العلاوة الثالثة :
(
nindex.php?page=treesubj&link=31832هل كان الطوفان عاما أم خاصا ؟ )
نص التوراة - أو سفر التكوين - أن الطوفان كان عاما مهلكا لجميع البشر إلا ذرية
نوح من أبنائه الثلاثة :
سام وحام ويافث ، فإنه لم يكن في الأرض غيرهم ، بحسب ما سبق فيه خبره من خلق السماوات والأرض
وآدم وذريته كما تقدم .
والله - تعالى - يقول :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=51ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم 18 : 51 أما قوله في
نوح - عليه السلام - بعد ذكر تنجيته وأهله :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=77وجعلنا ذريته هم الباقين 37 : 77 فالحصر فيهم يجوز أن يكون إضافيا ، أي الباقين دون غيرهم من قومه ، وأما قوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26وقال نوح رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ( 71 : 26 ) فليس نصا في أن المراد بالأرض هذه الكرة كلها ، فإن المعروف في كلام الأنبياء والأقوام وفي أخبارهم أن تذكر الأرض ويراد بها أرضهم ووطنهم ، كقوله - تعالى - حكاية عن خطاب فرعون
لموسى وهارون : وتكون لكما الكبرياء في الأرض 10 : 78 يعني أرض
مصر ، وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=76وإن كادوا ليستفزونك من الأرض ليخرجوك منها ) ( 17 : 76 ) فالمراد بها
مكة ، وقوله :
[ ص: 89 ] nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وقضينا إلى بني إسرائيل في الكتاب لتفسدن في الأرض مرتين 17 : 4 والمراد بها الأرض التي كانت وطنهم ، والشواهد عليه كثيرة .
ولكن ظواهر الآيات تدل - بمعونة القرائن والتقاليد الموروثة عن
أهل الكتاب - على أنه لم يكن في الأرض كلها في زمن
نوح إلا قومه ، وأنهم هلكوا كلهم بالطوفان ولم يبق بعده فيها غير ذريته ، وهذا يقتضي أن يكون الطوفان في البقعة التي كانوا فيها من الأرض سهلها وجبالها لا في الأرض كلها ، إلا إذا كانت اليابسة منها في ذلك الزمن صغيرة لقرب العهد بالتكوين وبوجود البشر عليها ، فإن علماء التكوين وطبقات الأرض ( الجيولوجية ) يقولون : إن الأرض كانت عند انفصالها من الشمس كرة نارية ملتهبة ، ثم صارت كرة مائية ، ثم ظهرت فيها اليابسة بالتدريج .
وقد استفتي شيخنا الأستاذ الإمام الشيخ
محمد عبده في هذه المسألة فأفتى بما ننقله هنا بنصه من ( ص 666 ) من الجزء الأول من تاريخه وهو
:
nindex.php?page=treesubj&link=31832فتوى الأستاذ الإمام في طوفان نوح :
جواب سؤال ورد على الأستاذ الإمام مفتي الديار المصرية من حضرة الأستاذ الشيخ
عبد الله القدومي خادم العلم الشريف بمدينة
نابلس ، وفيه نص السؤال :
وصلنا مكتوبكم المؤرخ في 4 شوال سنة 1317 هـ الذي أنهيتم به أنه ظهر قبلكم نشء جديد من الطلبة ديدنهم البحث في العلوم والرياضة ، والخوض في توهين الأدلة القرآنية ، وقد سمع من مقالتهم الآن : أن الطوفان لم يكن عاما لأنحاء الأرض ، بل هو خاص بالأرض التي كان بها
قوم نوح - عليه السلام - ، وأنه بقي ناس في أرض الصين لم يصبهم الغرق ، وأن دعاء
نوح - عليه السلام - بهلاك الكافرين لم يكن عاما بل هو خاص بكفار قومه ; لأنه لم يكن مرسلا إلا إلى قومه ، بدليل ما صح ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920514وكان كل نبي يبعث إلى قومه خاصة ، وبعثت إلى الناس كافة ) ) .
فإذا قيل لهم : إن الآيات الكريمة ناطقة بخلاف ذلك ، كقوله - تعالى - حكاية عن
نوح - عليه السلام - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26رب لا تذر على الأرض من الكافرين ديارا ) ( 71 : 26 ) وكقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=77وجعلنا ذريته هم الباقين ) ( 37 : 77 ) وقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=43لا عاصم اليوم من أمر الله إلا من رحم ) ( 11 : 43 ) قالوا : هي قابلة للتأويل ولا حجة فيها ، وإذا قيل لهم : إن جهابذة المحدثين أجابوا بأنه صح في أحاديث الشفاعة أن
نوحا - عليه السلام - أول رسول بعثه الله إلى أهل الأرض ، وأنه يتعين أن يكون قومه أهل الأرض ، ويكون عموم بعثته أمرا اتفاقيا لعدم وجود أحد غير قومه ، ولو وجد غيره لم يكن مرسلا إليهم - سخروا من المحدثين ،
[ ص: 90 ] واستندوا إلى حكايات منسوبة إلى
أهل الصين ، ورغبتم منا بذلك المكتوب كشف الغطاء عن سر هذا الحادث العظيم ، والإفادة بما يقتضيه الحق ، ويطمئن إليه القلب .
والجواب عن ذلك والحمد لله : أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع على عموم الطوفان ، ولا على عموم رسالة
نوح - عليه السلام - ، وما ورد من الأحاديث - على فرض صحة سنده - فهو آحاد لا يوجب اليقين ، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن ، إذ عد اعتقادها من عقائد الدين .
وأما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي ، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها ، ولا تتخذ دليلا قطعيا على معتقد ديني .
وأما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضوع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض ، وموضوع خلاف بين مؤرخي الأمم ، أما أهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية فعلى أن الطوفان كان عاما لكل الأرض ، ووافقهم على ذلك كثير من أهل النظر ، واحتجوا على رأيهم بوجود بعض الأصداف والأسماك المتحجرة في أعالي الجبال ; لأن هذه الأشياء مما لا تتكون إلا في البحر .
فظهورها في رءوس الجبال دليل على أن الماء صعد إليها مرة من المرات ، ولن يكون ذلك حتى يكون قد عم الأرض ، ويزعم غالب أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عاما ، ولهم على ذلك شواهد يطول شرحها - غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عاما لمجرد احتمال التأويل في آيات الكتاب العزيز ، بل على كل من يعتقد بالدين ألا ينفي شيئا مما يدل عليه ظاهر الآيات والأحاديث التي صح سندها وينصرف عنها إلى التأويل إلا بدليل عقلي يقطع بأن الظاهر غير المراد ، والوصول إلى ذلك في مثل هذه المسألة يحتاج إلى بحث طويل ، وعناء شديد ، وعلم غزير في طبقات الأرض وما تحتوي عليه ، وذلك يتوقف على علوم شتى عقلية ونقلية ، ومن هذى برأيه بدون علم يقيني فهو مجازف لا يسمع له قول ، ولا يسمح له ببث جهالاته ، والله سبحانه وتعالى أعلم ) ) اهـ .
( أقول ) : خلاصة هذه الفتوى أن ظواهر القرآن والأحاديث أن الطوفان كان عاما شاملا لقوم
نوح الذين لم يكن في الأرض غيرهم ، فيجب اعتقاده ، ولكنه لا يقتضي أن يكون عاما للأرض ; إذ لا دليل على أنهم كانوا يمثلون الأرض ، وكذلك وجود الأصداف والحيوانات البحرية في قلل الجبال لا يدل على أنها من أثر ذلك الطوفان ، بل الأقرب أنه كان من أثر تكون الجبال وغيرها من اليابسة في الماء كما قلنا آنفا ، فإن صعود الماء إلى الجبال
[ ص: 91 ] أياما معدودة لا يكفي لحدوث ما ذكر فيها ، وقد قلنا في العلاوة الثانية : إن هذه المسائل التاريخية ليست من مقاصد القرآن ، ولذلك لم يبينها بنص قطعي . فنحن نقول بما تقدم إنه ظاهر النصوص ، ولا نتخذه عقيدة دينية قطعية ، فإن أثبت علم الجيولوجية خلافه لا يضرنا ; لأنه لا ينقض نصا قطعيا عندنا .
الْعِلَاوَةُ الثَّالِثَةُ :
(
nindex.php?page=treesubj&link=31832هَلْ كَانَ الطُّوفَانُ عَامًّا أَمْ خَاصًّا ؟ )
نَصُّ التَّوْرَاةِ - أَوْ سِفْرِ التَّكْوِينِ - أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا مُهْلِكًا لِجَمِيعِ الْبَشَرِ إِلَّا ذُرِّيَّةَ
نُوحٍ مِنْ أَبْنَائِهِ الثَّلَاثَةِ :
سَامٍ وَحَامٍ وَيَافِثَ ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ ، بِحَسَبِ مَا سَبَقَ فِيهِ خَبَرُهُ مِنْ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ
وَآدَمَ وَذُرِّيَّتِهِ كَمَا تَقَدَّمَ .
وَاللَّهُ - تَعَالَى - يَقُولُ :
nindex.php?page=tafseer&surano=18&ayano=51مَا أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَلَا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ 18 : 51 أَمَّا قَوْلُهُ فِي
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بَعْدَ ذِكْرِ تَنْجِيَتِهِ وَأَهْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=77وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ 37 : 77 فَالْحَصْرُ فِيهِمْ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِضَافِيًّا ، أَيِ الْبَاقِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ قَوْمِهِ ، وَأَمَّا قَوْلُهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26وَقَالَ نُوحٌ رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( 71 : 26 ) فَلَيْسَ نَصًّا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِالْأَرْضِ هَذِهِ الْكُرَةُ كُلُّهَا ، فَإِنَّ الْمَعْرُوفَ فِي كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْأَقْوَامِ وَفِي أَخْبَارِهِمْ أَنْ تُذْكَرَ الْأَرْضُ وَيُرَادَ بِهَا أَرْضُهُمْ وَوَطَنُهُمْ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ خِطَابِ فِرْعَوْنَ
لِمُوسَى وَهَارُونَ : وَتَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِيَاءُ فِي الْأَرْضِ 10 : 78 يَعْنِي أَرْضَ
مِصْرَ ، وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=76وَإِنْ كَادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْهَا ) ( 17 : 76 ) فَالْمُرَادُ بِهَا
مَكَّةُ ، وَقَوْلُهُ :
[ ص: 89 ] nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=4وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ 17 : 4 وَالْمُرَادُ بِهَا الْأَرْضُ الَّتِي كَانَتْ وَطَنَهُمْ ، وَالشَّوَاهِدُ عَلَيْهِ كَثِيرَةٌ .
وَلَكِنْ ظَوَاهِرُ الْآيَاتِ تَدُلُّ - بِمَعُونَةِ الْقَرَائِنِ وَالتَّقَالِيدِ الْمَوْرُوثَةِ عَنْ
أَهْلِ الْكِتَابِ - عَلَى أَنَّهُ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا فِي زَمَنِ
نُوحٍ إِلَّا قَوْمُهُ ، وَأَنَّهُمْ هَلَكُوا كُلُّهُمْ بِالطُّوفَانِ وَلَمْ يَبْقَ بَعْدَهُ فِيهَا غَيْرُ ذُرِّيَّتِهِ ، وَهَذَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الطُّوفَانُ فِي الْبُقْعَةِ الَّتِي كَانُوا فِيهَا مِنَ الْأَرْضِ سَهْلِهَا وَجِبَالِهَا لَا فِي الْأَرْضِ كُلِّهَا ، إِلَّا إِذَا كَانَتِ الْيَابِسَةُ مِنْهَا فِي ذَلِكَ الزَّمَنِ صَغِيرَةً لِقُرْبِ الْعَهْدِ بِالتَّكْوِينِ وَبِوُجُودِ الْبَشَرِ عَلَيْهَا ، فَإِنَّ عُلَمَاءَ التَّكْوِينِ وَطَبَقَاتِ الْأَرْضِ ( الْجِيُولُوجِيَّةِ ) يَقُولُونَ : إِنَّ الْأَرْضَ كَانَتْ عِنْدَ انْفِصَالِهَا مِنَ الشَّمْسِ كُرَةً نَارِيَّةً مُلْتَهِبَةً ، ثُمَّ صَارَتْ كُرَةً مَائِيَّةً ، ثُمَّ ظَهَرَتْ فِيهَا الْيَابِسَةُ بِالتَّدْرِيجِ .
وَقَدِ اسْتُفْتِيَ شَيْخُنَا الْأُسْتَاذُ الْإِمَامُ الشَّيْخُ
مُحَمَّد عَبْده فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فَأَفْتَى بِمَا نَنْقُلُهُ هُنَا بِنَصِّهِ مِنْ ( ص 666 ) مِنَ الْجُزْءِ الْأَوَّلِ مِنْ تَارِيخِهِ وَهُوَ
:
nindex.php?page=treesubj&link=31832فَتْوَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ فِي طُوفَانِ نُوحٍ :
جَوَابُ سُؤَالٍ وَرَدَ عَلَى الْأُسْتَاذِ الْإِمَامِ مُفْتِي الدِّيَارِ الْمِصْرِيَّةِ مِنْ حَضْرَةِ الْأُسْتَاذِ الشَّيْخِ
عَبْدِ اللَّهِ الْقُدُومِيِّ خَادِمِ الْعِلْمِ الشَّرِيفِ بِمَدِينَةِ
نَابِلْسَ ، وَفِيهِ نَصُّ السُّؤَالِ :
وَصَلَنَا مَكْتُوبُكُمُ الْمُؤَرَّخُ فِي 4 شَوَّالٍ سَنَةَ 1317 هـ الَّذِي أَنْهَيْتُمْ بِهِ أَنَّهُ ظَهَرَ قِبَلَكُمْ نَشْءٌ جَدِيدٌ مِنَ الطَّلَبَةِ دَيْدَنُهُمُ الْبَحْثُ فِي الْعُلُومِ وَالرِّيَاضَةِ ، وَالْخَوْضُ فِي تَوْهِينِ الْأَدِلَّةِ الْقُرْآنِيَّةِ ، وَقَدْ سُمِعَ مِنْ مَقَالَتِهِمْ الْآنَ : أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا لِأَنْحَاءِ الْأَرْضِ ، بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِالْأَرْضِ الَّتِي كَانَ بِهَا
قَوْمُ نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَأَنَّهُ بَقِيَ نَاسٌ فِي أَرْضِ الصِّينِ لَمْ يُصِبْهُمُ الْغَرَقُ ، وَأَنَّ دُعَاءَ
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - بِهَلَاكِ الْكَافِرِينَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا بَلْ هُوَ خَاصٌّ بِكُفَّارِ قَوْمِهِ ; لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَّا إِلَى قَوْمِهِ ، بِدَلِيلِ مَا صَحَّ ( (
nindex.php?page=hadith&LINKID=920514وَكَانَ كُلُّ نَبِيٍّ يُبْعَثُ إِلَى قَوْمِهِ خَاصَّةً ، وَبُعِثْتُ إِلَى النَّاسِ كَافَّةً ) ) .
فَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : إِنَّ الْآيَاتِ الْكَرِيمَةَ نَاطِقَةٌ بِخِلَافِ ذَلِكَ ، كَقَوْلِهِ - تَعَالَى - حِكَايَةً عَنْ
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=71&ayano=26رَبِّ لَا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكَافِرِينَ دَيَّارًا ) ( 71 : 26 ) وَكَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=37&ayano=77وَجَعَلْنَا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْبَاقِينَ ) ( 37 : 77 ) وَقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=43لَا عَاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلَّا مَنْ رَحِمَ ) ( 11 : 43 ) قَالُوا : هِيَ قَابِلَةٌ لِلتَّأْوِيلِ وَلَا حُجَّةَ فِيهَا ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ : إِنَّ جَهَابِذَةَ الْمُحَدِّثِينَ أَجَابُوا بِأَنَّهُ صَحَّ فِي أَحَادِيثِ الشَّفَاعَةِ أَنَّ
نُوحًا - عَلَيْهِ السَّلَامُ - أَوَّلُ رَسُولٍ بَعَثَهُ اللَّهُ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ ، وَأَنَّهُ يَتَعَيَّنُ أَنْ يَكُونَ قَوْمُهُ أَهْلَ الْأَرْضِ ، وَيَكُونَ عُمُومُ بِعْثَتِهِ أَمْرًا اتِّفَاقِيًّا لِعَدَمِ وُجُودِ أَحَدٍ غَيْرَ قَوْمِهِ ، وَلَوْ وُجِدَ غَيْرُهُ لَمْ يَكُنْ مُرْسَلًا إِلَيْهِمْ - سَخِرُوا مِنَ الْمُحَدِّثِينَ ،
[ ص: 90 ] وَاسْتَنَدُوا إِلَى حِكَايَاتٍ مَنْسُوبَةٍ إِلَى
أَهْلِ الصِّينِ ، وَرَغِبْتُمْ مِنَّا بِذَلِكَ الْمَكْتُوبِ كَشْفَ الْغِطَاءِ عَنْ سِرِّ هَذَا الْحَادِثِ الْعَظِيمِ ، وَالْإِفَادَةَ بِمَا يَقْتَضِيهِ الْحَقُّ ، وَيَطْمَئِنُّ إِلَيْهِ الْقَلْبُ .
وَالْجَوَابُ عَنْ ذَلِكَ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ : أَمَّا الْقُرْآنُ الْكَرِيمُ فَلَمْ يَرِدْ فِيهِ نَصٌّ قَاطِعٌ عَلَى عُمُومِ الطُّوفَانِ ، وَلَا عَلَى عُمُومِ رِسَالَةِ
نُوحٍ - عَلَيْهِ السَّلَامُ - ، وَمَا وَرَدَ مِنَ الْأَحَادِيثِ - عَلَى فَرْضِ صِحَّةِ سَنَدِهِ - فَهُوَ آحَادٌ لَا يُوجِبُ الْيَقِينَ ، وَالْمَطْلُوبُ فِي تَقْرِيرِ مِثْلِ هَذِهِ الْحَقَائِقِ هُوَ الْيَقِينُ لَا الظَّنُّ ، إِذْ عُدَّ اعْتِقَادُهَا مِنْ عَقَائِدِ الدِّينَ .
وَأَمَّا الْمُؤَرِّخُ وَمُرِيدُ الِاطِّلَاعِ فَلَهُ أَنْ يَحْصُلَ مِنَ الظَّنِّ مَا تُرَجِّحُهُ عِنْدَهُ ثِقَتُهُ بِالرَّاوِي أَوِ الْمُؤَرِّخِ أَوْ صَاحِبِ الرَّأْيِ ، وَمَا يَذْكُرُهُ الْمُؤَرِّخُونَ وَالْمُفَسِّرُونَ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لَا يُخْرِجُ عَنْ حَدِّ الثِّقَةِ بِالرِّوَايَةِ أَوْ عَدَمِ الثِّقَةِ بِهَا ، وَلَا تُتَّخَذُ دَلِيلًا قَطْعِيًّا عَلَى مُعْتَقَدٍ دِينِيٍّ .
وَأَمَّا مَسْأَلَةُ عُمُومِ الطُّوفَانِ فِي نَفْسِهَا فَهِيَ مَوْضُوعُ نِزَاعٍ بَيْنَ أَهْلِ الْأَدْيَانِ وَأَهْلِ النَّظَرِ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ ، وَمَوْضُوعُ خِلَافٍ بَيْنِ مُؤَرِّخِي الْأُمَمِ ، أَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ وَعُلَمَاءُ الْأُمَّةِ الْإِسْلَامِيَّةِ فَعَلَى أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِكُلِّ الْأَرْضِ ، وَوَافَقَهُمْ عَلَى ذَلِكَ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ النَّظَرِ ، وَاحْتَجُّوا عَلَى رَأْيِهِمْ بِوُجُودِ بَعْضِ الْأَصْدَافِ وَالْأَسْمَاكِ الْمُتَحَجِّرَةِ فِي أَعَالِي الْجِبَالِ ; لِأَنَّ هَذِهِ الْأَشْيَاءَ مِمَّا لَا تَتَكَوَّنُ إِلَّا فِي الْبَحْرِ .
فَظُهُورُهَا فِي رُءُوسِ الْجِبَالِ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ الْمَاءَ صَعِدَ إِلَيْهَا مَرَّةً مِنَ الْمَرَّاتِ ، وَلَنْ يَكُونَ ذَلِكَ حَتَّى يَكُونَ قَدْ عَمَّ الْأَرْضَ ، وَيَزْعُمُ غَالِبُ أَهْلِ النَّظَرِ مِنَ الْمُتَأَخِّرِينَ أَنَّ الطُّوفَانَ لَمْ يَكُنْ عَامًّا ، وَلَهُمْ عَلَى ذَلِكَ شَوَاهِدُ يَطُولُ شَرْحُهَا - غَيْرَ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ لِشَخْصٍ مُسْلِمٍ أَنْ يُنْكِرَ قَضِيَّةَ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا لِمُجَرَّدِ احْتِمَالِ التَّأْوِيلِ فِي آيَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ ، بَلْ عَلَى كُلِّ مَنْ يَعْتَقِدُ بِالدِّينِ أَلَّا يَنْفِيَ شَيْئًا مِمَّا يَدُلُّ عَلَيْهِ ظَاهِرُ الْآيَاتِ وَالْأَحَادِيثِ الَّتِي صَحَّ سَنَدُهَا وَيَنْصَرِفُ عَنْهَا إِلَى التَّأْوِيلِ إِلَّا بِدَلِيلٍ عَقْلِيٍّ يَقْطَعُ بِأَنَّ الظَّاهِرَ غَيْرُ الْمُرَادِ ، وَالْوُصُولُ إِلَى ذَلِكَ فِي مِثْلِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ يَحْتَاجُ إِلَى بَحْثٍ طَوِيلٍ ، وَعَنَاءٍ شَدِيدٍ ، وَعِلْمٍ غَزِيرٍ فِي طَبَقَاتِ الْأَرْضِ وَمَا تَحْتَوِي عَلَيْهِ ، وَذَلِكَ يَتَوَقَّفُ عَلَى عُلُومٍ شَتَّى عَقْلِيَّةٍ وَنَقْلِيَّةٍ ، وَمَنْ هَذَى بِرَأْيِهِ بِدُونِ عِلْمٍ يَقِينِيٍّ فَهُوَ مُجَازِفٌ لَا يُسْمَعُ لَهُ قَوْلٌ ، وَلَا يُسْمَحُ لَهُ بِبَثِّ جَهَالَاتِهِ ، وَاللَّهُ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى أَعْلَمُ ) ) اهـ .
( أَقُولُ ) : خُلَاصَةُ هَذِهِ الْفَتْوَى أَنَّ ظَوَاهِرَ الْقُرْآنِ وَالْأَحَادِيثِ أَنَّ الطُّوفَانَ كَانَ عَامًّا شَامِلًا لِقَوْمِ
نُوحٍ الَّذِينَ لَمْ يَكُنْ فِي الْأَرْضِ غَيْرُهُمْ ، فَيَجِبُ اعْتِقَادُهُ ، وَلَكِنَّهُ لَا يَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ عَامًّا لِلْأَرْضِ ; إِذْ لَا دَلِيلَ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا يُمَثِّلُونَ الْأَرْضَ ، وَكَذَلِكَ وُجُودُ الْأَصْدَافِ وَالْحَيَوَانَاتِ الْبَحْرِيَّةِ فِي قُلَلِ الْجِبَالِ لَا يَدُلُّ عَلَى أَنَّهَا مِنْ أَثَرِ ذَلِكَ الطُّوفَانِ ، بَلِ الْأَقْرَبُ أَنَّهُ كَانَ مِنْ أَثَرِ تَكَوُّنِ الْجِبَالِ وَغَيْرِهَا مِنَ الْيَابِسَةِ فِي الْمَاءِ كَمَا قُلْنَا آنِفًا ، فَإِنَّ صُعُودَ الْمَاءِ إِلَى الْجِبَالِ
[ ص: 91 ] أَيَّامًا مَعْدُودَةً لَا يَكْفِي لِحُدُوثِ مَا ذُكِرَ فِيهَا ، وَقَدْ قُلْنَا فِي الْعِلَاوَةِ الثَّانِيَةِ : إِنَّ هَذِهِ الْمَسَائِلَ التَّارِيخِيَّةَ لَيْسَتْ مِنْ مَقَاصِدِ الْقُرْآنِ ، وَلِذَلِكَ لَمْ يُبَيِّنْهَا بِنَصٍّ قَطْعِيٍّ . فَنَحْنُ نَقُولُ بِمَا تَقَدَّمَ إِنَّهُ ظَاهِرُ النُّصُوصِ ، وَلَا نَتَّخِذُهُ عَقِيدَةً دِينِيَّةً قَطْعِيَّةً ، فَإِنْ أَثْبَتَ عِلْمُ الْجِيُولُوجِيَّةِ خِلَافَهُ لَا يَضُرُّنَا ; لِأَنَّهُ لَا يَنْقُضُ نَصًّا قَطْعِيًّا عِنْدَنَا .