[ ص: 12 ] أول الجزء الثاني عشر في المصاحف :
( (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ويعلم مستقرها ومستودعها كل في كتاب مبين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام وكان عرشه على الماء ليبلوكم أيكم أحسن عملا nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) )
بين الله - تعالى - في الآية التي قبل هذه إحاطة علمه إثر بيان ما يغفل الناس عن علمه به ، وبين في التي قبلها شمول قدرته لكل شيء ، وبين في الآية الأولى من هاتين الآيتين ما يهم الناس من آثار قدرته ، ومتعلقات علمه ، وكتابة مقادير خلقه ، وهو ما يتعلق بحياتهم وشئونهم ، وفي الآية التي بعدها خلقه للعالم كله ، ومكان عرشه قبل هذا من ملكه ، وبلاء البشر خاصة بذلك كله ; ليظهر أيهم أحسن عملا ، وبعثه إياهم بعد الموت لينالوا جزاء أعمالهم ، وإنكار كفارهم لهذا ، قال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28982_32413وما من دابة في الأرض إلا على الله رزقها ) الدب والدبيب : الانتقال الخفيف البطيء حقيقة كدبيب الطفل والشيخ المسن والعقرب والجراد ، أو بالإضافة كدبيب الجيش ، أو مجازا كدبيب السكر والسم في الجسم ، والدابة : اسم عام يشمل كل نسمة حية تدب على الأرض زحفا أو على قوائم ثنتين فأكثر ، قال - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=45والله خلق كل دابة من ماء فمنهم من يمشي على بطنه ومنهم من يمشي على رجلين ومنهم من يمشي على أربع يخلق الله ما يشاء ) ( 24 : 45 ) أي مما تعلمون ومما لا تعلمون مما يدب على الأرض ، ومما يطير في الهواء ومما يسبح في البحار والأنهار . وغلبة لفظ الدابة على ما يركب من الخيل والبغال والحمير عرفا لا لغة . ورزق الدابة غذاؤها الذي تعيش به . والمعنى : ما من دابة من أنواع الدواب في الأرض إلا على الله رزقها على اختلاف أنواعها وأنواعه ، فمنها الجنة التي لا ترى بالأبصار ،
[ ص: 13 ] وصغار الحشرات والهوام ، وضخام الأجسام ، والوسطى بين الكبير والصغير ، وأغذية كل نوع مختلفة من نباتية وحيوانية ، وقد أعطى كلا منها خلقه المناسب لمعيشته ، ثم هداه إلى تحصيل غذائه بغريزته ، فمنها ما خلق له خراطيم يمص بها غذاءه من النبات أو دم الحيوان ، وأعطاها من القوة ما إن خرطوم البعوضة الدقيق ليخترق جلد الإنسان وما هو أكثف منه من جلود الحيوان ، ومنها ما خلق له مناقير تلتقط الحبوب ، ومنها ما يمضغ النبات بأسنانه مضغا ، وما يبلع الحشرات والطيور والأنعام بلعا ، وما له مخالب يمزق بها اللحوم ، وما له براثن يقتل بها كبار الجسوم ، وتفصيل هذا له كتب خاصة من قديمة وحديثة ، ولله - تعالى - حكم في خلقها وغذائها عجيبة ، فإن خفي عليك أمر تغذي الحيات والسنانير ونحوها من خشاش الأرض وصغارها ، وتغذي الأفاعي الكبرى وسباع الوحش والطير من كبارها ، فأول ما ينبغي لك أن تفكر فيه من حكمتها ، أنه لولا ذلك لضاقت الأرض ذرعا بكثرة أحيائها ، أو لأنتنت من كثرة أمواتها ، وإذا أردت زيادة العلم بها وبحكمتها فعليك بالمصنفات المدونة فيها ، وقد فتحت هذه الآية وأمثالها لك أبوابها ، وأرشدتك إلى تطلابها .
ولا يشكلن عليك التعبير عن كفالة الله لرزقها بقوله : على ، وما قيل من دلالتها على الوجوب مع قول المتكلمين أنه لا يجب عليه - تعالى - شيء ، فإن الممنوع أن يجب عليه - تعالى - شيء بإيجاب موجب ذي حكم أو سلطان يطالبه به ويحاسبه عليه ، فهذا محال عقلا وشرعا ، وأما ما أوجبه الله - تعالى - من النظام وسنن التدبير العام للمخلوقات بمقتضى علمه وحكمته ومشيئته ، ونفذه بقدرته واختياره في خليقته ، فهو حكمه وقضاؤه وقدره بسلطانه ، لا حكم عليه بسلطان غيره ، وهو كمال مطلق لا شائبة للنقص فيه .
ولا يشكلن عليك فيها أيضا أن يكون في كل نوع - من هذه الدواب حتى الإنسان - أفراد قد تضيق في وجوههم أبواب الرزق حتى يقضي بعضهم جوعا ، فليس معناها أن الله - تعالى - قد كفل لكل دابة من كل نوع أن يخلق لها ما تغتذي به ، ويوصله إليها بمحض قدرته ، سواء أطلبته بباعث غريزتها أو ما يهديها إليه العلم من أسباب كسبها أم لا ؟ وإنما معناها ما فسرناها به من خلقه - تعالى - لكل منها الرزق الذي تعيش به ، وأنه سخره لها وهداها إلى طلبه وتحصيله ، كما قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ) ( 20 : 50 ) وبهذا تعلم جهل بعض العباد والشعراء فيما زعموه من أن الكسب وعدمه سواء ، كقول بعض الخياليين الجاهلين ، المتواكلين غير المتوكلين :
جرى قلم القضاء بما يكون فسيان التحرك والسكون جنون منك أن تسعى لرزق
ويرزق في غشاوته الجنين
[ ص: 14 ] فهذا الشاعر أحق بصفة الجنون ممن يصفهم بها ، فإن ما جرى به القضاء منه ما هو مجهول للناس ، ومنه ما علم نوعه بالتجارب والاختبار ، ويعبر عنه بالنواميس والسنن ، ومنها أن الحركة والسكون لكل منهما آثار ، فما هما سيان في ذاتهما ، ولا في آثارهما ونتائجهما ، وإن ما قضاه وقدره من رزق الجنين في غشاوته بدم حيض أمه ، غير ما قضاه وقدره من رزق من خاطبهم بقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=15هو الذي جعل لكم الأرض ذلولا فامشوا في مناكبها وكلوا من رزقه ) ( 67 : 15 ) وبغيره من آيات التسخير والتكليف .
ومن العجيب أن يستدل أحد المفسرين الأذكياء على هذا الجهل بأثر موضوع ، ويستحسن في موضوعه خيال
ابن أذينة الشاعر المخدوع :
لقد علمت وما الإشراف من خلقي أن الذي هو رزقي سوف يأتيني
أسعى إليه فيعييني تطلبه ولو أقمت أتاني لا يعييني
ثم يقول : وقد صدقه الله - تعالى - في ذلك يوم وفد على
هشام فقرعه بقوله هذا ، فرجع إلى
المدينة فندم
هشام على ذلك وأرسل بجائزته إليه ، ثم أورد ( أي المفسر ) في معناه قول من اعترف بأنه ألغى أمر الأسباب جدا إذ قال :
مثل الرزق الذي تطلبه مثل الظل الذي يمشي معك
أنت لا تدركه متبعا وإذا وليت عنه تبعك
وقفى عليه - أعني المفسر - بقوله هو : وبالجملة ينبغي الوثوق بالله وربط القلب به سبحانه ، فما شاء كان وما لم يشأ لم يكن ، اهـ . وأقول : إن هذه الجملة حق وضع موضع الباطل ، ولكن هذا الشعر أوغل في الجهل الباطل مما سبقه ; فإنه جعل الكلام في الرزق المطلوب ، لا في الرزق المكتوب ، وجعل اتباعه بالسعي والطلب مانعا من إدراكه ، والتولي عنه بالقعود والكسل والتمني دون العمل من الضرورات المقتضية لنيله ، فيكون تأييد زعمه أو تقريبه بما ينبغي ، بل بما يجب من الوثوق بالله وربط القلب به والإيمان بمشيئته ، من ربط العلم بالجهل ، وتأييد الباطل بكلمة الحق ، فالثقة بالله - تعالى - والإيمان بمشيئته لا يصحان مع الجهل بمعناهما ومواضع تعلقهما ، وقد علم بنصوص القرآن وبسنن الله - تعالى - في الخلق وأسباب الرزق ، أن مشيئته - تعالى - لا تكون إلا بمقتضى سننه في ارتباط الأسباب بالمسببات وحكمته فيها كما فصلناه مرارا في مواضعه من هذا التفسير ، والجهل بهذا مما أفسد على المسلمين دنياهم ودينهم ، وأضاع جل ملكهم ، وجعل جماهيرهم عالة على غيرهم .
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28781 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6ويعلم مستقرها ومستودعها ) أي : وما من دابة في الأرض إلا ويعلم الله مستقرها حيث
[ ص: 15 ] تستقر وتقيم ، ومستودعها حيث تكون مودعة إلى حين ، فهو يرزقها في كل حال بحسبه ، وقد بينا معنى الكلمتين في اللغة وما ورد في تفسيرهما من الآثار في تفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=98وهو الذي أنشأكم من نفس واحدة فمستقر ومستودع ) ( 6 : 98 ) فراجعها إن شئت في ( ص 532 و 533 ج 7 ط الهيئة ) من التفسير ، وقد لخص
البيضاوي جملة الأقوال في ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6مستقرها ومستودعها ) ) كعادته بقوله : أماكنها في الحياة والممات ، أو الأصلاب والأرحام ، أو مساكنها من الأرض حين وجدت ، ومودعها من المواد والمقار حين كانت بعد بالقوة (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6كل في كتاب مبين ) أي كل واحد من الدواب وأرزاقها ومستقرها ومستودعها ثابت مرقوم في كتاب مبين ولوح محفوظ ، كتب الله فيه مقادير الخلق كلها فهو عنده تحت العرش كما ثبت في الصحيح . وقد بينا ما ورد في هذا الكتاب مجملا في تفسير :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ما فرطنا في الكتاب من شيء 6 : 38 ثم مفصلا في تفسير آية مفاتح الغيب وهي الآية 59 من هذه السورة ( الأنعام ) فراجعها في ( ص 381 ج 7 وما بعدها ط الهيئة ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28982_31756وهو الذي خلق السماوات والأرض في ستة أيام ) من أيام الله - تعالى - في الخلق والتكوين وما شاء من الأطوار ، لا من أيامنا في هذه الدار التي وجدت بهذا الخلق لا قبله ، فلا يصح أن تقدر أيام الله بأيامها كما توهم الغافلون عن هذا ، وما يؤيده من قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=47وإن يوما عند ربك كألف سنة مما تعدون ) ( 22 : 47 ) وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=4تعرج الملائكة والروح إليه في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ) ( 70 : 4 ) وقد ثبت في علم الهيئة الفلكية أن أيام غير الأرض من الدراري التابعة لنظام شمسنا هذه تختلف عن أيام هذه الأرض في طولها ، بحسب اختلاف مقادير أجرامها وأبعادها وسرعتها في دورانها ، وأن أيام التكوين بخلقه من الدخان المعبر عنه بالسديم شموسا مضيئة ، تتبعها كواكب منيرة ، يقدر اليوم منها بألوف الألوف من سنيننا ، بل من سني سرعة النور أيضا ، وقد سبق مثل هذه الجملة في سورتي الأعراف 7 : 54 ويونس 10 : 3 ، وذكر بعدها استواء الخالق - تعالى - على عرشه ، وتدبيره لأمر ملكه . وأما هنا فقال بعدها فيهما ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وكان عرشه على الماء ) ) أي وكان سرير ملكه في أثناء هذا الطور من خلق هذا العالم أو من قبله على الماء . وقد بينا تفسير آيتي الأعراف ويونس المشار إليهما آنفا أن المعنى الكلي المفهوم من العرش أنه مركز نظام الملك ومصدر التدبير له ، وأن المتبادر في الاستعمال اللغوي استعمالهم : استوى على عرشه بمعنى ملك أو استقام أمر الملك له ، و : ثل عرشه بمعنى هلك وزال ملكه ، ونحن نعلم أن عروش ملوك البشر تختلف مادة وشكلا ، وهي من عالم الشهادة وصنع أيدي البشر ، كذلك يختلف النظام للتدبير الذي يصدر عنها ، وهو من جنس ما يعلم البشر في عالمنا هذا ، فعرش ملكة
سبأ العربية العظيم ،
[ ص: 16 ] كان أعظم من عرش
سليمان ملك
إسرائيل ، ولكن تدبيرها وحكمها الشوري ( الديمقراطي ) كان دون حكمه الشرعي الديني ، ورب عرش من الذهب ، وعرش من الخشب ، وأما عرش الرحمن - عز وجل - فهو من عالم الغيب الذي لا ندركه بحواسنا ، ولا نستطيع تصويره بأفكارنا ، فأجدر بنا ألا نعلم كنه استوائه عليه ، وصدور تدبيره لأمر هذا الملك العظيم عنه ، وحسبنا أن نفهم الكتابة ونستفيد العبرة ، فما أجهل الذين تصدوا لتأويل هذه الحقائق الغيبية بأقيستهم وآرائهم البشرية ! وما أحسن ما روي عن
nindex.php?page=showalam&ids=54أم سلمة - رضي الله عنها -
وربيعة ،
ومالك - رحمهما الله - من قولهم : الاستواء معلوم ، والكيف مجهول ، إلى آخر ما تقدم في تفسير آية الأعراف .
وأما قوله - تعالى - :
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28726_31748 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وكان عرشه على الماء ) فنفهم منه أن الذي كان دون هذا العرش من مادة هذا الخلق قبل تكوين السماوات والأرض أو في أثنائه هو هذا الماء ، الذي أخبرنا - عز وجل - أنه جعله أصلا لخلق جميع الأحياء ، إذ قال : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أولم ير الذين كفروا أن السماوات والأرض كانتا رتقا ففتقناهما وجعلنا من الماء كل شيء حي أفلا يؤمنون ) ( 21 : 30 ) الرؤية هنا علمية ، والمعنى : ألم يعلموا ما ينبغي أن يعلموه من أن السماوات والأرض كانتا مادة واحدة متصلة لا فتق فيها ولا انفصال - وهي ما يسمى في عرف علماء الفلك بالسديم وبلغة القرآن بالدخان - ففتقناهما بفصل بعضها من بعض ، فكان منها ما هو سماء ، ومنها ما هو أرض ، وجعلنا من الماء ، في المقابلة لحياة الأحياء ، كل شيء حي أفلا يؤمنون ، والأمر كذلك بأن الرب الفاعل لهذا هو الذي يعبد وحده ولا يشرك به شيء ، وأنه قادر على إعادة الخلق كبدئه ؟
فيفهم من هذا وذاك أن الذي كان تحت العرش فيتنزل إليه أمر التدبير والتكوين منه هو الماء الذي هو الأصل لجميع الأحياء ، لا ما تخيله بعض المفسرين الفنيين في الماء والعرش ، مما تأباه اللغة والعقل والشرع ، والعبارة ليست نصا في أن ذات العرش المخلوق كان على متن الماء كالسفن التي نراها راسية فيه الآن كما قيل ، فإن فائدة الإخبار بمثل هذا إن كان واقعا في ذلك العهد هو دون فائدة ما ذكرنا من معنى العرش الذي بيناه ، وهو الذي يزيدنا معرفة بربنا وبحكمه في خلقه ، وهو الذي يتفق مع نظريات علم التكوين وعلم الحياة وعلم الهيئة الفلكية وما ثبت من التجارب فيها ، ويخالف أتم المخالفة ما كان معروفا عند أمم الحضارة من قواعد علم الفلك القديمة ونظرياته المسلمة . وبهذا يعد من عجائب القرآن ، التي تظهر في كل زمان بعد زمان .
ثم علل - سبحانه وتعالى - خلقه لما ذكر ببعض حكمه الخاصة بالمكلفين المخاطبين بالقرآن فقال :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7ليبلوكم أيكم أحسن عملا ) أي ليجعل ذلك بلاء ، أي اختبارا وامتحانا لكم ،
[ ص: 17 ] فيظهر أيكم أحسن إتقانا لما يعمله ، ونفعا له وللناس به ، وذلك أنه سخر لكم كل شيء ، وجعلكم مستعدين لإبراز ما أودعه فيه من المنافع والفوائد المادية والمعنوية ، ومن حكم خالقه ورحمته بعباده فيه ، ومستعدين للإفساد والضرر به ; ليجزي كل عامل بعمله ، وإنما يتم ذلك في الآخرة ، وقد سبق لنا تفصيل هذا البلاء في تفسير : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وهو الذي جعلكم خلائف الأرض ورفع بعضكم فوق بعض درجات ليبلوكم في ما آتاكم إن ربك سريع العقاب وإنه لغفور رحيم ) ( 6 : 165 ) وغيره : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7ولئن قلت إنكم مبعوثون من بعد الموت ) أي وتالله لئن قلت للناس فيما تبلغهم من وحي ربهم : إنكم ستبعثون من بعد موتكم ليجزيكم ربكم بعملكم فيما بلاكم به : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31ليجزي الذين أساءوا بما عملوا ويجزي الذين أحسنوا بالحسنى ) ( 53 : 31 ) فإنه ما خلقكم سدى ، ولا سخر لكم هذا العالم واستخلفكم فيه عبثا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7ليقولن الذين كفروا إن هذا إلا سحر مبين ) أي ليجيبنك الذين كفروا وكذبوا بلقاء الله قائلين : ما هذا الذي جئتنا به من هذا القرآن لتسخرنا به لطاعتك إلا سحر بين ظاهر تسحر به العقول ، وتسخر به الضمائر والقلوب ، فتفرق به بين المرء وأخيه ، وأمه وأبيه ، وعشيرته التي تؤويه ، معتقدين بسلطان بلاغته أنهم سيموتون ثم يبعثون ويجزون بكل ما يفعلون ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=36هيهات هيهات لما توعدون ) ( 23 : 36 ) .
[ ص: 12 ] أَوَّلُ الْجُزْءِ الثَّانِي عَشَرَ فِي الْمَصَاحِفِ :
( (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) )
بَيَّنَ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي الْآيَةِ الَّتِي قَبْلَ هَذِهِ إِحَاطَةَ عِلْمِهِ إِثْرَ بَيَانِ مَا يَغْفُلُ النَّاسُ عَنْ عِلْمِهِ بِهِ ، وَبَيَّنَ فِي الَّتِي قَبْلَهَا شُمُولَ قُدْرَتِهِ لِكُلِّ شَيْءٍ ، وَبَيَّنَ فِي الْآيَةِ الْأُولَى مِنْ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مَا يُهِمُّ النَّاسَ مِنْ آثَارِ قُدْرَتِهِ ، وَمُتَعَلِّقَاتِ عِلْمِهِ ، وَكِتَابَةِ مَقَادِيرِ خَلْقِهِ ، وَهُوَ مَا يَتَعَلَّقُ بِحَيَاتِهِمْ وَشُئُونِهِمْ ، وَفِي الْآيَةِ الَّتِي بَعْدَهَا خَلْقَهُ لِلْعَالَمِ كُلِّهِ ، وَمَكَانَ عَرْشِهِ قَبْلَ هَذَا مِنْ مُلْكِهِ ، وَبَلَاءَ الْبَشَرِ خَاصَّةً بِذَلِكَ كُلِّهِ ; لِيُظْهِرَ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ، وَبَعْثَهُ إِيَّاهُمْ بَعْدَ الْمَوْتِ لِيَنَالُوا جَزَاءَ أَعْمَالِهِمْ ، وَإِنْكَارَ كُفَّارِهِمْ لِهَذَا ، قَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6nindex.php?page=treesubj&link=28982_32413وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا ) الدَّبُّ وَالدَّبِيبُ : الِانْتِقَالُ الْخَفِيفُ الْبَطِيءُ حَقِيقَةً كَدَبِيبِ الطِّفْلِ وَالشَّيْخِ الْمُسِنِّ وَالْعَقْرَبِ وَالْجَرَادِ ، أَوْ بِالْإِضَافَةِ كَدَبِيبِ الْجَيْشِ ، أَوْ مَجَازًا كَدَبِيبِ السُّكْرِ وَالسُّمِّ فِي الْجِسْمِ ، وَالدَّابَّةُ : اسْمٌ عَامٌّ يَشْمَلُ كُلَّ نَسَمَةٍ حَيَّةٍ تَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ زَحْفًا أَوْ عَلَى قَوَائِمَ ثِنْتَيْنِ فَأَكْثَرَ ، قَالَ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=24&ayano=45وَاللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ مَاءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى بَطْنِهِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى رِجْلَيْنِ وَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلَى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ مَا يَشَاءُ ) ( 24 : 45 ) أَيْ مِمَّا تَعْلَمُونَ وَمِمَّا لَا تَعْلَمُونَ مِمَّا يَدِبُّ عَلَى الْأَرْضِ ، وَمِمَّا يَطِيرُ فِي الْهَوَاءِ وَمِمَّا يَسْبَحُ فِي الْبِحَارِ وَالْأَنْهَارِ . وَغَلَبَةُ لَفْظِ الدَّابَّةِ عَلَى مَا يُرْكَبُ مِنَ الْخَيْلِ وَالْبِغَالِ وَالْحَمِيرِ عُرْفًا لَا لُغَةً . وَرِزْقُ الدَّابَّةِ غِذَاؤُهَا الَّذِي تَعِيشُ بِهِ . وَالْمَعْنَى : مَا مِنْ دَابَّةٍ مِنْ أَنْوَاعِ الدَّوَابِّ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُهَا عَلَى اخْتِلَافِ أَنْوَاعِهَا وَأَنْوَاعِهِ ، فَمِنْهَا الْجِنَّةُ الَّتِي لَا تُرَى بِالْأَبْصَارِ ،
[ ص: 13 ] وَصِغَارُ الْحَشَرَاتِ وَالْهَوَامِّ ، وَضِخَامُ الْأَجْسَامِ ، وَالْوُسْطَى بَيْنَ الْكَبِيرِ وَالصَّغِيرِ ، وَأَغْذِيَةُ كُلِّ نَوْعٍ مُخْتَلِفَةٌ مِنْ نَبَاتِيَّةٍ وَحَيَوَانِيَّةٍ ، وَقَدْ أَعْطَى كُلًّا مِنْهَا خَلْقَهُ الْمُنَاسِبَ لِمَعِيشَتِهِ ، ثُمَّ هَدَاهُ إِلَى تَحْصِيلِ غِذَائِهِ بِغَرِيزَتِهِ ، فَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ خَرَاطِيمَ يَمُصُّ بِهَا غِذَاءَهُ مِنَ النَّبَاتِ أَوْ دَمِ الْحَيَوَانِ ، وَأَعْطَاهَا مِنَ الْقُوَّةِ مَا إِنَّ خُرْطُومَ الْبَعُوضَةِ الدَّقِيقَ لَيَخْتَرِقُ جِلْدَ الْإِنْسَانِ وَمَا هُوَ أَكْثَفُ مِنْهُ مِنْ جُلُودِ الْحَيَوَانِ ، وَمِنْهَا مَا خَلَقَ لَهُ مَنَاقِيرَ تَلْتَقِطُ الْحُبُوبَ ، وَمِنْهَا مَا يَمْضُغُ النَّبَاتَ بِأَسْنَانِهِ مَضْغًا ، وَمَا يَبْلَعُ الْحَشَرَاتِ وَالطُّيُورَ وَالْأَنْعَامَ بَلْعًا ، وَمَا لَهُ مَخَالِبُ يُمَزِّقُ بِهَا اللُّحُومَ ، وَمَا لَهُ بَرَاثِنُ يَقْتُلُ بِهَا كِبَارَ الْجُسُومِ ، وَتَفْصِيلُ هَذَا لَهُ كُتُبٌ خَاصَّةٌ مِنْ قَدِيمَةٍ وَحَدِيثَةٍ ، وَلِلَّهِ - تَعَالَى - حِكَمٌ فِي خَلْقِهَا وَغِذَائِهَا عَجِيبَةٌ ، فَإِنْ خَفِيَ عَلَيْكَ أَمْرُ تَغَذِّي الْحَيَّاتِ وَالسَّنَانِيرِ وَنَحْوِهَا مِنْ خِشَاشِ الْأَرْضِ وَصِغَارِهَا ، وَتَغَذِّي الْأَفَاعِي الْكُبْرَى وَسِبَاعِ الْوَحْشِ وَالطَّيْرِ مِنْ كِبَارِهَا ، فَأَوَّلُ مَا يَنْبَغِي لَكَ أَنْ تُفَكِّرَ فِيهِ مِنْ حِكْمَتِهَا ، أَنَّهُ لَوْلَا ذَلِكَ لَضَاقَتِ الْأَرْضُ ذَرْعًا بِكَثْرَةِ أَحْيَائِهَا ، أَوْ لَأَنْتَنَتْ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَاتِهَا ، وَإِذَا أَرَدْتَ زِيَادَةَ الْعِلْمِ بِهَا وَبِحِكْمَتِهَا فَعَلَيْكَ بِالْمُصَنَّفَاتِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهَا ، وَقَدْ فَتَحَتْ هَذِهِ الْآيَةُ وَأَمْثَالُهَا لَكَ أَبْوَابَهَا ، وَأَرْشَدَتْكَ إِلَى تِطْلَابِهَا .
وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ التَّعْبِيرُ عَنْ كَفَالَةِ اللَّهِ لِرِزْقِهَا بِقَوْلِهِ : عَلَى ، وَمَا قِيلَ مِنْ دَلَالَتِهَا عَلَى الْوُجُوبِ مَعَ قَوْلِ الْمُتَكَلِّمِينَ أَنَّهُ لَا يَجِبُ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ ، فَإِنَّ الْمَمْنُوعَ أَنْ يَجِبَ عَلَيْهِ - تَعَالَى - شَيْءٌ بِإِيجَابِ مُوجِبٍ ذِي حُكْمٍ أَوْ سُلْطَانٍ يُطَالِبُهُ بِهِ وَيُحَاسِبُهُ عَلَيْهِ ، فَهَذَا مُحَالٌ عَقْلًا وَشَرْعًا ، وَأَمَّا مَا أَوْجَبَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - مِنَ النِّظَامِ وَسُنَنِ التَّدْبِيرِ الْعَامِّ لِلْمَخْلُوقَاتِ بِمُقْتَضَى عِلْمِهِ وَحِكْمَتِهِ وَمَشِيئَتِهِ ، وَنَفَّذَهُ بِقُدْرَتِهِ وَاخْتِيَارِهِ فِي خَلِيقَتِهِ ، فَهُوَ حُكْمُهُ وَقَضَاؤُهُ وَقَدَرُهُ بِسُلْطَانِهِ ، لَا حُكْمَ عَلَيْهِ بِسُلْطَانِ غَيْرِهِ ، وَهُوَ كَمَالٌ مُطْلَقٌ لَا شَائِبَةَ لِلنَّقْصِ فِيهِ .
وَلَا يُشْكِلَنَّ عَلَيْكَ فِيهَا أَيْضًا أَنْ يَكُونَ فِي كُلِّ نَوْعٍ - مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ حَتَّى الْإِنْسَانِ - أَفْرَادٌ قَدْ تَضِيقُ فِي وُجُوهِهِمْ أَبْوَابُ الرِّزْقِ حَتَّى يَقْضِيَ بَعْضُهُمْ جُوعًا ، فَلَيْسَ مَعْنَاهَا أَنَّ اللَّهَ - تَعَالَى - قَدْ كَفَلَ لِكُلِّ دَابَّةٍ مِنْ كُلِّ نَوْعٍ أَنْ يَخْلُقَ لَهَا مَا تَغْتَذِي بِهِ ، وَيُوَصِّلُهُ إِلَيْهَا بِمَحْضِ قُدْرَتِهِ ، سَوَاءٌ أَطَلَبَتْهُ بِبَاعِثِ غَرِيزَتِهَا أَوْ مَا يَهْدِيهَا إِلَيْهِ الْعِلْمُ مِنْ أَسْبَابِ كَسْبِهَا أَمْ لَا ؟ وَإِنَّمَا مَعْنَاهَا مَا فَسَّرْنَاهَا بِهِ مِنْ خَلْقِهِ - تَعَالَى - لِكُلٍّ مِنْهَا الرِّزْقَ الَّذِي تَعِيشُ بِهِ ، وَأَنَّهُ سَخَّرَهُ لَهَا وَهَدَاهَا إِلَى طَلَبِهِ وَتَحْصِيلِهِ ، كَمَا قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=50رَبُّنَا الَّذِي أَعْطَى كُلَّ شَيْءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدَى ) ( 20 : 50 ) وَبِهَذَا تَعْلَمُ جَهْلَ بَعْضِ الْعِبَادِ وَالشُّعَرَاءِ فِيمَا زَعَمُوهُ مِنْ أَنَّ الْكَسْبَ وَعَدَمَهُ سَوَاءٌ ، كَقَوْلِ بَعْضِ الْخَيَالِيِّينَ الْجَاهِلِينَ ، الْمُتَوَاكِلِينَ غَيْرِ الْمُتَوَكِّلِينَ :
جَرَى قَلَمُ الْقَضَاءِ بِمَا يَكُونُ فَسِيَّانِ التَّحَرُّكُ وَالسُّكُونُ جُنُونٌ مِنْكَ أَنْ تَسْعَى لِرِزْقٍ
وَيُرْزَقُ فِي غِشَاوَتِهِ الْجَنِينُ
[ ص: 14 ] فَهَذَا الشَّاعِرُ أَحَقُّ بِصِفَةِ الْجُنُونِ مِمَّنْ يَصِفُهُمْ بِهَا ، فَإِنَّ مَا جَرَى بِهِ الْقَضَاءُ مِنْهُ مَا هُوَ مَجْهُولٌ لِلنَّاسِ ، وَمِنْهُ مَا عُلِمَ نَوْعُهُ بِالتَّجَارِبِ وَالِاخْتِبَارِ ، وَيُعَبَّرُ عَنْهُ بِالنَّوَامِيسِ وَالسُّنَنِ ، وَمِنْهَا أَنَّ الْحَرَكَةَ وَالسُّكُونَ لِكُلٍّ مِنْهُمَا آثَارٌ ، فَمَا هُمَا سِيَّانِ فِي ذَاتِهِمَا ، وَلَا فِي آثَارِهِمَا وَنَتَائِجِهِمَا ، وَإِنَّ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ الْجَنِينِ فِي غِشَاوَتِهِ بِدَمِ حَيْضِ أُمِّهِ ، غَيْرُ مَا قَضَاهُ وَقَدَّرَهُ مِنْ رِزْقِ مَنْ خَاطَبَهُمْ بِقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=67&ayano=15هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا فَامْشُوا فِي مَنَاكِبِهَا وَكُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ) ( 67 : 15 ) وَبِغَيْرِهِ مِنْ آيَاتِ التَّسْخِيرِ وَالتَّكْلِيفِ .
وَمِنَ الْعَجِيبِ أَنْ يَسْتَدِلَّ أَحَدُ الْمُفَسِّرِينَ الْأَذْكِيَاءِ عَلَى هَذَا الْجَهْلِ بِأَثَرٍ مَوْضُوعٍ ، وَيُسْتَحْسَنُ فِي مَوْضُوعِهِ خَيَالُ
ابْنِ أُذَيْنَةَ الشَّاعِرِ الْمَخْدُوعِ :
لَقَدْ عَلِمْتُ وَمَا الْإِشْرَافُ مِنْ خُلُقِي أَنَّ الَّذِي هُوَ رِزْقِي سَوْفَ يَأْتِينِي
أَسْعَى إِلَيْهِ فَيُعْيِينِي تَطَلُّبُهُ وَلَوْ أَقَمْتُ أَتَانِي لَا يُعْيِينِي
ثُمَّ يَقُولُ : وَقَدْ صَدَّقَهُ اللَّهُ - تَعَالَى - فِي ذَلِكَ يَوْمَ وَفَدَ عَلَى
هِشَامٍ فَقَرَعَهُ بِقَوْلِهِ هَذَا ، فَرَجَعَ إِلَى
الْمَدِينَةِ فَنَدِمَ
هِشَامٌ عَلَى ذَلِكَ وَأَرْسَلَ بِجَائِزَتِهِ إِلَيْهِ ، ثُمَّ أَوْرَدَ ( أَيِ الْمُفَسِّرُ ) فِي مَعْنَاهُ قَوْلَ مَنِ اعْتَرَفَ بِأَنَّهُ أَلْغَى أَمْرَ الْأَسْبَابِ جِدًّا إِذْ قَالَ :
مَثَلُ الرِّزْقِ الَّذِي تَطْلُبُهُ مَثَلُ الظِّلِّ الَّذِي يَمْشِي مَعَكْ
أَنْتَ لَا تُدْرِكُهُ مُتَّبِعًا وَإِذَا وَلَّيْتَ عَنْهُ تَبِعَكْ
وَقَفَّى عَلَيْهِ - أَعْنِي الْمُفَسِّرَ - بِقَوْلِهِ هُوَ : وَبِالْجُمْلَةِ يَنْبَغِي الْوُثُوقُ بِاللَّهِ وَرَبْطُ الْقَلْبِ بِهِ سُبْحَانَهُ ، فَمَا شَاءَ كَانَ وَمَا لَمْ يَشَأْ لَمْ يَكُنْ ، اهـ . وَأَقُولُ : إِنَّ هَذِهِ الْجُمْلَةَ حَقٌّ وُضِعَ مَوْضِعَ الْبَاطِلِ ، وَلَكِنَّ هَذَا الشِّعْرَ أَوْغَلُ فِي الْجَهْلِ الْبَاطِلِ مِمَّا سَبَقَهُ ; فَإِنَّهُ جَعَلَ الْكَلَامَ فِي الرِّزْقِ الْمَطْلُوبِ ، لَا فِي الرِّزْقِ الْمَكْتُوبِ ، وَجَعَلَ اتِّبَاعَهُ بِالسَّعْيِ وَالطَّلَبِ مَانِعًا مِنْ إِدْرَاكِهِ ، وَالتَّوَلِّي عَنْهُ بِالْقُعُودِ وَالْكَسَلِ وَالتَّمَنِّي دُونَ الْعَمَلِ مِنَ الضَّرُورَاتِ الْمُقْتَضِيَةِ لِنَيْلِهِ ، فَيَكُونُ تَأْيِيدُ زَعْمِهِ أَوْ تَقْرِيبُهُ بِمَا يَنْبَغِي ، بَلْ بِمَا يَجِبُ مِنَ الْوُثُوقِ بِاللَّهِ وَرَبْطِ الْقَلْبِ بِهِ وَالْإِيمَانِ بِمَشِيئَتِهِ ، مِنْ رَبْطِ الْعِلْمِ بِالْجَهْلِ ، وَتَأْيِيدِ الْبَاطِلِ بِكَلِمَةِ الْحَقِّ ، فَالثِّقَةُ بِاللَّهِ - تَعَالَى - وَالْإِيمَانُ بِمَشِيئَتِهِ لَا يَصِحَّانِ مَعَ الْجَهْلِ بِمَعْنَاهُمَا وَمَوَاضِعِ تَعَلُّقِهِمَا ، وَقَدْ عُلِمَ بِنُصُوصِ الْقُرْآنِ وَبِسُنَنِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَأَسْبَابِ الرِّزْقِ ، أَنَّ مَشِيئَتَهُ - تَعَالَى - لَا تَكُونُ إِلَّا بِمُقْتَضَى سُنَنِهِ فِي ارْتِبَاطِ الْأَسْبَابِ بِالْمُسَبَّبَاتِ وَحِكْمَتِهِ فِيهَا كَمَا فَصَّلْنَاهُ مِرَارًا فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ ، وَالْجَهْلُ بِهَذَا مِمَّا أَفْسَدَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ دُنْيَاهُمْ وَدِينَهُمْ ، وَأَضَاعَ جُلَّ مِلْكِهِمْ ، وَجَعَلَ جَمَاهِيرَهُمْ عَالَةً عَلَى غَيْرِهِمْ .
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28781 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6وَيَعْلَمُ مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) أَيْ : وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا وَيَعْلَمُ اللَّهُ مُسْتَقَرَّهَا حَيْثُ
[ ص: 15 ] تَسْتَقِرُّ وَتُقِيمُ ، وَمُسْتَوْدَعَهَا حَيْثُ تَكُونُ مُودَعَةً إِلَى حِينٍ ، فَهُوَ يَرْزُقُهَا فِي كُلِّ حَالٍ بِحَسَبِهِ ، وَقَدْ بَيَّنَّا مَعْنَى الْكَلِمَتَيْنِ فِي اللُّغَةِ وَمَا وَرَدَ فِي تَفْسِيرِهِمَا مِنَ الْآثَارِ فِي تَفْسِيرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=98وَهُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَمُسْتَوْدَعٌ ) ( 6 : 98 ) فَرَاجِعْهَا إِنْ شِئْتَ فِي ( ص 532 و 533 ج 7 ط الْهَيْئَةِ ) مِنَ التَّفْسِيرِ ، وَقَدْ لَخَّصَ
الْبَيْضَاوِيُّ جُمْلَةَ الْأَقْوَالِ فِي ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6مُسْتَقَرَّهَا وَمُسْتَوْدَعَهَا ) ) كَعَادَتِهِ بِقَوْلِهِ : أَمَاكِنُهَا فِي الْحَيَاةِ وَالْمَمَاتِ ، أَوِ الْأَصْلَابِ وَالْأَرْحَامِ ، أَوْ مَسَاكِنُهَا مِنَ الْأَرْضِ حِينَ وُجِدَتْ ، وَمَوْدَعُهَا مِنَ الْمَوَادِّ وَالْمَقَارِّ حِينَ كَانَتْ بَعْدُ بِالْقُوَّةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=6كُلٌّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ ) أَيْ كُلُّ وَاحِدٍ مِنَ الدَّوَابِّ وَأَرْزَاقِهَا وَمُسْتَقَرِّهَا وَمُسْتَوْدَعِهَا ثَابِتٌ مَرْقُومٌ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ وَلَوْحٍ مَحْفُوظٍ ، كَتَبَ اللَّهُ فِيهِ مَقَادِيرَ الْخَلْقِ كُلَّهَا فَهُوَ عِنْدُهُ تَحْتَ الْعَرْشِ كَمَا ثَبَتَ فِي الصَّحِيحِ . وَقَدْ بَيَّنَّا مَا وَرَدَ فِي هَذَا الْكِتَابِ مُجْمَلًا فِي تَفْسِيرِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=38وَمَا مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَلَا طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ إِلَّا أُمَمٌ أَمْثَالُكُمْ مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ 6 : 38 ثُمَّ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ مَفَاتِحِ الْغَيْبِ وَهِيَ الْآيَةُ 59 مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ ( الْأَنْعَامِ ) فَرَاجِعْهَا فِي ( ص 381 ج 7 وَمَا بَعْدَهَا ط الْهَيْئَةِ ) .
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28982_31756وَهُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ) مِنْ أَيَّامِ اللَّهِ - تَعَالَى - فِي الْخَلْقِ وَالتَّكْوِينِ وَمَا شَاءَ مِنَ الْأَطْوَارِ ، لَا مِنْ أَيَّامِنَا فِي هَذِهِ الدَّارِ الَّتِي وُجِدَتْ بِهَذَا الْخَلْقِ لَا قَبْلَهُ ، فَلَا يَصِحُّ أَنْ تُقَدَّرَ أَيَّامُ اللَّهِ بِأَيَّامِهَا كَمَا تَوَهَّمَ الْغَافِلُونَ عَنْ هَذَا ، وَمَا يُؤَيِّدُهُ مِنْ قَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=22&ayano=47وَإِنَّ يَوْمًا عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ) ( 22 : 47 ) وَقَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=70&ayano=4تَعْرُجُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) ( 70 : 4 ) وَقَدْ ثَبَتَ فِي عِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ أَنَّ أَيَّامَ غَيْرِ الْأَرْضِ مِنَ الدَّرَارِيِّ التَّابِعَةِ لِنِظَامِ شَمْسِنَا هَذِهِ تَخْتَلِفُ عَنْ أَيَّامِ هَذِهِ الْأَرْضِ فِي طُولِهَا ، بِحَسَبِ اخْتِلَافِ مَقَادِيرِ أَجْرَامِهَا وَأَبْعَادِهَا وَسُرْعَتِهَا فِي دَوَرَانِهَا ، وَأَنَّ أَيَّامَ التَّكْوِينِ بِخَلْقِهِ مِنَ الدُّخَانِ الْمُعَبَّرِ عَنْهُ بِالسَّدِيمِ شُمُوسًا مُضِيئَةً ، تَتْبَعُهَا كَوَاكِبُ مُنِيرَةٌ ، يُقَدَّرُ الْيَوْمُ مِنْهَا بِأُلُوفِ الْأُلُوفِ مِنْ سِنِينِنَا ، بَلْ مِنْ سِنِيِّ سُرْعَةِ النُّورِ أَيْضًا ، وَقَدْ سَبَقَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي سُورَتَيِ الْأَعْرَافِ 7 : 54 وَيُونُسَ 10 : 3 ، وَذُكِرَ بَعْدَهَا اسْتِوَاءُ الْخَالِقِ - تَعَالَى - عَلَى عَرْشِهِ ، وَتَدْبِيرُهُ لِأَمْرِ مُلْكِهِ . وَأَمَّا هُنَا فَقَالَ بَعْدَهَا فِيهِمَا ( (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) ) أَيْ وَكَانَ سَرِيرُ مُلْكِهِ فِي أَثْنَاءِ هَذَا الطَّوْرِ مِنْ خَلْقِ هَذَا الْعَالَمِ أَوْ مِنْ قَبْلِهِ عَلَى الْمَاءِ . وَقَدْ بَيَّنَّا تَفْسِيرَ آيَتَيِ الْأَعْرَافِ وَيُونُسَ الْمُشَارِ إِلَيْهِمَا آنِفًا أَنَّ الْمَعْنَى الْكُلِّيَّ الْمَفْهُومَ مِنَ الْعَرْشِ أَنَّهُ مَرْكَزُ نِظَامِ الْمُلْكِ وَمَصْدَرُ التَّدْبِيرِ لَهُ ، وَأَنَّ الْمُتَبَادِرَ فِي الِاسْتِعْمَالِ اللُّغَوِيِّ اسْتِعْمَالُهُمُ : اسْتَوَى عَلَى عَرْشِهِ بِمَعْنَى مَلَكَ أَوِ اسْتَقَامَ أَمْرُ الْمُلْكِ لَهُ ، وَ : ثُلَّ عَرْشُهُ بِمَعْنَى هَلَكَ وَزَالَ مُلْكُهُ ، وَنَحْنُ نَعْلَمُ أَنَّ عُرُوشَ مُلُوكِ الْبَشَرِ تَخْتَلِفُ مَادَّةً وَشَكْلًا ، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الشَّهَادَةِ وَصُنْعِ أَيْدِي الْبَشَرِ ، كَذَلِكَ يَخْتَلِفُ النِّظَامُ لِلتَّدْبِيرِ الَّذِي يَصْدُرُ عَنْهَا ، وَهُوَ مِنْ جِنْسِ مَا يَعْلَمُ الْبَشَرُ فِي عَالَمِنَا هَذَا ، فَعَرْشُ مَلِكَةِ
سَبَأٍ الْعَرَبِيَّةِ الْعَظِيمِ ،
[ ص: 16 ] كَانَ أَعْظَمَ مِنْ عَرْشِ
سُلَيْمَانَ مَلِكِ
إِسْرَائِيلَ ، وَلَكِنَّ تَدْبِيرَهَا وَحُكْمَهَا الشُّورِيَّ ( الدِّيمُقْرَاطِيَّ ) كَانَ دُونَ حُكْمِهِ الشَّرْعِيِّ الدِّينِيِّ ، وَرُبَّ عَرْشٍ مِنَ الذَّهَبِ ، وَعَرْشٍ مِنَ الْخَشَبِ ، وَأَمَّا عَرْشُ الرَّحْمَنِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَهُوَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ الَّذِي لَا نُدْرِكُهُ بِحَوَاسِّنَا ، وَلَا نَسْتَطِيعُ تَصْوِيرَهُ بِأَفْكَارِنَا ، فَأَجْدِرْ بِنَا أَلَّا نَعْلَمَ كُنْهَ اسْتِوَائِهِ عَلَيْهِ ، وَصُدُورَ تَدْبِيرِهِ لِأَمْرِ هَذَا الْمُلْكِ الْعَظِيمِ عَنْهُ ، وَحَسْبُنَا أَنْ نَفْهَمَ الْكِتَابَةَ وَنَسْتَفِيدَ الْعِبْرَةَ ، فَمَا أَجْهَلَ الَّذِينَ تَصَدَّوْا لِتَأْوِيلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ الْغَيْبِيَّةِ بِأَقْيِسَتِهِمْ وَآرَائِهِمُ الْبَشَرِيَّةِ ! وَمَا أَحْسَنَ مَا رُوِيَ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=54أُمِّ سَلَمَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا -
وَرَبِيعَةَ ،
وَمَالِكٍ - رَحِمَهُمَا اللَّهُ - مِنْ قَوْلِهِمُ : الِاسْتِوَاءُ مَعْلُومٌ ، وَالْكَيْفُ مَجْهُولٌ ، إِلَى آخِرِ مَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ آيَةِ الْأَعْرَافِ .
وَأَمَّا قَوْلُهُ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=treesubj&link=28982_28726_31748 ( nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وَكَانَ عَرْشُهُ عَلَى الْمَاءِ ) فَنَفْهَمُ مِنْهُ أَنَّ الَّذِي كَانَ دُونَ هَذَا الْعَرْشِ مِنْ مَادَّةِ هَذَا الْخَلْقِ قَبْلَ تَكْوِينِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَوْ فِي أَثْنَائِهِ هُوَ هَذَا الْمَاءُ ، الَّذِي أَخْبَرَنَا - عَزَّ وَجَلَّ - أَنَّهُ جَعَلَهُ أَصْلًا لِخَلْقِ جَمِيعِ الْأَحْيَاءِ ، إِذْ قَالَ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=21&ayano=30أَوَلَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا رَتْقًا فَفَتَقْنَاهُمَا وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ) ( 21 : 30 ) الرُّؤْيَةُ هُنَا عِلْمِيَّةٌ ، وَالْمَعْنَى : أَلَمْ يَعْلَمُوا مَا يَنْبَغِي أَنْ يَعْلَمُوهُ مِنْ أَنَّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ كَانَتَا مَادَّةً وَاحِدَةً مُتَّصِلَةً لَا فَتْقَ فِيهَا وَلَا انْفِصَالَ - وَهِيَ مَا يُسَمَّى فِي عُرْفِ عُلَمَاءِ الْفَلَكِ بِالسَّدِيمِ وَبِلُغَةِ الْقُرْآنِ بِالدُّخَانِ - فَفَتَقْنَاهُمَا بِفَصْلِ بَعْضِهَا مِنْ بَعْضٍ ، فَكَانَ مِنْهَا مَا هُوَ سَمَاءٌ ، وَمِنْهَا مَا هُوَ أَرْضٌ ، وَجَعَلْنَا مِنَ الْمَاءِ ، فِي الْمُقَابَلَةِ لِحَيَاةِ الْأَحْيَاءِ ، كُلَّ شَيْءٍ حَيٍّ أَفَلَا يُؤْمِنُونَ ، وَالْأَمْرُ كَذَلِكَ بِأَنَّ الرَّبَّ الْفَاعِلَ لِهَذَا هُوَ الَّذِي يُعْبَدُ وَحْدَهُ وَلَا يُشْرَكُ بِهِ شَيْءٌ ، وَأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَةِ الْخَلْقِ كَبَدْئِهِ ؟
فَيُفْهَمُ مِنْ هَذَا وَذَاكَ أَنَّ الَّذِي كَانَ تَحْتَ الْعَرْشِ فَيَتَنَزَّلُ إِلَيْهِ أَمْرُ التَّدْبِيرِ وَالتَّكْوِينِ مِنْهُ هُوَ الْمَاءُ الَّذِي هُوَ الْأَصْلُ لِجَمِيعِ الْأَحْيَاءِ ، لَا مَا تَخَيَّلَهُ بَعْضُ الْمُفَسِّرِينَ الْفَنِّيِّينَ فِي الْمَاءِ وَالْعَرْشِ ، مِمَّا تَأْبَاهُ اللُّغَةُ وَالْعَقْلُ وَالشَّرْعُ ، وَالْعِبَارَةُ لَيْسَتْ نَصًّا فِي أَنَّ ذَاتَ الْعَرْشِ الْمَخْلُوقِ كَانَ عَلَى مَتْنِ الْمَاءِ كَالسُّفُنِ الَّتِي نَرَاهَا رَاسِيَةً فِيهِ الْآنَ كَمَا قِيلَ ، فَإِنَّ فَائِدَةَ الْإِخْبَارِ بِمِثْلِ هَذَا إِنْ كَانَ وَاقِعًا فِي ذَلِكَ الْعَهْدِ هُوَ دُونَ فَائِدَةِ مَا ذَكَرْنَا مِنْ مَعْنَى الْعَرْشِ الَّذِي بَيَّنَّاهُ ، وَهُوَ الَّذِي يَزِيدُنَا مَعْرِفَةً بِرَبِّنَا وَبِحُكْمِهِ فِي خَلْقِهِ ، وَهُوَ الَّذِي يَتَّفِقُ مَعَ نَظَرِيَّاتِ عِلْمِ التَّكْوِينِ وَعِلْمِ الْحَيَاةِ وَعِلْمِ الْهَيْئَةِ الْفَلَكِيَّةِ وَمَا ثَبَتَ مِنَ التَّجَارِبِ فِيهَا ، وَيُخَالِفُ أَتَمَّ الْمُخَالَفَةِ مَا كَانَ مَعْرُوفًا عِنْدَ أُمَمِ الْحَضَارَةِ مِنْ قَوَاعِدِ عِلْمِ الْفَلَكِ الْقَدِيمَةِ وَنَظَرِيَّاتِهِ الْمُسَلَّمَةِ . وَبِهَذَا يُعَدُّ مِنْ عَجَائِبِ الْقُرْآنِ ، الَّتِي تَظْهَرُ فِي كُلِّ زَمَانٍ بَعْدَ زَمَانٍ .
ثُمَّ عَلَّلَ - سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى - خَلْقَهُ لِمَا ذَكَرَ بِبَعْضِ حِكَمِهِ الْخَاصَّةِ بِالْمُكَلَّفِينَ الْمُخَاطَبِينَ بِالْقُرْآنِ فَقَالَ :
(
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا ) أَيْ لِيَجْعَلَ ذَلِكَ بَلَاءً ، أَيِ اخْتِبَارًا وَامْتِحَانًا لَكُمْ ،
[ ص: 17 ] فَيَظْهَرَ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ إِتْقَانًا لِمَا يَعْمَلُهُ ، وَنَفْعًا لَهُ وَلِلنَّاسِ بِهِ ، وَذَلِكَ أَنَّهُ سَخَّرَ لَكُمْ كُلَّ شَيْءٍ ، وَجَعَلَكُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِإِبْرَازِ مَا أَوْدَعَهُ فِيهِ مِنَ الْمَنَافِعِ وَالْفَوَائِدِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ ، وَمِنْ حِكَمِ خَالِقِهِ وَرَحْمَتِهِ بِعِبَادِهِ فِيهِ ، وَمُسْتَعِدِّينَ لِلْإِفْسَادِ وَالضَّرَرِ بِهِ ; لِيَجْزِيَ كُلَّ عَامِلٍ بِعَمَلِهِ ، وَإِنَّمَا يَتِمُّ ذَلِكَ فِي الْآخِرَةِ ، وَقَدْ سَبَقَ لَنَا تَفْصِيلُ هَذَا الْبَلَاءِ فِي تَفْسِيرِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=165وَهُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلَائِفَ الْأَرْضِ وَرَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي مَا آتَاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقَابِ وَإِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ ) ( 6 : 165 ) وَغَيْرِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7وَلَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ ) أَيْ وَتَاللَّهِ لَئِنْ قُلْتَ لِلنَّاسِ فِيمَا تُبَلِّغُهُمْ مِنْ وَحْيِ رَبِّهِمْ : إِنَّكُمْ سَتُبْعَثُونَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لِيَجْزِيَكُمْ رَبُّكُمْ بِعَمَلِكُمْ فِيمَا بَلَاكُمْ بِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=53&ayano=31لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَسَاءُوا بِمَا عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى ) ( 53 : 31 ) فَإِنَّهُ مَا خَلَقَكُمْ سُدًى ، وَلَا سَخَّرَ لَكُمْ هَذَا الْعَالَمَ وَاسْتَخْلَفَكُمْ فِيهِ عَبَثًا : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=7لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ) أَيْ لَيُجِيبَنَّكَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَكَذَّبُوا بِلِقَاءِ اللَّهِ قَائِلِينَ : مَا هَذَا الَّذِي جِئْتَنَا بِهِ مِنْ هَذَا الْقُرْآنِ لِتُسَخِّرَنَا بِهِ لِطَاعَتِكَ إِلَّا سِحْرٌ بَيِّنٌ ظَاهِرٌ تَسْحَرُ بِهِ الْعُقُولَ ، وَتُسَخِّرُ بِهِ الضَّمَائِرَ وَالْقُلُوبَ ، فَتُفَرِّقَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَأَخِيهِ ، وَأُمِّهِ وَأَبِيهِ ، وَعَشِيرَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ ، مُعْتَقِدِينَ بِسُلْطَانِ بَلَاغَتِهِ أَنَّهُمْ سَيَمُوتُونَ ثُمَّ يُبْعَثُونَ وَيُجْزَوْنَ بِكُلِّ مَا يَفْعَلُونَ ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=23&ayano=36هَيْهَاتَ هَيْهَاتَ لِمَا تُوعَدُونَ ) ( 23 : 36 ) .