindex.php?page=showalam&ids=16076سيبويه : وتقول عجبت من الضرب زيدا ، كما تقول : عجبت من الضارب زيدا ، تكون الألف واللام بمنزلة التنوين . وإذا كان رزقا يراد به المرزوق ، فقالوا : انتصب شيئا على أنه بدل من ( رزقا ) ، كأنه قيل : ما لا يملك لهم من السماوات والأرض شيئا ، وهو البدل جاريا على جهة البيان لأنه أعم من رزق ، ولا على جهة التوكيد لأنه لعمومه ليس مرادفا ، فينبغي أن لا يجوز ، إذ لا يخلو البدل من أحد نوعيه هذين . إما البيان ، وإما التوكيد . وأجازوا أيضا أن يكون مصدرا ، أي : شيئا من الملك ، كقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=57ولا تضرونه شيئا ، أي : شيئا من الضرر . وعلى هذين الإعرابين تتعلق (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73من السماوات ) بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73لا يملك ، أو يكون في موضع الصفة ( لرزق ) فيتعلق بمحذوف ( ومن السماوات رزقا ) ، يعني به : المطر ، وأطلق عليه رزق لأنه عنه ينشأ الرزق . والأرض ، يعني : الشجر ، والثمر ، والزرع . والظاهر عود الضمير في ( يستطيعون ) على ما على معناها ، لأنه يراد بها آلهتهم ، بعدما عاد على اللفظ في قوله : ما لا يملك ، فأفرد وجاز أن يكون داخلا في صلة ما ، وجاز أن لا يكون داخلا ، بل إخبار عنهم بانتفاء الاستطاعة أصلا ، لأنهم أموات . وأما قول
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : إنه يراد بالجمع بين نفي الملك والاستطاعة التوكيد فليس كما ذكر ، لأن نفي الملك مغاير لنفي الاستطاعة . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : ولا يستطيعون أن يرزقوا أنفسهم . وجوز
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري وابن عطية : أن يعود الضمير على ما عاد عليه في قوله : ويعبدون ، وهم الكفار ; أي : ولا يستطيع هؤلاء مع أنهم أحياء متصرفون أولو ألباب من ذلك شيئا ، فكيف بالجماد الذي لا حس به ; قاله
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري . وقال
ابن عطية : لا يستطيعون ذلك ببرهان يظهرونه وحجة يثبتونها ; انتهى . ونهى تعالى عن ضرب الأمثال لله ، وضرب الأمثال تمثيلها ، والمعنى هنا : تمثيل للإشراك بالله والتشبيه به ، لأن من يضرب الأمثال مشبه حالا بحال . وقصة بقصة من قولهم : هذا ضرب لهذا ; أي : مثل ، والضرب : النوع . تقول : الحيوان على ضروب ; أي : أنواع ، وهذا من ضرب واحد ; أي : من نوع واحد . وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : معناه لا تشبهوه بخلقه ; انتهى . وقال :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=74إن الله يعلم : أثبت العلم لنفسه ، والمعنى : أنه يعلم ما تفعلون من عبادة غيره والإشراك به ، وعبر عن الجزاء بالعلم : وأنتم لا تعلمون كنه ما أقدمتم عليه ، ولا وبال عاقبته ، فعدم علمكم بذلك جركم وجرأكم وهو كالتعليل للنهي عن الإشراك . قال
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزمخشري : ويجوز أن يراد أن الله يعلم كيف نضرب الأمثال وأنتم لا تعلمون ; انتهى . وقاله
ابن السائب قال : يعلم بضرب المثل ، وأنتم لا تعلمون ذلك . وقال
مقاتل : يعلم أنه ليس له شريك ، وأنتم لا تعلمون ذلك . وقيل : يعلم خطأ ما تضربون من الأمثال ، وأنتم لا تعلمون صواب ذلك من خطئه .
[ ص: 508 ] (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ لَبَنًا خَالِصًا سَائِغًا لِلشَّارِبِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَرًا وَرِزْقًا حَسَنًا إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتًا وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلًا يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ فِيهِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ ) : لَمَّا ذَكَرَ اللَّهُ تَعَالَى إِحْيَاءَ الْأَرْضِ بَعْدَ مَوْتِهَا ، ذَكَرَ مَا يَنْشَأُ عَنْ مَا يَنْشَأُ عَنِ الْمَطَرِ وَهُوَ حَيَاةُ الْأَنْعَامِ الَّتِي هِيَ مَأْلُوفُ الْعَرَبِ بِمَا يَتَنَاوَلُهُ مِنَ النَّبَاتِ النَّاشِئِ عَنِ الْمَطَرِ ، وَنَبَّهَ عَلَى الْعِبْرَةِ الْعَظِيمَةِ وَهُوَ خُرُوجُ اللَّبَنِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ . وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ بِخِلَافٍ ،
وَالْحَسَنُ ،
nindex.php?page=showalam&ids=15948وَزَيْدُ بْنُ عَلِيٍّ ،
وَابْنُ عَامِرٍ ،
وَأَبُو بَكْرٍ ،
وَنَافِعٌ ،
وَأَهْلُ الْمَدِينَةِ . نَسْقِيكُمْ هُنَا ، وَفِي (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=1قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ) : بِفَتْحِ النُّونِ مُضَارِعُ سَقَى ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِضَمِّهَا مُضَارِعُ أَسْقَى ، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي سَقَى وَأَسْقَى فِي قَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=22فَأَسْقَيْنَاكُمُوهُ ) وَقَرَأَ أَبُو رَجَاءٍ : يُسْقِيكُمْ ، بِالْيَاء مَضْمُومَةً ، وَالضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى اللَّهِ ، أَيْ : يَسْقِيكُمُ اللَّهُ . قَالَ صَاحِبُ اللَّوَامِحِ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ مُسْنَدًا إِلَى النَّعَمِ ، وَذَكَّرَ لِأَنَّ النَّعَمَ مِمَّا يُذَكَّرُ وَيُؤَنَّثُ ; وَمَعْنَاهُ : وَأَنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ نِعْمًا يَسْقِيكُمْ ، أَيْ : يَجْعَلُ لَكُمْ سُقْيًا ; انْتَهَى . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ : بِالتَّاءِ مَفْتُوحَةً ; مِنْهُمْ
أَبُو جَعْفَرٍ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهِيَ ضَعِيفَةٌ ; انْتَهَى . وَضَعْفُهَا عِنْدَهُ - وَاللَّهُ أَعْلَمُ - مِنْ حَيْثُ أَنَّثَ فِي ( تَسْقِيكُمْ ) ، وَذَكَّرَ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ، وَلَا ضَعْفَ فِي ذَلِكَ مِنْ هَذِهِ الْجِهَةِ ، لِأَنَّ التَّأْنِيثَ وَالتَّذْكِيرَ بِاعْتِبَارِ وَجْهَيْنِ ، وَأَعَادَ الضَّمِيرَ مُذَكَّرًا مُرَاعَاةً لِلْجِنْسِ ، لِأَنَّهُ إِذَا صَحَّ وُقُوعُ الْمُفْرَدِ الدَّالِّ عَلَى الْجِنْسِ مَقَامَ جَمْعِهِ جَازَ عَوْدُهُ عَلَيْهِ مُذَكَّرًا ، كَقَوْلِهِمْ : هُوَ أَحْسَنُ الْفِتْيَانِ وَأَنْبَلُهُ ، لِأَنَّهُ يَصِحُّ هُوَ أَحْسَنُ فَتًى ، وَإِنْ كَانَ هَذَا لَا يَنْقَاسُ عِنْدَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ ، إِنَّمَا يَقْتَصِرُ فِيهِ عَلَى مَا قَالَتْهُ الْعَرَبُ . وَقِيلَ : جَمْعُ التَّكْسِيرِ فِيمَا لَا يَعْقِلُ يُعَامَلُ مُعَامَلَةَ الْجَمَاعَةِ ، وَمُعَامَلَةَ الْجَمْعِ ، فَيَعُودُ الضَّمِيرُ عَلَيْهِ مُفْرَدًا . كَقَوْلِهِ :
مِثْلُ الْفِرَاخِ نَبَقَتْ حَوَاصِلُهُ
وَقِيلَ : أَفْرَدَ عَلَى تَقْدِيرِ الْمَذْكُورِ كَمَا يُفْرَدُ اسْمُ الْإِشَارَةِ بَعْدَ الْجَمْعِ كَمَا قَالَ :
[ ص: 509 ] فِيهَا خُطُوطٌ مِنْ سَوَادٍ وَبَلَقْ كَأَنَّهُ فِي الْجِلْدِ تَوْلِيعُ الْبَهَقْ
فَقَالَ : كَأَنَّهُ وَقَدَّرَ بَكَانَ الْمَذْكُورِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15080الْكِسَائِيُّ : ، أَيْ فِي بُطُونِ مَا ذَكَرْنَا . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=15153الْمُبَرِّدُ : وَهَذَا سَائِغٌ فِي الْقُرْآنِ ; قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=73&ayano=19إِنَّ هَذِهِ تَذْكِرَةٌ ) (
nindex.php?page=tafseer&surano=74&ayano=55فَمَنْ شَاءَ ذَكَرَهُ ) ، أَيْ : ذَكَرَ هَذَا الشَّيْءَ . وَقَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=78فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بَازِغَةً قَالَ هَذَا رَبِّي ) ، أَيْ : هَذَا الشَّيْءُ الطَّالِعُ . وَلَا يَكُونُ هَذَا إِلَّا فِي التَّأْنِيثِ الْمَجَازِيِّ ، لَا يَجُوزُ : جَارِيَتُكَ ذَهَبَ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : الضَّمِيرُ عَائِدٌ عَلَى الْبَعْضِ ، إِذِ الذُّكُورُ لَا أَلْبَانَ لَهَا ، فَكَأَنَّ الْعِبْرَةَ إِنَّمَا هِيَ فِي بَعْضِ الْأَنْعَامِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : ذَكَرَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ الْأَنْعَامَ فِي بَابِ مَا لَا يَنْصَرِفُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أَفْعَالٍ ، كَقَوْلِهِمْ : ثَوْبُ أَكْيَاشَ ، وَلِذَلِكَ رَجَعَ الضَّمِيرُ إِلَيْهِ مُفْرَدًا ، وَأَمَّا
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=21فِي بُطُونِهَا فِي سُورَةِ الْمُؤْمِنِينَ فَلِأَنَّ مَعْنَاهُ الْجَمْعُ ، وَيَجُوزُ أَنْ يُقَالَ فِي الْأَنْعَامِ وَجْهَانِ : أَحَدُهُمَا : أَنْ يَكُونَ تَكْسِيرُ نَعَمٍ كَالْأَجْبَالِ فِي جَبَلٍ ، وَأَنْ يَكُونَ اسْمًا مُفْرَدًا مُقْتَضِيًا لِمَعْنَى الْجَمْعِ كَنَعَمٍ ، فَإِذَا ذُكِّرَ فَكَمَا يُذْكَرُ نَعَمٍ فِي قَوْلِهِ :
فِي كُلِّ عَامٍ نَعَمٌ تَحْوُونَهُ يُلَقِّحُهُ قَوْمٌ وَيُنْتِجُونَهُ
وَإِذَا أُنِّثَ فَفِيهِ وَجْهَانِ : إِنَّهُ تَكْسِيرُ نَعَمٍ ، وَأَنَّهُ فِي مَعْنَى الْجَمْعِ ; انْتَهَى . وَأَمَّا مَا ذَكَرَهُ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ فَفِي كِتَابِهِ فِي هَذَا فِي بَابِ مَا كَانَ عَلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ مَا نَصُّهُ : وَأَمَّا أَجَمَالٌ وَفُلُوسٌ ، فَإِنَّهَا تَنْصَرِفُ وَمَا أَشْبَهَهَا ، لِأَنَّهَا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ . أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ : أَقْوَالٌ وَأَقَاوِيلُ ، وَأَعْرَابٌ وَأَعَارِيبُ ، وَأَيْدٍ وَأَيَادٍ ، فَهَذِهِ الْأَحْرُفُ تَخْرُجُ إِلَى مِثَالِ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ كَمَا يَخْرُجُ إِلَيْهِ الْوَاحِدُ إِذَا كُسِرَ لِلْجَمْعِ ، وَأَمَّا مَفَاعِلُ وَمَفَاعِيلُ فَلَا يُكْسَرُ ، فَيَخْرُجُ الْجَمْعُ إِلَى بِنَاءٍ غَيْرِ هَذَا ، لِأَنَّ هَذَا الْبِنَاءَ هُوَ الْغَايَةُ ، فَلَمَّا ضَارَعَتِ الْوَاحِدَ صُرِفَتْ . ثُمَّ قَالَ : وَكَذَلِكَ الْفُعُولُ لَوْ كُسِرَتْ مِثْلُ الْفُلُوسِ لِأَنْ تُجْمَعَ جَمْعًا لَأَخْرَجَتْهُ إِلَى فَعَائِلَ ، كَمَا تَقُولُ : جُدُودٌ وَجَدَائِدُ ، وَرُكُوبٌ وَرَكَائِبُ ، وَلَوْ فَعَلْتَ ذَلِكَ بِمَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَمْ يُجَاوِزْ هَذَا الْبِنَاءَ . وَيُقَوِّي ذَلِكَ أَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ يَقُولُ : أَتَى لِلْوَاحِدِ ، فَيَضُمُّ الْأَلِفَ ، وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ ; مِنَ الْعَرَبِ مَنْ يَقُولُ هُوَ الْأَنْعَامُ ، قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَعَزَّ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ .
وَقَالَ
أَبُو الْخَطَّابِ : سَمِعْتُ الْعَرَبَ يَقُولُونَ : هَذَا ثَوْبُ أَكْيَاشَ ; انْتَهَى . وَالَّذِي ذَكَرَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ هُوَ الْفَرْقُ بَيْنَ مَفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ ، وَبَيْنَ أَفْعَالٍ وَفُعُولٍ ، وَإِنْ كَانَ الْجَمِيعُ أَبْنِيَةً لِلْجَمْعِ مِنْ حَيْثُ إِنَّ مُفَاعِلَ وَمَفَاعِيلَ لَا يُجْمَعَانِ ، وَأَفْعَالٌ وَفُعُولٌ قَدْ يَخْرُجَانِ إِلَى بِنَاءِ شِبْهِ مَفَاعِلَ أَوْ مَفَاعِيلَ لِشَبَهِ ذَيْنَكَ بِالْمُفْرَدِ ، مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ يُمْكِنُ جَمْعُهُمَا وَامْتِنَاعُ هَذَيْنِ مِنَ الْجَمْعِ ، ثُمَّ قَوَّى شَبَهُهُمَا بِالْمُفْرَدِ بِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَالَ فِي أَتَى : أُتَى ، بِضَمِّ الْهَمْزَةِ ، يَعْنِي أَنَّهُ قَدْ جَاءَ نَادِرًا فُعُولٌ مِنْ غَيْرِ الْمَصْدَرِ لِلْمُفْرَدِ ، وَبِأَنَّ بَعْضَ الْعَرَبِ قَدْ يُوقِعُ أَفْعَالًا لِلْوَاحِدَةِ مِنْ حَيْثُ أَفْرَدَ الضَّمِيرَ فَتَقُولُ : هُوَ الْأَنْعَامُ ، وَإِنَّمَا يَعْنِي أَنَّ ذَلِكَ عَلَى سَبِيلِ الْمَجَازِ ، لِأَنَّ الْأَنْعَامَ فِي مَعْنَى النَّعَمِ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ :
تَرَكْنَا الْخَيْلَ وَالنَّعَمَ الْمُفَدَّى وَقُلْنَا لِلنِّسَاءِ بِهَا أَقِيمِي
وَلِذَلِكَ قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : وَأَمَّا أَفْعَالٌ فَقَدْ تَقَعُ لِلْوَاحِدِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ ذَلِكَ بِالْوَضْعِ . فَقَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ : إِنَّهُ ذَكَرَهُ فِي الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ عَلَى أَفْعَالٍ تَحْرِيفٌ فِي اللَّفْظِ ، وَفُهِمٌ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ مَا لَمْ يُرِدْهُ ، وَيَدُلُّ عَلَى مَا قُلْنَاهُ أَنَّ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ حِينَ ذَكَرَ أَبْنِيَةَ الْأَسْمَاءِ الْمُفْرَدَةِ نَصَّ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَيْسَ مِنْ أَبْنِيَتِهَا . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ فِي بَابِ مَا لَحِقَتْهُ الزَّوَائِدُ مِنْ بَنَاتِ الثَّلَاثَةِ وَلَيْسَ فِي الْكَلَامِ : أَفْعِيلٌ ، وَلَا أُفَعْوِلٌ وَلَا أَفْعَالٌ ، وَلَا إِفْعِيلٌ ، وَلَا إِفْعَالٌ إِلَّا أَنْ تَكْسِرَ عَلَيْهِ اسْمًا لِلْجَمِيعِ ; انْتَهَى . فَهَذَا نَصٌّ مِنْهُ عَلَى أَنَّ أَفْعَالًا لَا يَكُونُ فِي الْأَبْنِيَةِ الْمُفْرَدَةِ . وَنَسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ : تَبْيِينٌ لِلْعِبْرَةِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَهُوَ اسْتِئْنَافٌ كَأَنَّهُ قِيلَ : كَيْفَ الْعِبْرَةُ ؟ فَقِيلَ : نَسْقِيكُمْ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ، أَيْ :
nindex.php?page=treesubj&link=28783يَخْلُقُ اللَّهُ اللَّبَنَ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ يَكْتَنِفَانِهِ ، وَبَيْنَهُ وَبَيْنَهُمَا بَرْزَخٌ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ لَا يَبْغِي أَحَدَهُمَا عَلَيْهِ بِلَوْنٍ وَلَا طَعْمٍ وَلَا رَائِحَةٍ ، بَلْ هُوَ خَالِصٌ مِنْ كُلِّهِ ; انْتَهَى . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : إِذَا
[ ص: 510 ] اسْتَقَرَّ الْعَلَفُ فِي الْكِرْشِ صَارَ أَسْفَلُهُ فَرْثًا يَبْقَى فِيهِ ، وَأَعْلَاهُ دَمًا يَجْرِي فِي الْعُرُوقِ ، وَأَوْسَطُهُ لَبَنًا يَجْرِي فِي الضَّرْعِ . وَقَالَ
ابْنُ جُبَيْرٍ : الْفَرْثُ فِي أَوْسَطِ الْمَصَارِينِ ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهَا ، وَاللَّبَنُ بَيْنَهُمَا ، وَالْكَبِدُ يَقْسِمُ الْفَرْثَ إِلَى الْكَرِشِ ، وَالدَّمَ إِلَى الْعُرُوقِ ، وَاللَّبَنَ إِلَى الضُّرُوعِ .
وَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ : قَالَ الْمُفَسِّرُونَ : الْمُرَادُ مِنْ قَوْلِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ ، هُوَ أَنَّ هَذِهِ الثَّلَاثَةَ تَتَوَلَّدُ فِي مَوْضِعٍ وَاحِدٍ ، فَالْفَرْثُ يَكُونُ فِي أَسْفَلِ الْكَرِشِ ، وَالدَّمُ فِي أَعْلَاهُ ، وَاللَّبَنُ فِي الْوَسَطِ ، وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ هَذَا الْقَوْلَ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالتَّجْرِبَةِ ، وَكَانَ
الرَّازِيُّ قَدْ قَدَّمَ أَنَّ الْحَيَوَانَ يُذْبَحُ وَلَا يُرَى فِي كَرِشِهِ دَمٌ وَلَا لَبَنٌ ، بَلِ الْحَقُّ أَنَّ الْغِذَاءَ إِذَا تَنَاوَلَهُ الْحَيَوَانُ وَصَلَ إِلَى الْكَرِشِ وَانْطَبَخَ وَحَصَلَ الْهَضْمُ الْأَوَّلُ فِيهِ ، فَمَا كَانَ مِنْهُ كَثِيفًا نَزَلَ إِلَى الْأَمْعَاءِ ، وَصَافِيًا انْحَدَرَ إِلَى الْكَبِدِ فَيَنْطَبِخُ فِيهَا وَيَصِيرُ دَمًا ، وَهُوَ الْهَضْمُ الثَّانِي مَخْلُوطًا بِالصَّفْرَاءِ وَالسَّوْدَاءِ وَزِيَادَةِ الْمَائِيَّةِ ، فَتَذْهَبُ الصَّفْرَاءُ إِلَى الْمَرَارَةِ ، وَالسَّوْدَاءُ إِلَى الطِّحَالِ ، وَالْمَاءُ إِلَى الْكُلْيَةِ ، وَخَالِصُ الدَّمِ يَذْهَبُ إِلَى الْأَوْرِدَةِ - وَهِيَ الْعُرُوقُ النَّابِتَةُ مِنَ الْكَبِدِ - فَيَحْصُلُ الْهَضْمُ الثَّالِثُ . وَبَيْنَ الْكَبِدِ وَبَيْنَ الضَّرْعِ عُرُوقٌ كَثِيرَةٌ يَنْصَبُّ الدَّمُ مِنْ تِلْكَ الْعُرُوقِ إِلَى الضَّرْعِ ، وَهُوَ لَحْمٌ رِخْوٌ أَبْيَضُ فَيَنْقَلِبُ مِنْ صُورَةِ الدَّمِ إِلَى صُورَةِ اللَّبَنِ ، فَهَذَا هُوَ الصَّحِيحُ فِي كَيْفِيَّةِ تَوَالُدِ اللَّبَنِ ; انْتَهَى ، مُلَخَّصًا . وَقَالَ أَيْضًا : وَأَمَّا نَحْنُ فَنَقُولُ : الْمُرَادُ مِنَ الْآيَةِ هُوَ أَنَّ اللَّبَنَ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنْ بَعْضِ أَجْزَاءِ الدَّمِ ، وَالدَّمُ إِنَّمَا يَتَوَلَّدُ مِنَ الْأَجْزَاءِ اللَّطِيفَةِ الَّتِي فِي الْفَرْثِ ، وَهِيَ الْأَشْيَاءُ الْمَأْكُولَةُ الْحَاصِلَةُ فِي الْكَرِشِ . فَاللَّبَنُ مُتَوَلَّدٌ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنُ الْفَرْثِ أَوَّلًا ، ثُمَّ مِمَّا كَانَ حَاصِلًا فِيمَا بَيْنَ الدَّمِ ثَانِيًا ; انْتَهَى ، مُلَخَّصًا أَيْضًا .
وَالَّذِي يَظْهَرُ مِنْ لَفْظِ الْآيَةِ أَنَّ اللَّبَنَ يَكُونُ وَسَطًا بَيْنَ الْفَرْثِ وَالدَّمِ ، وَالْبَيْنِيَّةُ يُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ بِاعْتِبَارِ الْمَكَانِيَّةِ حَقِيقَةً كَمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ وَادَّعَى
الرَّازِيُّ أَنَّهُ عَلَى خِلَافِ الْحِسِّ وَالْمُشَاهَدَةِ . وَيُحْتَمَلُ أَنْ تَكُونَ الْبَيْنِيَّةُ مَجَازِيَّةً ، بِاعْتِبَارِ تَوَلُّدِهِ مِنْ مَا حَصَلَ فِي الْفَرْثِ أَوَّلًا ، وَتُوَلُّدِهُ مِنَ الدَّمِ النَّاشِئِ مِنْ لَطِيفِ مَا كَانَ فِي الْفَرْثِ ثَانِيًا كَمَا قَرَّرَهُ
الرَّازِيُّ . وَ ( مِنْ ) الْأُولَى : لِلتَّبْعِيضِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ نُسْقِيكُمْ ، وَالثَّانِيَةُ : لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ مُتَعَلِّقَةٌ بِـ نُسْقِيكُمْ ، وَجَازَ تَعَلُّقُهُمَا بِعَامِلٍ وَاحِدٍ لِاخْتِلَافِ مَدْلُولَيْهِمَا . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِنْ بَيْنِ ) فِي مَوْضِعِ الْحَالِ ، فَتَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ، لِأَنَّهُ لَوْ تَأَخَّرَ لَكَانَ صِفَةً ، أَيْ : كَائِنًا مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَدَمٍ . وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ ) بَدَلًا مِنْ ( مَا فِي بُطُونِهِ ) . وَقَرَأَتْ فِرْقَةٌ : سَيِّغًا ، بِتَشْدِيدِ الْيَاءِ ،
وَعِيسَى بْنُ عُمَرَ : سَيْغًا ، مُخَفَّفًا مِنْ سَيِّغٍ ، كَهَيْنٍ الْمُخَفَّفِ مِنْ هَيِّنٍ ، وَلَيْسَ بِفِعْلٍ لَازِمٍ كَانَ يَكُونُ سَوْغًا . وَالسَّائِغُ : السَّهْلُ فِي الْحَلْقِ اللَّذِيذُ ، وَرُوِيَ فِي الْحَدِيثِ "
أَنَّ اللَّبَنَ لَمْ يَشْرَقْ بِهِ أَحَدٌ قَطُّ " وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ الْحَيَوَانِ ، ذَكَرَ مَا مَنَّ بِهِ مِنْ بَعْضِ مَنَافِعِ النَّبَاتِ . وَالظَّاهِرُ تَعَلُّقُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=67وَمِنْ ثَمَرَاتِ ) بِـ تَتَّخِذُونَ ، وَكُرِّرَتْ ( مِنْ ) لِلتَّأْكِيدِ ، وَكَانَ الضَّمِيرُ مُفْرَدًا رَاعِيًا لِمَحْذُوفٍ ، أَيْ : وَمِنْ عَصِيرِ ثَمَرَاتٍ ، أَوْ عَلَى مَعْنَى الثَّمَرَاتِ ، وَهُوَ الثَّمَرُ ، أَوْ بِتَقْدِيرٍ مِنَ الْمَذْكُورِ . وَقِيلَ : تَتَعَلَّقُ بِـ نُسْقِيكُمْ ، فَيَكُونُ مَعْطُوفًا عَلَى (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66مِمَّا فِي بُطُونِهِ ) ، أَوْ بِـ نُسْقِيكُمْ مَحْذُوفَةً دَلَّ عَلَيْهَا ( نُسْقِيكُمُ ) الْمُتَقَدِّمَةُ ، فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الْجُمَلِ ، وَالَّذِي قَبْلَهُ مِنْ عَطْفِ الْمُفْرَدَاتِ إِذَا اشْتَرَكَا فِي الْعَامِلِ . وَقِيلَ : مَعْطُوفٌ عَلَى الْأَنْعَامِ ، أَيْ : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ عِبْرَةٌ ، ثُمَّ بَيَّنَ الْعِبْرَةَ بِقَوْلِهِ : تَتَّخِذُونَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ : التَّقْدِيرُ وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ مَا تَتَّخِذُونَ . فَحَذَفَ ( مَا ) وَهُوَ لَا يَجُوزُ عَلَى مَذْهَبِ
الْبَصْرِيِّينَ ، وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ صِفَةَ مَوْصُوفٍ مَحْذُوفٍ كَقَوْلِهِ : بِكَفِّي كَانَ مَنْ أَرْمَىالْبَشَرِ . تَقْدِيرُهُ : وَمِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ثَمَرٌ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ ; انْتَهَى . وَهَذَا الَّذِي أَجَازَهُ قَالَهُ
الْحَوْفِيُّ ; قَالَ : أَيْ : وَإِنَّ مِنْ ثَمَرَاتِ ، وَإِنْ شِئْتَ شَيْءٌ ، بِالرَّفْعِ بِالِابْتِدَاءِ ، وَمِنْ ثَمَرَاتِ : خَبَرُهُ ; انْتَهَى .
وَالسَّكَرُ فِي اللُّغَةِ : الْخَمْرُ . قَالَ الشَّاعِرُ :
بِئْسَ الصُّحَاةُ وَبِئْسَ الشُّرْبُ شُرْبُهُمْ إِذَا جَرَى مِنْهُمُ الْمُزَّاءُ وَالسَّكَرُ
[ ص: 511 ] وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : سُمِّيَتْ بِالْمَصْدَرِ مِنْ سَكِرَ سُكْرًا وَسَكَرًا نَحْو : رَشُدَ رُشْدًا وَرَشَدًا . قَالَ الشَّاعِرُ :
وَجَاءُونَا بِهِمْ سَكَرًا عَلَيْنَا فَأُجْلِيَ الْيَوْمَ وَالسَّكْرَانُ صَاحِي
وَقَالَهُ :
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12وَابْنُ عُمَرَ ،
وَأَبُو رَزِينٍ ،
وَالْحَسَنُ ،
وَمُجَاهِدٌ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14577وَالشَّعْبِيُّ ،
وَالنَّخْعِيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=12526وَابْنُ أَبِي لَيْلَى ،
وَالْكَلْبِيُّ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13033وَابْنُ جُبَيْرٍ ،
nindex.php?page=showalam&ids=11956وَأَبُو ثَوْرٍ ، وَالْجُمْهُورُ . وَهَذِهِ الْآيَةُ مَكِّيَّةٌ نَزَلَتْ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ ، ثُمَّ حُرِّمَتْ
بِالْمَدِينَةِ فَهِيَ مَنْسُوخَةٌ . قَالَ
الْحَسَنُ : ذَكَرَ اللَّهُ نِعْمَتَهُ فِي السَّكَرِ قَبْلَ تَحْرِيمِ الْخَمْرِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : هُوَ الْخَلُّ بِلُغَةِ الْحَبَشَةِ . وَقِيلَ : الْعَصِيرُ الْحُلْوُ الْحَلَالُ ، وَسُمِّيَ سَكَرًا بِاعْتِبَارِ مَآلِهِ إِذَا تُرِكَ . وَقَالَ
أَبُو عُبَيْدَةَ : السَّكَرُ : الطَّعَامُ ، يُقَالُ هَذَا سَكَرٌ لَك ، أَيْ : طَعَامٌ ، وَاخْتَارَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ قَالَ : وَالسَّكَرُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ : مَا يُطْعَمُ . وَأَنْشَدَ
أَبُو عُبَيْدَةَ :
جَعَلَتْ أَعْرَاضَ الْكِرَامِ سَكَرًا
أَيْ : تَنَقَّلَتْ بِأَعْرَاضِهِمْ . وَقِيلَ : هُوَ مِنَ الْخَمْرِ ، وَأَنَّهُ إِذَا ابْتَرَكَ فِي أَعْرَاضِ النَّاسِ فَكَأَنَّهُ تَخَمَّرَ بِهَا ، قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ ، وَتَبِعَ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ قَالَ : يَصِفُ أَنَّهُ يُخَمَّرُ بِعُيُوبِ النَّاسِ ، وَعَلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ لَا نَسْخَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14416الزَّجَّاجُ : قَوْلُ
أَبِي عُبَيْدَةَ لَا يَصِحُّ ، وَأَهْلُ التَّفْسِيرِ عَلَى خِلَافِهِ . وَقِيلَ : السَّكَرُ : مَا لَا يُسْكِرُ مِنَ الْأَنْبِذَةِ ، وَقِيلَ : السَّكَرُ : النَّبِيذُ ، وَهُوَ عَصِيرُ الْعِنَبِ وَالزَّبِيبِ وَالتَّمْرِ إِذَا طُبِخَ حَتَّى يَذْهَبَ ثُلُثَاهُ ثُمَّ يُتْرَكُ حَتَّى يَشْتَدَّ ، وَهُوَ حَلَالٌ عِنْدَ
أَبِي حَنِيفَةَ إِلَى حَدِّ السُّكْرِ ; انْتَهَى . وَإِذَا أُرِيدَ بِالسَّكَرِ الْخَمْرُ فَقَدْ تَقَدَّمَ أَنَّ ذَلِكَ مَنْسُوخٌ ، وَإِذَا لَمْ نَقُلْ بِنَسْخٍ فَقِيلَ : جَمَعَ بَيْنَ الْعِتَابِ وَالْمِنَّةِ . يَعْنِي بِالْعِتَابِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحْرُمُ ، وَبِالْمِنَّةِ عَلَى اتِّخَاذِ مَا يَحِلُّ ، وَهُوَ الْخَلُّ وَالرُّبُّ وَالزَّبِيبُ وَالتَّمْرُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَيَجُوزُ أَنْ يُجْعَلَ السَّكَرُ رِزْقًا حَسَنًا كَأَنَّهُ قِيلَ : تَتَّخِذُونَ مِنْهُ مَا هُوَ سَكَرٌ وَرِزْقٌ حَسَنٌ ; انْتَهَى . فَيَكُونُ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ ، وَظَاهِرُ الْعَطْفِ الْمُغَايَرَةُ . وَلَمَّا كَانَ مُفْتَتَحُ الْكَلَامِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=66وَإِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعَامِ لَعِبْرَةً ، نَاسَبَ الْخَتْمَ بِقَوْلِهِ : يَعْقِلُونَ ، لِأَنَّهُ لَا يَعْتَبِرُ إِلَّا ذَوُو الْعُقُولِ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=3&ayano=13إِنَّ فِي ذَلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَلْبَابِ ) .
وَانْظُرْ إِلَى الْإِخْبَارِ عَنْ نِعْمَةِ اللَّبَنِ وَنِعْمَةِ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ ، لَمَّا كَانَ اللَّبَنُ لَا يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ مِنَ النَّاسِ ، أَخْبَرَ عَنْ نَفْسِهِ تَعَالَى بِقَوْلِهِ : نُسْقِيكُمْ . وَلَمَّا كَانَ السَّكَرُ وَالرِّزْقُ الْحَسَنُ يَحْتَاجُ إِلَى مُعَالَجَةٍ قَالَ : تَتَّخِذُونَ ، فَأَخْبَرَ عَنْهُمْ بِاتِّخَاذِهِمْ مِنْهُ السَّكَرَ وَالرِّزْقَ ، وَلِأَمْرٍ مَا عَجَزَتِ الْعَرَبُ الْعَرْبَاءُ عَنْ مُعَارَضَتِهِ . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى الْمِنَّةَ بِالْمَشْرُوبِ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ ، أَتَمَّ النِّعْمَةَ بِذِكْرِ الْعَسَلِ النَّحْلِ . وَلَمَّا كَانَتِ الْمَشْرُوبَاتِ مِنَ اللَّبَنِ وَغَيْرِهِ هُوَ الْغَالِبَ فِي النَّاسِ أَكْثَرَ مِنَ الْعَسَلِ ، قَدَّمَ اللَّبَنَ وَغَيْرَهُ عَلَيْهِ ، وَقَدَّمَ اللَّبَنَ عَلَى مَا بَعْدَهُ لِأَنَّهُ الْمُحْتَاجُ إِلَيْهِ كَثِيرًا وَهُوَ الدَّلِيلُ عَلَى الْفِطْرَةِ . وَلِذَلِكَ اخْتَارَهُ الرَّسُولُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - حِينَ أُسْرِيَ بِهِ ، وَعُرِضَ عَلَيْهِ اللَّبَنُ وَالْخَمْرُ وَالْعَسَلُ ، وَجَاءَ تَرْتِيبُهَا فِي الْجَنَّةِ لِهَذِهِ الْآيَةِ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=47&ayano=15وَأَنْهَارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَأَنْهَارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَأَنْهَارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى ) فَفِي إِخْرَاجِ اللَّبَنِ مِنَ النِّعَمِ ، وَالسَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ مِنْ ثَمَرَاتِ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ ، وَالْعَسَلِ مِنَ النَّحْلِ ، دَلَائِلُ بَاهِرَةٌ عَلَى الْأُلُوهِيَّةِ وَالْقُدْرَةِ وَالِاخْتِيَارِ . وَالْإِيحَاءُ هُنَا الْإِلْهَامُ وَالْإِلْقَاءُ فِي رُوعِهَا ، وَتَعْلِيمُهَا عَلَى وَجْهٍ هُوَ تَعَالَى أَعْلَمُ بِكُنْهِهِ لَا سَبِيلَ إِلَى الْوُقُوفِ عَلَيْهِ . وَالنَّحْلُ : جِنْسٌ ، وَاحِدُهُ نَحْلَةٌ ، وَيُؤَنَّثُ فِي لُغَةِ
الْحِجَازِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=68أَنِ اتَّخِذِي . وَقَرَأَ
nindex.php?page=showalam&ids=17340ابْنُ وَثَّابٍ : النَّحَلِ ، بِفَتْحِ الْحَاءِ ، وَ ( أَنْ ) تَفْسِيرِيَّةٌ ، لِأَنَّهُ تَقَدَّمَ مَعْنَى الْقَوْلِ وَهُوَ : وَأَوْحَى . أَوْ مَصْدَرِيَّةٌ ، أَيْ : بِاتِّخَاذٍ ، قَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ : ( أَنْ ) هِيَ الْمُفَسِّرَةُ لِمَا فِي الْوَحْيِ مِنْ مَعْنَى الْقَوْلِ ، هَذَا قَوْلُ جُمْهُورِ الْمُفَسِّرِينَ وَفِيهِ نَظَرٌ . لِأَنَّ الْوَحْيَ هُنَا بِإِجْمَاعٍ مِنْهُمْ هُوَ الْإِلْهَامُ ، وَلَيْسَ فِي الْإِلْهَامِ مَعْنَى الْقَوْلِ ، وَقَالَ : قَرَّرَ تَعَالَى فِي أَنْفُسِهَا الْأَعْمَالَ الْعَجِيبَةَ الَّتِي يَعْجِزُ عَنْهَا لِلْعُقَلَاءِ مِنَ الْبَشَرِ مِنْهَا بِنَاؤُهَا الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ مِنْ أَضْلَاعٍ مُتَسَاوِيَةٍ بِمُجَرَّدِ طِبَاعِهَا ، وَلَا يَتِمُّ مِثْلُ ذَلِكَ لِلْعُقَلَاءِ إِلَّا بِآلَاتٍ كَالْمِسْطَرَةِ وَالْبُرْكَانِ ، وَلَمْ تَبْنِهَا بِأَشْكَالٍ غَيْرِ تِلْكَ ، فَتَضِيقُ تِلْكَ الْبُيُوتُ عَنْهَا لِبَقَاءِ فُرَجٍ لَا تَسَعُهَا ، وَلَهَا أَمِيرٌ أَكْبَرُ جُثَّةً مِنْهَا نَافِذُ الْحُكْمِ يَخْدِمُونَهُ ، وَإِذَا نَفَرَتْ
[ ص: 512 ] عَنْ وَكْرِهَا إِلَى مَوْضِعٍ آخَرَ وَأَرَادُوا عَوْدَهَا إِلَى وَكْرِهَا ضَرَبُوا الطُّبُولَ وَآلَاتِ الْمُويْسِيقَا ، وَبِوَسَاطَةِ تِلْكَ الْأَلْحَانِ تَعُودُ إِلَى وَكْرِهَا ، فَلَمَّا امْتَازَتْ بِهَذِهِ الْخَوَاصِّ الْعَجِيبَةِ وَلَيْسَ إِلَّا عَلَى سَبِيلِ الْإِلْهَامِ ، وَهِيَ حَالَةٌ تُشْبِهُ الْوَحْيَ لِذَلِكَ قَالَ : وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ; انْتَهَى ، مُلَخَّصًا . وَ ( مِنْ ) لِلتَّبْعِيضِ لِأَنَّهَا لَا تَبْنِي فِي كُلِّ جَبَلٍ ، وَكُلِّ شَجَرٍ ، وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ ، وَلَا فِي كُلِّ مَكَانٍ مِنْهَا . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الْبُيُوتَ هُنَا عِبَارَةٌ عَنِ الْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْجِبَالِ ، وَفِي مُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ . وَإِمَّا مِنْ مَا يَعْرِشُ ابْنُ آدَمَ فَالْخَلَايَا الَّتِي يَصْنَعُهَا لِلنَّحْلِ ابْنُ آدَمَ ، وَالْكُوَى الَّتِي تَكُونُ فِي الْحِيطَانِ . وَلَمَّا كَانَ النَّحْلُ نَوْعَيْنِ : مِنْهُ مَا مَقَرُّهُ فِي الْجِبَالِ وَالْغِيَاضِ وَلَا يَتَعَهَّدُهُ أَحَدٌ ، وَمِنْهُ مَا يَكُونُ فِي بُيُوتِ النَّاسِ وَيُتَعَهَّدُ فِي الْخَلَايَا وَنَحْوِهَا ، شَمِلَ الْأَمْرَ بِاتِّخَاذِ الْبُيُوتِ النَّوْعَيْنِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : مَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْبُيُوتَ لَيْسَتِ الْكُوَى ، وَإِنَّمَا هِيَ مَا تَبْنِيهِ هِيَ ، فَقَالَ : أُرِيدَ مَعْنَى الْبَعْضِيَّةِ ، يَعْنِي بِمِنْ ، وَأَنْ لَا يُبْنَى بُيُوتُهَا فِي كُلِّ جَبَلٍ وَكُلِّ شَجَرٍ وَكُلِّ مَا يُعْرَشُ . وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ : وَمِمَّا يَعْرِشُونَ : الْكُرُومُ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16935الطَّبَرِيُّ : مِمَّا يَبْنُونَ مِنَ السُّقُوفِ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : وَهَذَا مِنْهُمَا تَفْسِيرٌ غَيْرُ مُتْقَنٍ ; انْتَهَى . وَقَرَأَ
السُّلَمِيُّ ،
وَعُبَيْدُ بْنُ نَضْلَةَ ،
وَابْنُ عَامِرٍ ،
وَأَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ : بِضَمِّ الرَّاءِ ، وَبَاقِي السَّبْعَةِ بِكَسْرِهَا ، وَتَقْتَضِي ( ثُمَّ ) الْمُهْلَةَ وَالتَّرَاخِيَ بَيْنَ الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ الَّذِي تَدَّخِرُ مِنْهُ الْعَسَلَ ، فَلِذَلِكَ كَانَ الْعَطْفُ بِثُمَّ وَهُوَ مَعْطُوفٌ عَلَى ( اتَّخِذِي ) ، وَهُوَ أَمْرٌ مَعْطُوفٌ عَلَى أَمْرٍ ، وَسَيَأْتِي الْكَلَامُ عَلَى أَمْرٍ غَيْرِ الْمُكَلَّفِ فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=27&ayano=18يَا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ ) - إِنْ شَاءَ اللَّهُ - وَكُلِّ الثَّمَرَاتِ عَامٌّ مَخْصُوصٌ ، أَيِ : الْمُعْتَادَةِ ، لَا كُلِّهَا . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : أَيِ : ابْنِي الْبُيُوتَ ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ ثَمَرَةٍ تَشْتَهِيهَا ; انْتَهَى . فَدَلَّ قَوْلُهُ : أَيْ : ابْنِي الْبُيُوتَ ، أَنَّهُ لَا يُرِيدُ بِقَوْلِهِ ( بُيُوتًا ) : الْكُوَى الَّتِي فِي الْجِبَالِ وَمُتَجَوِّفِ الْأَشْجَارِ وَلَا الْخَلَايَا ، وَإِنَّمَا يُرَادُ : الْبُيُوتُ الْمُسَدَّسَةُ الَّتِي تَبْنِيهَا هِيَ . وَظَاهِرُ ( مِنْ ) فِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ ) أَنَّهَا لِلتَّبْعِيضِ ، فَتَأْكُلُ مِنَ الْأَشْجَارِ الطَّيِّبَةِ وَالْأَوْرَاقِ الْعَطِرَةِ أَشْيَاءَ يُوَلِّدُ اللَّهُ مِنْهَا فِي أَجْوَافِهَا عَسَلًا . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : إِنَّمَا تَأْكُلُ النَّوَّارَ مِنَ الْأَشْجَارِ .
وَقَالَ
أَبُو عَبْدِ اللَّهِ الرَّازِيُّ مَا مُلَخَّصُهُ : يُحْدِثُ اللَّهُ تَعَالَى فِي الْهَوَاءِ ظِلًّا كَثِيرًا يَجْتَمِعُ مِنْهُ أَجْزَاءٌ مَحْسُوسَةٌ مِثْلُ النَّرَنْجَبِينِ وَهُوَ مَحْسُوسٌ ، وَ قَلِيلًا : لَطِيفُ الْأَجْزَاءِ صَغِيرُهَا ، وَهُوَ الَّذِي أَلْهَمَ اللَّهُ تَعَالَى النَّحْلَ الْتِقَاطَهُ مِنَ الْأَزْهَارِ وَأَوْرَاقِ الْأَشْجَارِ ، وَتَغْتَذِي بِهَا فَإِذَا شَبِعَتِ الْتَقَطَتْ بِأَفْوَاهِهَا شَيْئًا مِنْ تِلْكَ الْأَجْزَاءِ ، وَوَضَعَتْهَا فِي بُيُوتِهَا كَأَنَّهَا تُحَاوِلُ أَنْ تَدَّخِرَ لِنَفْسِهَا غِذَاءَهَا ، فَالْمُجْتَمِعُ مِنْ ذَلِكَ هُوَ الْعَسَلُ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ تَكُونُ ( مِنْ ) لِابْتِدَاءِ الْغَايَةِ ، لَا لِلتَّبْعِيضِ ; انْتَهَى . وَظَاهِرُ الْعَطْفِ بِالْفَاءِ فِي ( فَاسْلُكِي ) أَنَّهُ بِعَقِيبِ الْأَكْلِ ، أَيْ : فَإِذَا أَكَلْتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ، ، أَيْ طُرُقَ رَبِّكِ إِلَى بُيُوتِكِ رَاجِعَةً ، وَالسُّبُلُ إِذْ ذَاكَ مَسَالِكُهَا فِي الطَّيَرَانِ . وَرُبَّمَا أَخَذَتْ مَكَانَهَا فَانْتَجَعَتِ الْمَكَانَ الْبَعِيدَ ، ثُمَّ عَادَتْ إِلَى مَكَانِهَا الْأَوَّلِ . وَقِيلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69سُبُلَ رَبِّكِ ، أَيِ : الطُّرُقَ الَّتِي أَلْهَمَكِ وَأَفْهَمَكِ فِي عَمَلِ الْعَسَلِ ، أَوْ فَاسْلُكِي مَا أَكَلْتِ ، أَيْ : فِي سُبُلِ رَبِّكِ ، أَيْ : فِي مَسَالِكِهِ الَّتِي يُحِيلُ فِيهَا بِقُدْرَتِهِ النَّوَّارَ الْمُرَّ عَسَلًا مِنْ أَجْوَافِكِ وَمَنَافِذِ مَأْكَلِكِ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَنْتَصِبُ " سُبُلَ " رَبِّكِ عَلَى الظَّرْفِ ، وَعَلَى مَا قَبْلَهُ يَنْتَصِبُ عَلَى الْمَفْعُولِ بِهِ . وَقِيلَ : الْمُرَادُ بِقَوْلِهِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69ثُمَّ كُلِي ) ، ثُمَّ اقْصِدِي الْأَكْلَ مِنَ الثَّمَرَاتِ فَاسْلُكِي فِي طَلَبِهَا سُبُلَ رَبِّكِ ، وَهَذَا الْقَوْلُ وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَقْرَبُ فِي الْمَجَازِ فِي سُبُلَ رَبِّكِ مِنَ الْقَوْلَيْنِ اللَّذَيْنِ بَيْنَهُمَا ، إِلَّا أَنَّ ( كُلِي ) بِمَعْنَى اقْصِدِي الْأَكْلَ ، مَجَازٌ أَضَافَ السُّبُلَ إِلَى رَبِّ النَّحْلِ مِنْ حَيْثُ إِنَّهُ تَعَالَى هُوَ خَالِقُهَا وَمَالِكُهَا وَالنَّاظِرُ فِي تَهْيِئَةِ مَصَالِحِهَا وَمَعَاشِهَا . وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : ذُلُلًا : غَيْرَ مُتَوَعِّرَةٍ عَلَيْهَا سَبِيلٌ تَسْلُكُهُ ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا حَالٌ مِنْ سَبِيلِ رَبِّكِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=15هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ) وَقَالَ
قَتَادَةُ : أَيْ : مُطِيعَةً مُنْقَادَةً . وَقَالَ
ابْنُ زَيْدٍ : يَخْرُجُونَ بِالنَّحْلِ : يَنْتَجِعُونَ وَهِيَ تَتْبَعُهُمْ ، فَعَلَى هَذَا ذُلُلًا :
[ ص: 513 ] حَالٌ مِنَ النَّحْلِ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=36&ayano=72وَذَلَّلْنَاهَا لَهُمْ ) ثُمَّ ذَكَرَ تَعَالَى عَلَى جِهَةِ تَعْدِيدِ النِّعْمَةِ وَالتَّنْبِيهِ عَلَى الْمِنَّةِ ثَمَرَةَ هَذَا الِاتِّخَاذِ وَالْأَكْلِ وَالسُّلُوكِ وَهُوَ قَوْلُهُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِهَا شَرَابٌ ، وَهُوَ الْعَسَلُ . وَسَمَّاهُ شَرَابًا لِأَنَّهُ مِمَّا يُشْرَبُ ، كَمَا ذَكَرَ ثَمَرَةَ الْأَنْعَامِ وَهِيَ سَقْيُ اللَّبَنِ ، وَثَمَرَةَ النَّخِيلِ وَالْأَعْنَابِ وَهُوَ اتِّخَاذُ السَّكَرِ وَالرِّزْقِ الْحَسَنِ . وَذَكَرَ تَعَالَى الْمَقَرَّ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْهُ الشَّرَابُ وَهُوَ بُطُونُهَا ، وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأُولَى ، وَالْجُمْهُورُ عَلَى أَنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهَا وَهُوَ مَبْدَأُ الْغَايَةِ الْأَخِيرَةِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ الْحَرِيرِيُّ :
تَقُولُ هَذَا مُجَاجُ النَّحْلِ تَمْدَحُهُ وَإِنْ ذَمَمْتَ تَقُلْ قَيْءَ الزَّنَابِيرِ
وَالْمُجَاجُ وَالْقَيْءُ لَا يَكُونَانِ إِلَّا مِنَ الْفَمِ . وَرُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ - كَرَّمَ اللَّهُ وَجْهَهُ - أَنَّهُ قَالَ فِي تَحْقِيرِ الدُّنْيَا : أَشْرَفُ لِبَاسِ ابْنِ آدَمَ فِيهَا لُعَابُ دُودَةٍ ، وَأَشْرَفَ شَرَابِهِ رَجِيعُ نَحْلَةٍ . وَعَنْهُ أَيْضًا : أَمَّا الْعَسَلُ فَوَنِيمُ ذُبَابٍ ، فَظَاهِرُ هَذَا أَنَّ الْعَسَلَ يَخْرُجُ مِنْ غَيْرِ الْفَمِ ، وَقَدْ خَفِيَ مِنْ أَيِّ الْمَخْرَجَيْنِ يَخْرُجُ ، أَمِنَ الْفَمِ ؟ أَمْ مِنْ أَسْفَلُ ؟ وَحُكِيَ أَنَّ
سُلَيْمَانَ عَلَيْهِ السَّلَامُ ،
وَالْإِسْكَنْدَرَ ،
وَأَرِسْطَاطَالِيسَ ، صَنَعُوا لَهَا بُيُوتًا مِنْ زُجَاجٍ لِيَنْظُرُوا إِلَى كَيْفِيَّةِ صُنْعِهَا ، وَهَلْ يَخْرُجُ الْعَسَلُ مِنْ فِيهَا أَمْ مِنْ أَسْفَلِهَا ؟ فَلَمْ تَضَعْ مِنَ الْعَسَلِ شَيْئًا حَتَّى لَطَّخَتْ بَاطِنَ الزُّجَاجِ بِالطِّينِ بِحَيْثُ يَمْنَعُ الْمُشَاهَدَةَ . وَقَالَ
الْحَسَنُ : لُبَابُ الْبُرِّ بِلُعَابِ النَّحْلِ بِخَالِصِ السَّمْنِ مَا عَابَهُ مُسْلِمٌ ، فَجَعَلَهُ لُعَابًا كَالرِّيقِ الدَّائِمِ الَّذِي يَخْرُجُ مِنْ فَمِ ابْنِ آدَمَ . وَقِيلَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69مِنْ بُطُونِهَا : مِنْ أَفْوَاهِهَا ، سَمَّى الْفَمَ بَطْنًا لِأَنَّهُ فِي حُكْمِ الْبَطْنِ ، وَلِأَنَّهُ مِمَّا يَبْطَنُ وَلَا يَظْهَرُ . وَاخْتِلَافُ أَلْوَانِهِ بِالْبَيَاضِ وَالصُّفْرَةِ وَالْحُمْرَةِ وَالسَّوَادِ ، وَذَلِكَ لِاخْتِلَافِ طِبَاعِ النَّحْلِ ، وَاخْتِلَافِ الْمَرَاعِي . وَقَدْ يَخْتَلِفُ طَعْمُهُ لِاخْتِلَافِ الْمَرْعَى ، كَمَا فِي الْحَدِيثِ "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374613جَرَسَتْ نَحْلُهُ الْعَرْفَطَ " وَقِيلَ : الْأَبْيَضُ تُلْقِيهِ شَبَابُ النَّحْلِ ، وَالْأَصْفَرُ كُهُولُهَا ، وَالْأَحْمَرُ شَبِيبُهَا . وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِيهِ إِلَى الشَّرَابِ وَهُوَ الْعَسَلُ ، لِأَنَّهُ شِفَاءٌ مِنْ جُمْلَةِ الْأَشْفِيَةِ وَالْأَدْوِيَةِ الْمَشْهُورَةِ النَّافِعَةِ . وَقَلَّ مَعْجُونٌ مِنَ الْمَعَاجِينِ لَمْ يَذْكُرِ الْأَطِبَّاءُ فِيهِ الْعَسَلَ ، وَالْعَسَلُ مَوْجُودٌ كَثِيرٌ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ . وَأَمَّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ الْبِلَادِ وَهُوَ مُحْدَثٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ فِي أَكْثَرِ الْبُلْدَانِ . وَأَمَّا السَّكَرُ فَمُخْتَصٌّ بِهِ بَعْضُ الْبِلَادِ وَهُوَ مُحْدَثٌ ، وَلَمْ يَكُنْ فِيمَا تَقَدَّمَ مِنَ الْأَزْمَانِ يُجْعَلُ فِي الْأَشْرِبَةِ وَالْأَدْوِيَةِ إِلَّا الْعَسَلَ ، وَلَيْسَ الْمُرَادُ بِالنَّاسِ هُنَا الْعُمُومَ ، لِأَنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَمْرَاضِ لَا يَدْخُلُ فِي دَوَائِهَا الْعَسَلُ ، وَإِنَّمَا الْمَعْنَى لِلنَّاسِ الَّذِي يُنْجَعُ الْعَسَلُ فِي أَمْرَاضِهِمْ . وَنَكَّرَ شِفَاءً إِمَّا لِلتَّعْظِيمِ فَيَكُونُ الْمَعْنَى فِيهِ شِفَاءٌ ، أَيْ : شِفَاءٌ ، وَإِمَّا لِدَلَالَتِهِ عَلَى مُطْلَقِ الشِّفَاءِ ، أَيْ : فِيهِ بَعْضُ الشِّفَاءِ . وَرُوِيَ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ ،
وَالْحَسَنِ ،
وَمُجَاهِدٍ ،
وَالضَّحَّاكِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=14888وَالْفَرَّاءِ ،
وَابْنِ كَيْسَانَ : أَنَّ الضَّمِيرَ فِي ( فِيهِ ) عَائِدٌ عَلَى الْقُرْآنِ ، أَيْ : فِي الْقُرْآنِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ . قَالَ
النَّحَّاسُ : وَهُوَ قَوْلٌ حَسَنٌ ، أَيْ : فِيمَا قَصَصْنَا عَلَيْكُمْ مِنَ الْآيَاتِ وَالْبَرَاهِينِ شِفَاءٌ لِلنَّاسِ . قَالَ الْقَاضِي
nindex.php?page=showalam&ids=12815أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ : أَرَى هَذَا الْقَوْلَ لَا يَصِحُّ نَقْلُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ ، وَلَوْ صَحَّ نَقْلًا لَمْ يَصِحَّ عَقْلًا فَإِنَّ سِيَاقَ الْكَلَامِ كُلِّهِ لِلْعَسَلِ لَيْسَ لِلْقُرْآنِ فِيهِ ذِكْرٌ ، وَلَمَّا كَانَ أَمْرُ النِّحَلِ عَجِيبًا فِي بِنَائِهَا تِلْكَ الْبُيُوتَ الْمُسَدَّسَةَ ، وَفِي أَكْلِهَا مِنْ أَنْوَاعِ الْأَزْهَارِ وَالْأَوْرَاقِ الْحَامِضِ وَالْمُرِّ وَالضَّارِّ ، وَفِي طَوَاعِيَتِهَا لِأَمِيرِهَا وَلِمَنْ يَمْلِكُهَا فِي النُّقْلَةِ مَعَهُ ، وَكَأَنَّ النَّظَرُ فِي ذَلِكَ يَحْتَاجُ إِلَى تَأَمُّلٍ وَزِيَادَةِ تَدَبُّرٍ خَتَمَ بِقَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=69إِنَّ فِي ذَلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=70وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=71وَاللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى مَا مَلَكَتْ أَيْمَانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ أَفَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَةِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73وَيَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقًا مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا وَلَا يَسْتَطِيعُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=74فَلَا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ )
[ ص: 514 ] لَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى تِلْكَ الْآيَاتِ الَّتِي فِي الْأَنْعَامِ وَالثَّمَرَاتِ وَالنَّحْلِ ، ذَكَرَ مَا نَبَّهَنَا بِهِ عَلَى قُدْرَتِهِ التَّامَّةِ فِي إِنْشَائِنَا مِنَ الْعَدَمِ وَإِمَاتَتِنَا ، وَتَنَقُّلِنَا فِي حَالِ الْحَيَاةِ مِنْ حَالَةِ الْجَهْلِ إِلَى حَالَةِ الْعِلْمِ ، وَذَلِكَ كُلُّهُ دَلِيلٌ عَلَى الْقُدْرَةِ التَّامَّةِ وَالْعِلْمِ الْوَاسِعِ ، وَلِذَلِكَ خَتَمَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=70عَلِيمٌ قَدِيرٌ .
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=70وَأَرْذَلُ الْعُمُرِ : آخِرُهُ الَّذِي تَفْسُدُ فِيهِ الْحَوَاسُّ ، وَيَخْتَلُّ النُّطْقُ وَالْفِكْرُ . وَخَصَّ بِالرَّذِيلَةِ لِأَنَّهَا حَالَةٌ لَا رَجَاءَ بَعْدَهَا لِإِصْلَاحِ مَا فَسَدَ ، بِخِلَافِ حَالِ الطُّفُولَةِ فَإِنَّهَا حَالَةٌ تَتَقَدَّمُ فِيهَا إِلَى الْقُوَّةِ وَإِدْرَاكِ الْأَشْيَاءِ وَلَا يَتَقَيَّدُ أَرْذَلُ الْعُمُرِ بِسِنٍّ مَخْصُوصٍ ، كَمَا رُوِيَ عَنْ
عَلِيٍّ : أَنَّهُ خَمْسٌ وَسَبْعُونَ سَنَةً . وَعَنْ
قَتَادَةَ : أَنَّهُ تِسْعُونَ ، وَإِنَّمَا ذَلِكَ بِحَسْبِ إِنْسَانٍ إِنْسَانٍ فَرُبَّ ابْنِ خَمْسِينَ ; انْتَهَى ، إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ ، وَرُبَّ ابْنِ مِائَةٍ لَمْ يُرَدَّ إِلَيْهِ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ عَامٌّ ، فِيمَنْ يَلْحَقُهُ الْخَرَفُ وَالْهَرَمُ . وَقِيلَ : هَذَا فِي الْكَافِرِ ، لِأَنَّ الْمُسْلِمَ لَا يَزْدَادُ بِطُولِ عُمُرِهِ إِلَّا كَرَامَةً عَلَى اللَّهِ ، وَلِذَلِكَ قَالَ تَعَالَى : (
nindex.php?page=tafseer&surano=95&ayano=5ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=95&ayano=6إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ) ، أَيْ : لَمْ يُرَدُّوا إِلَى أَسْفَلَ سَافِلِينَ . وَقَالَ
قَتَادَةُ :
nindex.php?page=treesubj&link=18620مَنْ قَرَأَ الْقُرْآنَ لَمْ يُرَدَّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ .
وَاللَّامُ فِي ( لِكَيْ ) قَالَ
الْحَوْفِيُّ : هِيَ لَامُ كَيْ دَخَلَتْ عَلَى ( كَيْ ) لِلتَّوْكِيدِ ، وَهِيَ مُتَعَلِّقَةٌ بِيُرَدُّ ; انْتَهَى . وَالَّذِي ذَهَبَ إِلَيْهِ مُحَقِّقُو النُّحَاةِ فِي مِثْلِ ( لِكَيْ ) أَنَّ كَيْ حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ إِذَا دَخَلَتْ عَلَيْهَا اللَّامُ ، وَهِيَ النَّاصِبَةُ كَأَنْ ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ ، فَيَنْسَبِكُ مِنْ كَيْ وَالْمُضَارِعُ بَعْدَهَا مَصْدَرٌ مَجْرُورٌ بِاللَّامِ تَقْدِيرًا ، فَاللَّامُ عَلَى هَذَا لَمْ تَدْخُلْ عَلَى ( كَيْ ) لِلتَّوْكِيدِ لِاخْتِلَافِ مَعْنَاهُمَا وَاخْتِلَافِ عَمَلِهِمَا ، لِأَنَّ اللَّامَ مُشْعِرَةٌ بِالتَّعْلِيلِ ، وَكَيْ : حَرْفٌ مَصْدَرِيٌّ ، وَاللَّامُ جَارَّةٌ ، وَكَيْ : نَاصِبَةٌ . وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : يُشْبِهُ أَنْ تَكُونَ لَامَ صَيْرُورَةٍ وَالْمَعْنَى : لِيَصِيرَ أَمْرُهُ بَعْدَ الْعِلْمِ بِالْأَشْيَاءِ إِلَى أَنْ لَا يَعْلَمَ شَيْئًا . وَهَذِهِ عِبَارَةٌ عَنْ قِلَّةِ عِلْمِهِ ، لَا أَنَّهُ لَا يَعْلَمُ شَيْئًا الْبَتَّةَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : لِيَصِيرَ إِلَى حَالَةٍ شَبِيهَةٍ بِحَالِهِ فِي النِّسْيَانِ ، وَأَنْ يَعْلَمَ شَيْئًا ثُمَّ يُسْرِعُ فِي نِسْيَانِهِ فَلَا يَعْلَمُهُ إِنْ سُئِلَ عَنْهُ . وَقِيلَ : لِئَلَّا يَعْقِلَ مِنْ بَعْدِ عَقْلِهِ الْأَوَّلِ شَيْئًا . وَقِيلَ : لِئَلَّا يَعْلَمَ زِيَادَةَ عِلْمٍ عَلَى عِلْمِهِ ; انْتَهَى . وَانْتَصَبَ ( شَيْئًا ) إِمَّا بِالْمَصْدَرِ عَلَى مَذْهَبِ
الْبَصْرِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِهِ مَا يَلِي لِلْقُرْبِ ، أَوْ بِـ ( يَعْلَمَ ) عَلَى مَذْهَبِ الْكُوفِيِّينَ فِي اخْتِيَارِ أَعْمَالِ مَا سَبَقَ لِلسَّبْقِ .
وَلَمَّا ذَكَرَ مَا يَعْرِضُ فِي الْهَرَمِ مِنْ ضَعْفِ الْقُوَى وَالْقُدْرَةِ وَانْتِفَاءِ الْعِلْمِ ، ذَكَرَ عِلْمَهُ وَقُدْرَتَهُ اللَّذَيْنِ لَا يَتَبَدَّلَانِ وَلَا يَتَغَيَّرَانِ وَلَا يَدْخُلُهُمَا الْحَوَادِثُ ، وَوَلِيَتْ صِفَةُ الْعِلْمِ مَا جَاوَرَهَا مِنِ انْتِفَاءِ الْعِلْمِ ، وَتَقَدَّمَ أَيْضًا ذِكْرُ مُنَاسَبَةٍ لِلْخَتْمِ بِهَذَيْنِ الْوَصْفَيْنِ . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى خَلْقَنَا ، ثُمَّ إِمَاتَتَنَا وَتَفَاوُتَنَا فِي السِّنِّ ، ذَكَرَ
nindex.php?page=treesubj&link=28791تَفَاوُتَنَا فِي الرِّزْقِ ، وَأَنَّ رِزْقَنَا أَفْضَلُ مِنْ رِزْقِ الْمَمَالِيكِ وَهُمْ بَشَرٌ مِثْلُنَا ، وَرُبَّمَا كَانَ الْمَمْلُوكُ خَيْرًا مِنَ الْمَوْلَى فِي الْعَقْلِ وَالدِّينِ وَالتَّصَرُّفِ ، وَأَنَّ الْفَاضِلَ فِي الرِّزْقِ لَا يُسَاهِمُ مَمْلُوكَهُ فِيمَا رُزِقَ فَيُسَاوِيهِ ، وَكَانَ يَنْبَغِي أَنْ يَرُدَّ فَضْلَ مَا رُزِقَ عَلَيْهِ وَيُسَاوِيهِ فِي الْمَطْعَمِ وَالْمَلْبَسِ ، كَمَا يُحْكَى عَنْ
أَبِي ذَرٍّ أَنَّهُ رِيءَ عَبْدُهُ وَإِزَارُهُ وَرِدَاؤُهُ مِثْلُ رِدَائِهِ مِنْ غَيْرِ تَفَاوُتٍ ، عَمَلًا بِقَوْلِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - : "
nindex.php?page=hadith&LINKID=10374614إِنَّمَا هُمْ إِخْوَانُكُمْ فَاكْسُوهُمْ مِمَّا تَلْبَسُونَ وَأَطْعِمُوهُمْ مِمَّا تَطْعَمُونَ " وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ وَقَتَادَةَ : أَنَّ الْإِخْبَارَ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=71فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلَى سَبِيلِ الْمَثَلِ ، أَيْ : أَنَّ الْمُفَضَّلَيْنِ فِي الرِّزْقِ لَا يَصِحُّ مِنْهُمْ أَنْ يُسَاهِمُوا مَمَالِيكَهُمْ فِيمَا أُعْطُوا حَتَّى تَسْتَوِيَ أَحْوَالُهُمْ ، فَإِذَا كَانَ هَذَا فِي الْبَشَرِ فَكَيْفَ تَنْسُبُونَ أَنْتُمْ أَيُّهَا الْكَفَرَةُ إِلَى اللَّهِ تَعَالَى أَنَّهُ يُشْرِكُ فِي أُلُوهِيَّتِهِ الْأَوْثَانَ وَالْأَصْنَامَ ، وَمَنْ عُبِدَ مِنَ الْمَلَائِكَةِ وَغَيْرِهِمْ وَالْجَمِيعُ عَبِيدُهُ وَخَلْقُهُ ؟ وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : أَنَّ الْآيَةَ مُشِيرَةٌ إِلَى
عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ وَعَلَى نَبِيِّنَا أَفْضَلُ الصَّلَاةِ وَالسَّلَامِ . وَقَالَ الْمُفَسِّرُونَ : هَذِهِ الْآيَةُ كَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=30&ayano=28ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ )
[ ص: 515 ] الْآيَةَ . وَقِيلَ : الْمَعْنَى أَنَّ الْمَوَالِيَ وَالْمَمَالِيكَ أَنَا رَازِقُهُمْ جَمِيعًا ، فَهُمْ فِي رِزْقِي سَوَاءٌ ، فَلَا تَحْسَبَنَّ الْمَوَالِيَ أَنَّهُمْ يَرُدُّونَ عَلَى مَمَالِيكِهِمْ مِنْ عِنْدِهِمْ شَيْئًا مِنَ الرِّزْقِ ، فَإِنَّمَا ذَلِكَ أُجْرِيهِ إِلَيْهِمْ عَلَى أَيْدِيهِمْ . وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ يَكُونُ فَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ جُمْلَةَ إِخْبَارٍ عَنْ تَسَاوِي الْجَمِيعِ فِي أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى هُوَ رَازِقُهُمْ ، وَعَلَى الْقَوْلَيْنِ الْآخَرَيْنِ تَكُونُ الْجُمْلَةُ فِي مَوْضِعِ جَوَابِ النَّفْيِ كَأَنَّهُ قِيلَ : فَيَسْتَوُوا . وَقِيلَ : هِيَ جُمْلَةٌ اسْتِفْهَامِيَّةٌ حُذِفَ مِنْهَا الْهَمْزَةُ ; التَّقْدِيرُ : أَفَهُمْ فِيهِ سَوَاءٌ ؟ أَيْ : لَيْسُوا مُسْتَوِينَ فِي الرِّزْقِ ، بَلِ التَّفْضِيلُ وَاقِعٌ لَا مَحَالَةَ . ثُمَّ اسْتَفْهَمَ عَنْ جُحُودِهِمْ نِعْمَهُ اسْتِفْهَامَ إِنْكَارٍ ، وَأَتَى بِالنِّعْمَةِ الشَّامِلَةِ لِلرِّزْقِ وَغَيْرِهِ مِنَ النِّعَمِ الَّتِي لَا تُحْصَى ، أَيْ : إِنَّ مَنْ تَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ بِالنَّشْأَةِ أَوَّلًا ثُمَّ مِمَّا فِيهِ قِوَامُ حَيَاتِكُمْ جَدِيرٌ بِأَنْ تُشْكَرَ نِعَمُهُ وَلَا تُكْفَرَ .
وَقَرَأَ
أَبُو بَكْرٍ عَنْ
عَاصِمٍ ،
وَأَبُو عَبْدِ الرَّحْمَنِ ،
nindex.php?page=showalam&ids=13723وَالْأَعْرَجُ بِخِلَافِ عَنْهُ : تَجْحَدُونَ ، بِالتَّاءِ ، عَلَى الْخِطَابِ لِقَوْلِهِ : فَضَّلَ ، تَبْكِيتًا لَهُمْ فِي جَحْدِ نِعْمَةِ اللَّهِ . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى امْتِنَانَهُ بِالْإِيجَادِ ثُمَّ بِالرِّزْقِ الْمُفَضَّلِ فِيهِ ، ذَكَرَ امْتِنَانَهُ بِمَا يَقُومُ بِمَصَالِحِ الْإِنْسَانِ مِمَّا يَأْنَسُ بِهِ وَيَسْتَنْصِرُ بِهِ وَيَخْدِمُهُ ، وَاحْتَمَلَ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72مِنْ أَنْفُسِكُمْ ) أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ مِنْ جِنْسِكُمْ وَنَوْعِكُمْ ، وَاحْتَمَلَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِاعْتِبَارِ خَلْقِ حَوَّاءَ مِنْ ضِلَعٍ مِنْ أَضْلَاعِ آدَمَ ، فَنُسِبَ ذَلِكَ إِلَى بَنِي آدَمَ ، وَكِلَا الِاحْتِمَالَيْنِ مُجَازٌ . وَالظَّاهِرُ أَنَّ عَطْفَ حَفَدَةً عَلَى بَنِينَ يُفِيدُ كَوْنَ الْجَمِيعِ مِنَ الْأَزْوَاجِ ، وَأَنَّهُمْ غَيْرُ الْبَنِينَ . فَقَالَ
الْحَسَنُ : هُمْ بَنُو ابْنِكَ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ وَالْأَزْهَرِيُّ : الْحَفَدَةُ أَوْلَادُ الْأَوْلَادِ ، وَاخْتَارَهُ
ابْنُ الْعَرَبِيِّ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ أَيْضًا : الْبَنُونَ : صِغَارُ الْأَوْلَادِ ، وَالْحَفَدَةُ : كِبَارُهُمْ . وَقَالَ
مُقَاتِلٌ : بِعَكْسِهِ ، وَقِيلَ : الْبَنَاتُ لِأَنَّهُنَّ يَخْدِمْنَ فِي الْبُيُوتِ أَتَمَّ خِدْمَةٍ . فَفِي هَذَا الْقَوْلِ خَصَّ الْبَنِينَ بِالذُّكْرَانِ لِأَنَّهُ جَمْعٌ مُذَكَّرٌ كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=46الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا ) وَإِنَّمَا الزِّينَةُ فِي الذُّكُورَةِ . وَعَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ : هُمْ أَوْلَادُ الزَّوْجَةِ - مِنْ غَيْرِ الزَّوْجِ - الَّتِي هِيَ فِي عِصْمَتِهِ . وَقِيلَ : ( وَحَفَدَةً ) مَنْصُوبٌ بِجَعَلَ مُضْمَرَةً ، وَلَيْسُوا دَاخِلِينَ فِي كَوْنِهِمْ مِنَ الْأَزْوَاجِ . فَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=10ابْنُ مَسْعُودٍ ،
وَعَلْقَمَةُ ،
وَأَبُو الضُّحَى ،
وَإِبْرَاهِيمُ بْنُ جُبَيْرٍ : الْأَصْهَارُ : وَهُمْ قَرَابَةُ الزَّوْجَةِ كَأَبِيهَا وَأَخِيهَا . وَقَالَ
مُجَاهِدٌ : هُمُ الْأَنْصَارُ وَالْأَعْوَانُ وَالْخَدَمُ . وَقَالَتْ فِرْقَةٌ : الْحَفَدَةُ هُمُ الْبَنُونَ ، أَيْ : جَامِعُونَ بَيْنَ الْبُنُوَّةِ وَالْخِدْمَةِ ، فَهُوَ مِنْ عَطْفِ الصِّفَاتِ لِمَوْصُوفٍ وَاحِدٍ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ مَا مَعْنَاهُ : وَهَذِهِ الْأَقْوَالُ مَبْنِيَّةٌ عَلَى أَنَّ كُلَّ أَحَدٍ جَعَلَ لَهُ مِنْ زَوْجِهِ بَنِينَ وَحَفَدَةً ، وَهَذَا إِنَّمَا هُوَ فِي الْغَالِبِ وَمُعْظَمِ النَّاسِ . وَيُحْتَمَلُ عِنْدِي أَنَّ قَوْلَهُ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ ، إِنَّمَا هُوَ عَلَى الْعُمُومِ وَالِاشْتِرَاكِ ، أَيْ : مِنْ أَزْوَاجِ الْبَشَرِ جَعَلَ اللَّهُ مِنْهُمُ الْبَنِينَ ، وَمِنْهُمْ جَعَلَ الْخِدْمَةَ ، وَهَكَذَا رَتَّبَتِ الْآيَةُ النِّعْمَةَ الَّتِي تَشْمَلُ الْعَالَمَ . وَيَسْتَقِيمُ لَفْظُ الْحَفَدَةِ عَلَى مَجْرَاهَا فِي اللُّغَةِ ، إِذِ الْبَشَرُ بِجُمْلَتِهِمْ لَا يَسْتَغْنِي أَحَدٌ مِنْهُمْ عَنْ حَفَدَةٍ ; انْتَهَى . وَفِي قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا ) دَلَالَةٌ عَلَى كَذِبِ الْعَرَبِ فِي اعْتِقَادِهَا أَنَّ الْآدَمِيَّ قَدْ يَتَزَوَّجُ مِنَ الْجِنِّ وَيُبَاضِعُهَا ، حَتَّى حَكَوْا ذَلِكَ عَنْ
عَمْرِو بْنِ هِنْدٍ أَنَّةَ تَزَوَّجَ سِعْلَاةً .
وَ ( مِنْ ) فِي ( الطَّيِّبَاتِ ) لِلتَّبْعِيضِ ، لِأَنَّ كُلَّ الطَّيِّبَاتِ فِي الْجَنَّةِ ، وَالَّذِي فِي الدُّنْيَا أُنْمُوذَجٌ مِنْهَا . وَالظَّاهِرُ أَنَّ الطَّيِّبَاتِ هُنَا : الْمُسْتَلَذَّاتُ لَا الْحَلَالُ ، لِأَنَّ الْمُخَاطَبِينَ كُفَّارٌ لَا يَتَلَبَّسُونَ بِشَرْعٍ . وَلَمَّا ذَكَرَ تَعَالَى مَا امْتَنَّ بِهِ مِنْ جَعْلِ الْأَزْوَاجِ وَمَا نَنْتَفِعُ بِهِ مِنْ جِهَتَيْنِ ، ذَكَرَ مِنَنَهُ بِالرِّزْقِ . وَالطَّيِّبَاتِ : عَامٌّ فِي النَّبَاتِ وَالثِّمَارِ وَالْحُبُوبِ وَالْأَشْرِبَةِ ، وَمِنَ الْحَيَوَانِ . وَقِيلَ : الطَّيِّبَاتُ : الْغَنَائِمُ . وَقِيلَ : مَا أَتَى مِنْ غَيْرِ نَصَبٍ . وَقَالَ
مُقَاتِلٌ : الْبَاطِلُ الشَّيْطَانُ ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ
مُحَمَّدٌ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وقالَ
الْكَلْبِيُّ : طَاعَةُ الشَّيْطَانِ فِي الْحَلَالِ وَالْحَرَامِ . وَقِيلَ : مَا يُرْجَى مِنْ شَفَاعَةِ الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَهُوَ مَا يَعْتَقِدُونَ مِنْ مَنْفَعَةِ الْأَصْنَامِ وَبَرَكَتِهَا وَشَفَاعَتِهَا ، وَمَا هُوَ إِلَّا وَهْمٌ بَاطِلٌ لَمْ يَتَوَصَّلُوا إِلَيْهِ بِدَلِيلٍ وَلَا أَمَارَةٍ ، فَلَيْسَ لَهُمْ إِيمَانٌ إِلَّا بِهِ . كَأَنَّهُ شَيْءٌ مَعْلُومٌ مُسْتَيْقَنٌ . وَنِعْمَةُ اللَّهِ الْمُشَاهَدَةُ الْمُعَايَنَةُ الَّتِي لَا شُبْهَةَ فِيهَا لِذِي
[ ص: 516 ] عَقْلٍ ، وَتَمْيِيزٍ هُمْ كَافِرُونَ بِهَا مُنْكِرُونَ لَهَا كَمَا يُنْكَرُ الْمُحَالَ الَّذِي لَا تَتَصَوَّرُهُ الْعُقُولُ . وَقِيلَ : الْبَاطِلُ مَا يُسَوِّلُ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مِنْ تَحْرِيمِ الْبَحِيرَةِ وَالسَّائِبَةِ وَغَيْرِهِمَا ، وَنِعْمَةُ اللَّهِ مَا أَحَلَّ لَهُمْ ; انْتَهَى . وَقَرَأَ الْجُمْهُورُ : يُؤْمِنُونَ ، بِالْيَاءِ ، وَهُوَ تَوْقِيفٌ لِلرَّسُولِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - عَلَى إِيمَانِهِمْ بِالْبَاطِلِ ، وَيَنْدَرِجُ فِي التَّوْقِيفِ الْمَعْطُوفِ بَعْدَهَا . وَقَرَأَ
السُّلَمِيُّ ، بِالتَّاءِ ، وَرُوِيَتْ عَنْ
عَاصِمٍ ، وَهُوَ خِطَابُ إِنْكَارٍ وَتَقْرِيعٍ لَهُمْ ، وَالْجُمْلَةُ بَعْدَ ذَلِكَ مُجَرَّدُ إِخْبَارٍ عَنْهُمْ . فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ لَا يَنْدَرِجُ فِي التَّقْرِيعِ . وَيَعْبُدُونَ : اسْتِفْهَامُ إِخْبَارٍ عَنْ حَالِهِمْ فِي عِبَادَةِ الْأَصْنَامِ ، وَفِي ذَلِكَ تَبْيِينٌ لِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=72أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ ، نَعَى عَلَيْهِمْ فَسَادَ نَظَرِهِمْ فِي عِبَادَةِ مَا لَا يُمْكِنُ أَنْ يَقَعَ مِنْهُ مَا يَسْعَى عَابِدُهُ فِي تَحْصِيلِهِ مِنْهُ وَهُوَ الرِّزْقُ ، وَلَا هُوَ فِي اسْتِطَاعَتِهِ . فَنَفَى أَوَّلًا أَنْ يَكُونَ شَيْءٌ مِنَ الرِّزْقِ فِي مِلْكِهِمْ ، وَنَفَى ثَانِيًا قُدْرَتَهَا عَلَى أَنْ تُحَاوِلَ ذَلِكَ ، وَمَا لَا تَمْلِكُ ، عَامٌّ فِي جَمِيعِ مَنْ عُبِدَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ مَلَكٍ أَوْ آدَمِيٍّ أَوْ غَيْرِ ذَلِكَ . وَأَجَازُوا فِي شَيْئًا انْتِصَابَهُ ، بِقَوْلِهِ : رِزْقًا ، أَجَازَ ذَلِكَ
أَبُو عَلِيٍّ وَغَيْرُهُ . وَرَدَّ عَلَيْهِ
ابْنُ الطَّرَاوَةِ بِأَنَّ الرِّزْقَ هُوَ الْمَرْزُوقُ كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ ، وَالْمَصْدَرُ هُوَ الرَّزْقُ ، بِفَتْحِ الرَّاءِ ، كَالرَّعْيِ وَالطَّحْنِ . وَرُدَّ عَلَى
ابْنِ الطَّرَاوَةِ بِأَنَّ الرِّزْقَ بِالْكَسْرِ يَكُونُ أَيْضًا مَصْدَرًا ، وَسُمِعَ ذَلِكَ فِيهِ ، فَصَحَّ أَنْ يَعْمَلَ فِي الْمَفْعُولِ بِهِ وَالْمَعْنَى : مَا لَا يَمْلِكُ أَنْ يَرْزُقَ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا . وَمِنْ السَّمَاوَاتِ مُتَعَلِّقٌ إِذْ ذَاكَ بِالْمَصْدَرِ . قَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ بَعْدَ أَنْ ذَكَرَ إِعْمَالَ الْمَصْدَرِ مُنَوَّنًا : وَالْمَصْدَرُ يَعْمَلُ مُضَافًا بِاتِّفَاقٍ ، لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ ، وَلَا يَعْمَلُ إِذَا دَخَلَهُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ لِأَنَّهُ قَدْ تَوَغَّلَ فِي حَالِ الْأَسْمَاءِ وَبَعُدَ عَنِ الْفِعْلِيَّةِ . وَتَقْدِيرُ الِانْفِصَالِ فِي الْإِضَافَةِ حَسُنَ عَمَلُهُ ، وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فِي قَوْلِ الشَّاعِرِ :
ضَعِيفُ النِّكَايَةِ أَعْدَاءَهُ
الْبَيْتَ ; وَقَوْلِهِ :
لَحِقْتُ فَلَمْ أَنْكُلْ عَنِ الضَّرْبِ مَسْمَعًا
; انْتَهَى . أَمَّا قَوْلُهُ : يَعْمَلُ ، مُضَافَاً بِالِاتِّفَاقِ إِنْ عَنَى مِنَ
الْبَصْرِيِّينَ فَصَحِيحٌ ، وَإِنْ عَنَى مِنَ النَّحْوِيِّينَ فَغَيْرُ صَحِيحٍ ، لِأَنَّ بَعْضَ النَّحْوِيِّينَ ذَهَبَ إِلَى أَنَّهُ وَإِنْ أُضِيفَ لَا يَعْمَلُ ، وَإِنْ نَصَبَ مَا بَعْدَهُ أَوْ رَفَعَهُ إِنَّمَا هُوَ عَلَى إِضْمَارِ الْفِعْلِ الْمَدْلُولِ عَلَيْهِ بِالْمَصْدَرِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : لِأَنَّهُ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَيْسَ كَذَلِكَ ، لِأَنَّهُ لَوْ كَانَ فِي تَقْدِيرِ الِانْفِصَالِ لَكَانَتِ الْإِضَافَةُ غَيْرَ مَحْضَةٍ ، وَقَدْ قَالَ بِذَلِكَ
nindex.php?page=showalam&ids=12986أَبُو الْقَاسِمِ بْنُ بُرْهَانٍ ،
وَأَبُو الْحُسَيْنِ بْنُ الطَّرَاوَةِ ، وَمَذْهَبُهُمَا فَاسِدٌ لِنَعْتِ هَذَا الْمَصْدَرِ الْمُضَافِ ، وَتَوْكِيدِهِ بِالْمَعْرِفَةِ . وَأَمَّا قَوْلُهُ : ( وَلَا يَعْمَلُ ) إِلَى آخِرِهِ ، فَقَدْ نَاقَضَ فِي قَوْلِهِ أَخِيرًا : وَقَدْ جَاءَ عَامِلًا مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ . وَأَمَّا كَوْنُهُ لَا يَعْمَلُ مَعَ الْأَلِفِ وَاللَّامِ فَهُوَ مَذْهَبٌ
[ ص: 517 ] مَنْقُولٌ عَنِ الْكُوفِيِّينَ ، وَمَذْهَبُ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ جَوَازُ إِعْمَالِهِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=16076سِيبَوَيْهِ : وَتَقُولُ عَجِبْتُ مِنَ الضَّرْبِ زَيْدًا ، كَمَا تَقُولُ : عَجِبْتُ مِنَ الضَّارِبِ زَيْدًا ، تَكُونُ الْأَلِفُ وَاللَّامُ بِمَنْزِلَةِ التَّنْوِينِ . وَإِذَا كَانَ رِزْقًا يُرَادُ بِهِ الْمَرْزُوقُ ، فَقَالُوا : انْتَصَبَ شَيْئًا عَلَى أَنَّهُ بَدَلٌ مِنْ ( رِزْقًا ) ، كَأَنَّهُ قِيلَ : مَا لَا يَمْلِكُ لَهُمْ مِنَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ شَيْئًا ، وَهُوَ الْبَدَلُ جَارِيًا عَلَى جِهَةِ الْبَيَانِ لِأَنَّهُ أَعَمُّ مِنْ رِزْقٍ ، وَلَا عَلَى جِهَةِ التَّوْكِيدِ لِأَنَّهُ لِعُمُومِهِ لَيْسَ مُرَادِفًا ، فَيَنْبَغِي أَنْ لَا يَجُوزَ ، إِذْ لَا يَخْلُوَ الْبَدَلُ مِنْ أَحَدِ نَوْعَيْهِ هَذَيْنِ . إِمَّا الْبَيَانُ ، وَإِمَّا التَّوْكِيدُ . وَأَجَازُوا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ مَصْدَرًا ، أَيْ : شَيْئًا مِنَ الْمِلْكِ ، كَقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=57وَلَا تَضُرُّونَهُ شَيْئًا ، أَيْ : شَيْئًا مِنَ الضَّرَرِ . وَعَلَى هَذَيْنِ الْإِعْرَابَيْنِ تَتَعَلَّقُ (
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73مِنَ السَّمَاوَاتِ ) بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=73لَا يَمْلِكُ ، أَوْ يَكُونُ فِي مَوْضِعِ الصِّفَةِ ( لِرِزْقٍ ) فَيَتَعَلَّقُ بِمَحْذُوفٍ ( وَمِنَ السَّمَاوَاتِ رِزْقًا ) ، يَعْنِي بِهِ : الْمَطَرَ ، وَأُطْلِقَ عَلَيْهِ رِزْقٌ لِأَنَّهُ عَنْهُ يَنْشَأُ الرِّزْقُ . وَالْأَرْضُ ، يَعْنِي : الشَّجَرَ ، وَالثَّمَرَ ، وَالزَّرْعَ . وَالظَّاهِرُ عَوْدُ الضَّمِيرِ فِي ( يَسْتَطِيعُونَ ) عَلَى مَا عَلَى مَعْنَاهَا ، لِأَنَّهُ يُرَادُ بِهَا آلِهَتُهُمْ ، بَعْدَمَا عَادَ عَلَى اللَّفْظِ فِي قَوْلِهِ : مَا لَا يَمْلِكُ ، فَأَفْرَدَ وَجَازَ أَنْ يَكُونَ دَاخِلًا فِي صِلَةِ مَا ، وَجَازَ أَنْ لَا يَكُونَ دَاخِلًا ، بَلْ إِخْبَارٌ عَنْهُمْ بِانْتِفَاء الِاسْتِطَاعَةِ أَصْلًا ، لِأَنَّهُمْ أَمْوَاتٌ . وَأَمَّا قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيِّ : إِنَّهُ يُرَادُ بِالْجَمْعِ بَيْنَ نَفْيِ الْمِلْكِ وَالِاسْتِطَاعَةِ التَّوْكِيدِ فَلَيْسَ كَمَا ذُكِرَ ، لِأَنَّ نَفْيَ الْمِلْكَ مُغَايِرٌ لِنَفْيِ الِاسْتِطَاعَةِ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : وَلَا يَسْتَطِيعُونَ أَنْ يَرْزُقُوا أَنْفُسَهُمْ . وَجَوَّزَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ وَابْنُ عَطِيَّةَ : أَنْ يَعُودَ الضَّمِيرُ عَلَى مَا عَادَ عَلَيْهِ فِي قَوْلِهِ : وَيَعْبُدُونَ ، وَهُمُ الْكُفَّارُ ; أَيْ : وَلَا يَسْتَطِيعُ هَؤُلَاءِ مَعَ أَنَّهُمْ أَحْيَاءٌ مُتَصَرِّفُونَ أُولُو أَلْبَابٍ مِنْ ذَلِكَ شَيْئًا ، فَكَيْفَ بِالْجَمَادِ الَّذِي لَا حِسَّ بِهِ ; قَالَهُ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ . وَقَالَ
ابْنُ عَطِيَّةَ : لَا يَسْتَطِيعُونَ ذَلِكَ بِبُرْهَانٍ يُظْهِرُونَهُ وَحُجَّةٍ يُثْبِتُونَهَا ; انْتَهَى . وَنَهَى تَعَالَى عَنْ ضَرْبِ الْأَمْثَالِ لِلَّهِ ، وَضَرْبِ الْأَمْثَالِ تَمْثِيلُهَا ، وَالْمَعْنَى هُنَا : تَمْثِيلٌ لِلْإِشْرَاكِ بِاللَّهِ وَالتَّشْبِيهِ بِهِ ، لِأَنَّ مَنْ يَضْرِبُ الْأَمْثَالَ مُشَبِّهٌ حَالًا بِحَالٍ . وَقِصَّةً بِقِصَّةٍ مِنْ قَوْلِهِمْ : هَذَا ضَرْبٌ لِهَذَا ; أَيْ : مَثَلٌ ، وَالضَّرْبُ : النَّوْعُ . تَقُولُ : الْحَيَوَانُ عَلَى ضُرُوبٍ ; أَيْ : أَنْوَاعٍ ، وَهَذَا مِنْ ضَرْبٍ وَاحِدٍ ; أَيْ : مِنْ نَوْعٍ وَاحِدٍ . وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : مَعْنَاهُ لَا تُشَبِّهُوهُ بِخَلْقِهِ ; انْتَهَى . وَقَالَ :
nindex.php?page=tafseer&surano=16&ayano=74إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ : أَثْبَتَ الْعِلْمَ لِنَفْسِهِ ، وَالْمَعْنَى : أَنَّهُ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ مِنْ عِبَادَةِ غَيْرِهِ وَالْإِشْرَاكِ بِهِ ، وَعَبَّرَ عَنِ الْجَزَاءِ بِالْعِلْمِ : وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ كُنْهَ مَا أَقْدَمْتُمْ عَلَيْهِ ، وَلَا وَبَالَ عَاقِبَتِهِ ، فَعَدَمُ عِلْمِكُمْ بِذَلِكَ جَرَّكُمْ وَجَرَّأَكُمْ وَهُوَ كَالتَّعْلِيلِ لِلنَّهْيِ عَنِ الْإِشْرَاكِ . قَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=14423الزَّمَخْشَرِيُّ : وَيَجُوزُ أَنْ يُرَادَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ كَيْفَ نَضْرِبُ الْأَمْثَالَ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ; انْتَهَى . وَقَالَهُ
ابْنُ السَّائِبِ قَالَ : يَعْلَمُ بِضَرْبِ الْمَثَلِ ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَقَالَ
مُقَاتِلٌ : يَعْلَمُ أَنَّهُ لَيْسَ لَهُ شَرِيكٌ ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ ذَلِكَ . وَقِيلَ : يَعْلَمُ خَطَأَ مَا تَضْرِبُونَ مِنَ الْأَمْثَالِ ، وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ صَوَابَ ذَلِكَ مِنْ خَطَئِهِ .