[ ص: 463 ] بسم الله الرحمن الرحيم
سورة القارعة
nindex.php?page=treesubj&link=29072_29468_30525قوله تعالى : nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=8وأما من خفت موازينه فأمه هاوية .
هذه الآية الكريمة تدل على أن الهاوية وصف لا علم للنار ، إذ تنوينها ينافي كونها اسما من أسماء النار ، لأنها على تقدير كونها من أسماء النار ، يلزم فيها المنع من الصرف للعلمية والتأنيث . وقوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وما أدراك ما هيه نار حامية [ 101 \ 10 - 11 ] ، يدل على أن الهاوية من أسماء النار .
اعلم أولا : أن في معنى قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=9فأمه هاوية ثلاثة أوجه للعلماء : اثنان منها لا إشكال في الآية عليهما ، والثالث : هو الذي فيه الإشكال المذكور .
أما اللذان لا إشكال في الآية عليهما ، فالأول منهما أن المعنى :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=9فأمه هاوية أي أم رأسه هاوية في قعر جهنم ، لأنه يطرح فيها منكوسا رأسه أسفل ورجلاه أعلى ، وروي هذا القول عن قتادة وأبي صالح وعكرمة والكلبي وغيرهم ، وعلى هذا القول فالضمير في قوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وما أدراك ما هيه ، عائد إلى محذوف ، دل عليه المقام ، أي أم رأسه هاوية في نار ،
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وما أدراك ما هيه nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=11نار حامية .
والثاني : أنه من قول العرب إذا دعوا على الرجل بالهلكة ، قالوا : هوت أمه ، لأنه إذا هوى ، أي سقط وهلك ، فقد هوت أمه ثكلا وحزنا ، ومن هذا المعنى قول
كعب بن سعد الغنوي :
هوت أمه ما يبعث الصبح غاديا وماذا يرد الليل حين يؤوب
وهذا القول رواية أخرى عن
قتادة ، وعلى هذا القول فالضمير في قوله : " هيه " للداهية التي دل عليها الكلام ، وذكر
الألوسي في تفسيره أن صاحب الكشاف قال : إن هذا القول أحسن ، وأن
الطيبي قال : إنه أظهر ، وقال هو : وللبحث فيه مجال .
[ ص: 464 ] الثالث : الذي فيه الإشكال ، أن المعنى
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=9فأمه هاوية ، أي مأواه الذي يحيط به ، وبضمه هاوية ، وهي النار لأن الأم تؤوي ولدها وتضمه ، والنار تضم هذا العاصي ، وتكون مأواه .
والجواب على هذا القول ، هو ما أشار له
الألوسي في تفسيره من أنه نكر الهاوية في محل التعريف لأجل الإشعار بخروجهم عن المعهود للتفخيم والتهويل ، ثم بعد إبهامها لهذه النكتة ، قررها بوصفها الهائل بقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وما أدراك ما هيه nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=11نار حامية .
قال مقيده عفا الله عنه : هذا الجواب الذي ذكره
الألوسي يدخل في حد نوع من أنواع البديع المعنوي يسميه علماء البلاغة التجريد ، فحد التجريد عندهم هو أن ينتزع من أمر ذي صفة آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، وأقسامه معروفة عند البيانيين ، فمنه ما يكون التجريد فيه بحرف ، نحو قولهم : لي من فلان صديق حميم ، أي بلغ من الصداقة حدا صح معه أن يستخلص منه آخر مثله فيها مبالغة في كمالها فيه ، وقولهم : لئن سألته لتسألن به البحر ، بالغ في اتصافه بالسماحة ، حتى انتزع منه بحرا في السماحة ، ومن التجريد بواسطة الحرف قوله تعالى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=28لهم فيها دار الخلد [ 41 \ 28 ] ، وهو أشبه شيء بالآية التي نحن بصددها ، لأن النار هي دار الخلد بعينها ، لكنه انتزع منها دارا أخرى ، وجعلها معدة في جهنم للكفار تهويلا لأمرها ، ومبالغة في اتصافها بالشدة ، ومن التجريد ما يكون من غير توسط الحرف ، نحو قول
قتادة بن سلمة الحنفي :
ولئن بقيت لأرحلن بغزوة تحوي الغنائم أو يموت كريم
يعني نفسه انتزع من نفسه كريما مبالغة في كرمه ، فإذا عرفت هذا فالنار سميت الهاوية لغاية عمقها ، وبعد مهواها ، فقد روي أن داخلها يهوي فيها سبعين خريفا ، وخصها البعض بالباب الأسفل من النار ، فانتزع منها هاوية أخرى مثلها في شدة العمق ، وبعد المهوى مبالغة في عمقها ، وبعد مهواها ، والعلم عند الله تعالى .
[ ص: 463 ] بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
سُورَةُ الْقَارِعَةِ
nindex.php?page=treesubj&link=29072_29468_30525قَوْلُهُ تَعَالَى : nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=8وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ .
هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَاوِيَةَ وَصْفٌ لَا عَلَمٌ لِلنَّارِ ، إِذْ تَنْوِينُهَا يُنَافِي كَوْنَهَا اسْمًا مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ ، لِأَنَّهَا عَلَى تَقْدِيرِ كَوْنِهَا مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ ، يَلْزَمُ فِيهَا الْمَنْعُ مِنَ الصَّرْفِ لِلْعَلَمِيَّةِ وَالتَّأْنِيثِ . وَقَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ نَارٌ حَامِيَةٌ [ 101 \ 10 - 11 ] ، يَدُلُّ عَلَى أَنَّ الْهَاوِيَةَ مِنْ أَسْمَاءِ النَّارِ .
اعْلَمْ أَوَّلًا : أَنَّ فِي مَعْنَى قَوْلِهِ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=9فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ لِلْعُلَمَاءِ : اثْنَانِ مِنْهَا لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِمَا ، وَالثَّالِثُ : هُوَ الَّذِي فِيهِ الْإِشْكَالُ الْمَذْكُورُ .
أَمَّا اللَّذَانِ لَا إِشْكَالَ فِي الْآيَةِ عَلَيْهِمَا ، فَالْأَوَّلُ مِنْهُمَا أَنَّ الْمَعْنَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=9فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ أَيْ أُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ فِي قَعْرِ جَهَنَّمَ ، لِأَنَّهُ يُطْرَحُ فِيهَا مَنْكُوسًا رَأْسُهُ أَسْفَلَ وَرِجْلَاهُ أَعْلَى ، وَرُوِيَ هَذَا الْقَوْلُ عَنْ قَتَادَةَ وَأَبِي صَالِحٍ وَعِكْرِمَةَ وَالْكَلْبِيِّ وَغَيْرِهِمْ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ ، عَائِدٌ إِلَى مَحْذُوفٍ ، دَلَّ عَلَيْهِ الْمَقَامُ ، أَيْ أُمُّ رَأْسِهِ هَاوِيَةٌ فِي نَارٍ ،
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=11نَارٌ حَامِيَةٌ .
وَالثَّانِي : أَنَّهُ مِنْ قَوْلِ الْعَرَبِ إِذَا دَعَوْا عَلَى الرَّجُلِ بِالْهَلَكَةِ ، قَالُوا : هَوَتْ أُمُّهُ ، لِأَنَّهُ إِذَا هَوَى ، أَيْ سَقَطَ وَهَلَكَ ، فَقَدْ هَوَتْ أُمُّهُ ثُكْلًا وَحُزْنًا ، وَمِنْ هَذَا الْمَعْنَى قَوْلُ
كَعْبِ بْنِ سَعْدٍ الْغَنَوِيِّ :
هَوَتْ أُمُّهُ مَا يَبْعَثُ الصُّبْحُ غَادِيًا وَمَاذَا يَرُدُّ اللَّيْلُ حِينَ يَؤُوبُ
وَهَذَا الْقَوْلُ رِوَايَةٌ أُخْرَى عَنْ
قَتَادَةَ ، وَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ فَالضَّمِيرُ فِي قَوْلِهِ : " هِيَهْ " لِلدَّاهِيَةِ الَّتِي دَلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ ، وَذَكَرَ
الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ أَنَّ صَاحِبَ الْكَشَّافِ قَالَ : إِنَّ هَذَا الْقَوْلَ أَحْسَنُ ، وَأَنَّ
الطِّيبِيَّ قَالَ : إِنَّهُ أَظْهَرُ ، وَقَالَ هُوَ : وَلِلْبَحْثِ فِيهِ مَجَالٌ .
[ ص: 464 ] الثَّالِثُ : الَّذِي فِيهِ الْإِشْكَالُ ، أَنَّ الْمَعْنَى
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=9فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ ، أَيْ مَأْوَاهُ الَّذِي يُحِيطُ بِهِ ، وَبِضَمِّهِ هَاوِيَةٌ ، وَهِيَ النَّارُ لِأَنَّ الْأُمَّ تُؤْوِي وَلَدَهَا وَتَضُمُّهُ ، وَالنَّارُ تَضُمُّ هَذَا الْعَاصِيَ ، وَتَكُونُ مَأْوَاهُ .
وَالْجَوَابُ عَلَى هَذَا الْقَوْلِ ، هُوَ مَا أَشَارَ لَهُ
الْأَلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِهِ مِنْ أَنَّهُ نَكَّرَ الْهَاوِيَةَ فِي مَحَلِّ التَّعْرِيفِ لِأَجْلِ الْإِشْعَارِ بِخُرُوجِهِمْ عَنِ الْمَعْهُودِ لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّهْوِيلِ ، ثُمَّ بَعْدَ إِبْهَامِهَا لِهَذِهِ النُّكْتَةِ ، قَرَّرَهَا بِوَصْفِهَا الْهَائِلِ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=10وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ nindex.php?page=tafseer&surano=101&ayano=11نَارٌ حَامِيَةٌ .
قَالَ مُقَيِّدُهُ عَفَا اللَّهُ عَنْهُ : هَذَا الْجَوَابُ الَّذِي ذَكَرَهُ
الْأَلُوسِيُّ يَدْخُلُ فِي حَدِّ نَوْعٍ مِنْ أَنْوَاعِ الْبَدِيعِ الْمَعْنَوِيِّ يُسَمِّيهِ عُلَمَاءُ الْبَلَاغَةِ التَّجْرِيدَ ، فَحَدُّ التَّجْرِيدِ عِنْدَهُمْ هُوَ أَنْ يَنْتَزِعَ مِنْ أَمْرٍ ذِي صِفَةٍ آخَرَ مِثْلَهُ فِيهَا مُبَالَغَةً فِي كَمَالِهَا فِيهِ ، وَأَقْسَامُهُ مَعْرُوفَةٌ عِنْدَ الْبَيَانِيِّينَ ، فَمِنْهُ مَا يَكُونُ التَّجْرِيدُ فِيهِ بِحَرْفٍ ، نَحْوَ قَوْلِهِمْ : لِي مِنْ فُلَانٍ صَدِيقٌ حَمِيمٌ ، أَيْ بَلَغَ مِنَ الصَّدَاقَةِ حَدًّا صَحَّ مَعَهُ أَنْ يَسْتَخْلِصَ مِنْهُ آخَرَ مِثْلَهُ فِيهَا مُبَالَغَةً فِي كَمَالِهَا فِيهِ ، وَقَوْلِهِمْ : لَئِنْ سَأَلْتَهُ لَتَسْأَلَنَّ بِهِ الْبَحْرَ ، بَالَغَ فِي اتِّصَافِهِ بِالسَّمَاحَةِ ، حَتَّى انْتَزَعَ مِنْهُ بَحْرًا فِي السَّمَاحَةِ ، وَمِنَ التَّجْرِيدِ بِوَاسِطَةِ الْحَرْفِ قَوْلُهُ تَعَالَى :
nindex.php?page=tafseer&surano=41&ayano=28لَهُمْ فِيهَا دَارُ الْخُلْدِ [ 41 \ 28 ] ، وَهُوَ أَشْبَهُ شَيْءٍ بِالْآيَةِ الَّتِي نَحْنُ بِصَدَدِهَا ، لِأَنَّ النَّارَ هِيَ دَارُ الْخُلْدِ بِعَيْنِهَا ، لَكِنَّهُ انْتَزَعَ مِنْهَا دَارًا أُخْرَى ، وَجَعَلَهَا مُعَدَّةً فِي جَهَنَّمَ لِلْكُفَّارِ تَهْوِيلًا لِأَمْرِهَا ، وَمُبَالَغَةً فِي اتِّصَافِهَا بِالشِّدَّةِ ، وَمِنَ التَّجْرِيدِ مَا يَكُونُ مِنْ غَيْرِ تَوَسُّطِ الْحَرْفِ ، نَحْوَ قَوْلِ
قَتَادَةَ بْنِ سَلَمَةَ الْحَنَفِيِّ :
وَلَئِنْ بَقِيتُ لَأَرْحَلَنَّ بِغَزْوَةٍ تَحْوِي الْغَنَائِمَ أَوْ يَمُوتُ كَرِيمُ
يَعْنِي نَفْسَهُ انْتَزَعَ مِنْ نَفْسِهِ كَرِيمًا مُبَالَغَةً فِي كَرَمِهِ ، فَإِذَا عَرَفْتَ هَذَا فَالنَّارُ سُمِّيَتِ الْهَاوِيَةَ لِغَايَةِ عُمْقِهَا ، وَبُعْدِ مَهْوَاهَا ، فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ دَاخِلَهَا يَهْوِي فِيهَا سَبْعِينَ خَرِيفًا ، وَخَصَّهَا الْبَعْضُ بِالْبَابِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ ، فَانْتَزَعَ مِنْهَا هَاوِيَةً أُخْرَى مِثْلَهَا فِي شِدَّةِ الْعُمْقِ ، وَبُعْدِ الْمَهْوَى مُبَالَغَةً فِي عُمْقِهَا ، وَبُعْدِ مَهْوَاهَا ، وَالْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى .