nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض إلا قليلا ممن أنجينا منهم واتبع الذين ظلموا ما أترفوا فيه وكانوا مجرمين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=117وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولو شاء ربك لجعل الناس أمة واحدة ولا يزالون مختلفين nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إلا من رحم ربك ولذلك خلقهم وتمت كلمة ربك لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين .
هذه الآيات الأربع في بيان سنن الله العامة في إهلاك أولئك الأقوام الذين قص على رسوله قصصهم وأمثالهم ، جاءت بعد ما تقدم من بيان عاقبتهم في الدنيا والآخرة وإنذار قومه - صلى الله عليه وسلم - بهم ، ما يجب عليه وعلى من آمن وتاب معه من الاستقامة والصلاح ، واجتناب أهل الظلم والفساد ، قال : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116nindex.php?page=treesubj&link=28982_24661فلولا كان من القرون من قبلكم أولو بقية ينهون عن الفساد في الأرض - " لولا " تحضيضية بمعنى : هلا ، والقرون : الأمم والأقوام ، والقرن في اللغة كما في المصباح : " الجيل من الناس . قيل : ثمانون سنة ، وقيل : سبعون " أقول : ثم اشتهر تقديره بمائة سنة . والبقية من الشيء ما يبقى منه بعد ذهاب أكثره ، ومن الناس كذلك ، واستعمل في الخيار والأصلح والأنفع ، قيل : لأن الناس ينفقون في العادة أردأ ما عندهم وأقربه
[ ص: 158 ] إلى التلف والفساد أولا ويستبقون الأجود فالأجود ، ونقول : لأن الأحياء يهلك منهم الأضعف فالأضعف أولا ويبقى الأقوى فالأقوى ، ومن هذا ما يعرف في علم الاجتماع بسنة الانتخاب الطبيعي ، وهو إفضاء تنازع الأحياء إلى بقاء الأمثل والأصلح ، كما ورد في المثل الذي ضربه الله للحق والباطل بقوله - تعالى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فأما الزبد فيذهب جفاء وأما ما ينفع الناس فيمكث في الأرض - 13 : 17 ومن ثم يعبرون عن الخيار بالبقية ، يقولون : في الزوايا خبايا ، وفي الناس بقايا ، وبهذا فسرت الآية .
والمعنى : فهلا كان - أي وجد - من أولئك الأقوام الذين أهلكناهم بظلمهم وفسادهم في الأرض ، جماعة أصحاب بقية من النهي والرأي والصلاح ينهونهم عن الفساد في الأرض ، وهو الظلم واتباع الهوى والشهوات التي تفسد عليهم أنفسهم ومصالحهم ، فيحول نهيهم إياهم دون هلاكهم ، فإن من سنتنا ألا نهلك قوما إلا إذا عم الفساد والظلم أكثرهم ، كما يأتي في الآية التالية : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116إلا قليلا ممن أنجينا منهم - أي لم يكن فيهم بقية من هؤلاء العقلاء الأخيار ، الناهين عن المنكر ، الآمرين بالمعروف ، ولكن كان هنالك قليل من الذين أنجيناهم ، أو هم الذين أنجيناهم مع الرسل منهم ، وكانوا منبوذين لا يقبل نهيهم وأمرهم ، مهددين مع رسلهم بالطرد والإبعاد ، بعد الأذى والاضطهاد -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116واتبع الذين ظلموا - وهم الأكثرون منهم - ما أترفوا فيه - أي : ما رزقناهم وآتيناهم من أسباب الترف والنعيم فبطروا .
يقال : أترفته النعمة أي أبطرته وأفسدته ، والبطر : الطغيان في المرح وخفة النشاط والفرح - وكانوا مجرمين - أي : متلبسين بالإجرام الذي ولده الترف راسخين فيه ، فكان هو المسخر لعقولهم في ترجيح ما أعطوا من ذلك على اتباع الرسل .
روى
ابن مردويه في تفسيره
عن nindex.php?page=showalam&ids=34أبي بن كعب قال : أقرأني رسول الله - صلى الله عليه وسلم - " أولو بقية وأحلام " والأشبه عندي أنه - صلى الله عليه وسلم - ذكر الأحلام تفسيرا لا قرآنا . والمعنى : أن العقول السليمة الرشيدة كافية لفهم ما في دعوة الرسل عليهم السلام من الخير والصلاح ، لو لم يمنع من استعمال هدايتها الافتتان بالترف ، والتفنن في أنواعه ، بدلا من القصد والاعتدال فيه وشكر الله المنعم به عليه ، فالإتراف هو الباعث على الإسراف والفسوق والعصيان ، والظلم والإجرام يظهر في الكبراء والرؤساء ، ويسري بالتقليد في الدهماء ، فيكون سبب الهلاك باستئصال ، أو فقد الاستقلال ، وذلك قوله - تعالى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا - 17 :16 .
[ ص: 159 ] فهذا بيان لسنته - تعالى - في الأمم قديمها وحديثها ، ولا تغني عن شعوب
الإفرنج معرفتهم بهذه السنة ومحاولة اتقائها لها ، فحكماؤهم وهم أولو البقية والأحلام الذين ينهونهم عن الفساد في الأرض ، يصرحون بأنهم سيهلكون كما هلك من قبلهم ، ولن تغني عنهم قوتهم ، بل تكون هي المهلكة لهم بأيديهم ، كما قال - تعالى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=65قل هو القادر على أن يبعث عليكم عذابا من فوقكم أو من تحت أرجلكم أو يلبسكم شيعا ويذيق بعضكم بأس بعض - 6 : 65 فراجع تفسيرها .
ومن عجائب الجهل والغي ، أن
nindex.php?page=treesubj&link=31949_32001متبعي الإتراف من شعوبنا يقلدون الإفرنج في الإسراف فيه دون ما به يرجو
الإفرنج اتقاء الهلاك من فساده ، وهو القوة الحربية وفنون الصناعة ، فإذا كان فسق الإتراف يهلك الأمم القوية ، فكيف تبقى مع اتباعه وفساده الأمم الضعيفة ؟ وكيف يزول والمتبعون له هم الملوك والأمراء ، والزعماء والحكام ، والكتاب والخطباء ، وهم الأكثرون الظاهرون ، والناهون عن فسادهم الأقلون الخاملون ؟ ثم بين سنته - تعالى - في إهلاك الأمم وما يحول دونه بقوله :
nindex.php?page=treesubj&link=28982
- nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=117وما كان ربك ليهلك القرى بظلم وأهلها مصلحون - أي وما كان من شأن ربك وسنته في الاجتماع البشري أن يهلك الأمم بظلم منه لها في حال كون أهلها مصلحين في الأرض . مجتنبين للفساد والظلم ، وإنما أهلكهم ويهلكهم بظلمهم وإفسادهم فيها ، كما ترى في الآيات العديدة من هذه السورة وغيرها .
وفي الآية وجه آخر ، وهو أنه ليس من سنته - تعالى - أن - يهلك القرى بظلم - يقع فيها - مع تفسير الظلم والشرك - -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=117وأهلها مصلحون - في أعمالهم الاجتماعية والعمرانية ، وأحكامهم المدنية والتأديبية ، فلا يبخسون الحقوق
كقوم شعيب ، ولا يرتكبون الفواحش ويقطعون السبيل ويأتون في ناديهم المنكر
كقوم لوط ، ولا يبطشون بالناس بطش الجبارين
كقوم هود ، ولا يذلون لمتكبر جبار يستعبد الضعفاء ،
كقوم فرعون - بل لابد أن يضموا إلى الشرك الإفساد في الأعمال والأحكام ، وهو الظلم المدمر للعمران ، ويحتمل أن يراد أنه لا يهلكها بظلم قليل من أهلها لأنفسهم ، إذا كان الجمهور الأكبر منهم مصلحين في حل أعمالهم ومعاملاتهم للناس ، أخرج
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطبراني وأبو الشيخ وابن مردويه والديلمي عن
nindex.php?page=showalam&ids=97جرير بن عبد الله قال : سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يسأل عن تفسير هذه الآية فقال : " وأهلها ينصف بعضهم بعضا ، وروي موقوفا على
جرير - رضي الله عنه - فتنكير الظلم في هذا للتقليل والتحقير ، وفيما قبله للتعظيم ، وهو مأخوذ من قوله - تعالى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13إن الشرك لظلم عظيم - 31 : 13 والآية تدل على أن إهلاك المصلحين ظلم فلذلك يتنزه الله عنه .
[ ص: 160 ] وذكر المفسرون في الوجه الثاني القول المشهور المعبر عن تجارب الناس ، وهو أن
nindex.php?page=treesubj&link=25987الأمم تبقى مع الكفر ، ولا تبقى مع الظلم ، والأوجه الثلاثة في الآية صحيحة ، ويجوز إرادتها كلها على القول بأن جميع ما يدل عليه الكلام مما شأن صاحبه أن يعلمه ولا يكون متعارضا في نفسه يصح أن يكون مرادا له ، وإن كان من المشترك أو كان بعضه حقيقة وبعضه مجازا ، ومن أركان بلاغة القرآن جمع المعاني الكثيرة في اللفظ القليل ، وأن يكون بعضها واضحا في هذه المعاني وبعضها خفيا يراد به أن يذهب الذهن والفكر فيه كل مذهب ، وهذا مما يتنافس فيه البلغاء .
-
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولو شاء ربك - أيها الرسول الحريص على إيمان قومه ، الآسف على إعراض أكثرهم عن إجابة دعوته ، واتباع هدايته -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118لجعل الناس أمة واحدة - على دين واحد بمقتضى الغريزة والفطرة لا رأي لهم فيه ولا اختيار ، وإذن لما كانوا هم هذا النوع من الخلق المسمى بالبشر وبنوع الإنسان ، بل لكانوا في حياتهم الاجتماعية كالنحل أو النمل ، وفي حياتهم الروحية كالملائكة مفطورين على اعتقاد الحق وطاعة الله - عز وجل - فلا يقع بينهم اختلاف ، ولكنه خلقهم بمقتضى حكمته كاسبين للعلم لا ملهمين ، وعاملين بالاختيار وترجيح بعض الممكنات المتعارضة على بعض ، لا مجبورين ولا مضطرين ، وجعلهم متفاوتين في الاستعداد وكسب العلم واختلاف الاختيار ، وقد كانوا في طور الطفولة النوعية في الحياة الفردية والزوجية والاجتماع البدوي الساذج أمة واحدة لا مثار للاختلاف بينهم ، ثم كثروا ودخلوا في طور الحياة الاجتماعية فظهر استعدادهم للاختلاف والتنازع فاختلفوا ، كما قال - تعالى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=19وما كان الناس إلا أمة واحدة فاختلفوا - 10 : 19 في كل شيء بالتبع لاختلاف الاستعداد -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118ولا يزالون مختلفين - في كل شيء حتى الدين الذي شرعه الله لتكميل فطرتهم وإزالة الاختلاف بينهم -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إلا من رحم ربك - منهم فاتفقوا على حكم كتاب الله فيهم ، وهو القطعي الدلالة منه الذي لا مجال للاختلاف فيه ، وعليه مدار جمع الكلمة ووحدة الأمة ، إذ الظني لا يكلفون الاتفاق على معناه ; لأنه موكول إلى الاجتهاد الذي لا يجب العمل به إلا على من ثبت عنده رجحانه ، وتقدم تفصيل وحدة البشر فاختلافهم فبعثة النبيين وإنزال الكتاب معهم للحكم بين الناس في الآية ( 2 : 213 ) وتفسيرها في الجزء الثاني من هذا التفسير ، -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119ولذلك خلقهم - أي ولذلك الذي دل عليه الكلام من مشيئته - تعالى - فيهم ، خلقهم مستعدين للاختلاف والتفرق في علومهم ومعارفهم وآرائهم وشعورهم ، وما يتبع ذلك من إرادتهم واختيارهم في أعمالهم ، ومن ذلك الدين والإيمان والطاعة والعصيان ، وحكمته أن يكونوا مظهرا لأسرار خلقه المادية والمعنوية في الأجسام والأرواح وسننه في الأحياء ، وتعلق قدرته
[ ص: 161 ] ومشيئته بخلق جميع الممكنات ، وبهذا كانوا خلفاء الأرض -
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31وعلم آدم الأسماء كلها - 2 : 31 وقال
الحسن وعطاء : خلقهم للاختلاف . وقال
مجاهد وعكرمة : خلقهم للرحمة .
وقال
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس : خلقهم فريقين : فريقا يرحم فلا يختلف ، وفريقا لا يرحم فيختلف ، فذلك قوله : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=105فمنهم شقي وسعيد - 105 وهذا أصح مما قبله لأنه جامع للقولين ، وفي معناه قول
nindex.php?page=showalam&ids=16867مالك بن أنس وقد سأله
أشهب عن الآية فقال : خلقهم ليكون فريق في الجنة وفريق في السعير . انتهى . أي كان الاختلاف سبب دخول كل من الدارين ، وفي الرواية عن
nindex.php?page=showalam&ids=11ابن عباس تقديم المعلول على العلة ، والمعقول المشروع عكسه ، فالترتيب في الجزاء أن يقال : فريق اتفقوا في الدين فجعلوا كتاب الله حكما بينهم فيما اختلفوا فيه ، فاجتمعت كلمتهم وكانوا أمة واحدة فرحمهم الله بوقايتهم من شر الاختلاف وغوائله في الدنيا ومن عذاب الآخرة ، وفريق اختلفوا فيه كما اختلفوا في مصالح الدنيا ومنافعها وسلطانها ، فكان بأسهم بينهم شديدا ، فذاقوا عقاب الاختلاف والشقاق في الدنيا ، وأعقبهم جزاءه في الآخرة فكانوا محرومين من رحمته بظلمهم لأنفسهم لا بظلم منه لهم : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119وتمت كلمة ربك - التي قالها في غير المهتدين -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119nindex.php?page=treesubj&link=28982_30437لأملأن جهنم من الجنة والناس أجمعين - أي من عالمي : الإنس والجن الذين لا يهتدون بما أرسل به رسله وأنزل معهم كتبه لهداية المكلفين والحكم بين المختلفين ، ففي سورة الم السجدة : -
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13ولو شئنا لآتينا كل نفس هداها ولكن حق القول مني لأملأن جهنم - 32 : 13 الآية ، فهذا فريق السعير ، ومنه يعلم جزاء الفريق الآخر ، والمقام يقتضي الإنذار .
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَا أُتْرِفُوا فِيهِ وَكَانُوا مُجْرِمِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=117وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ .
هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي بَيَانِ سُنَنِ اللَّهِ الْعَامَّةِ فِي إِهْلَاكِ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ قَصَّ عَلَى رَسُولِهِ قِصَصَهُمْ وَأَمْثَالَهُمْ ، جَاءَتْ بَعْدَ مَا تَقَدَّمَ مِنْ بَيَانِ عَاقِبَتِهِمْ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَإِنْذَارِ قَوْمِهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِهِمْ ، مَا يَجِبُ عَلَيْهِ وَعَلَى مَنْ آمَنَ وَتَابَ مَعَهُ مِنَ الِاسْتِقَامَةِ وَالصَّلَاحِ ، وَاجْتِنَابِ أَهْلِ الظُّلْمِ وَالْفَسَادِ ، قَالَ : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116nindex.php?page=treesubj&link=28982_24661فَلَوْلَا كَانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُو بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ - " لَوْلَا " تَحْضِيضِيَّةٌ بِمَعْنَى : هَلَّا ، وَالْقُرُونُ : الْأُمَمُ وَالْأَقْوَامُ ، وَالْقَرْنُ فِي اللُّغَةِ كَمَا فِي الْمِصْبَاحِ : " الْجِيلُ مِنَ النَّاسِ . قِيلَ : ثَمَانُونَ سَنَةً ، وَقِيلَ : سَبْعُونَ " أَقُولُ : ثُمَّ اشْتُهِرَ تَقْدِيرُهُ بِمِائَةِ سَنَةٍ . وَالْبَقِيَّةُ مِنَ الشَّيْءِ مَا يَبْقَى مِنْهُ بَعْدَ ذَهَابِ أَكْثَرِهِ ، وَمِنَ النَّاسِ كَذَلِكَ ، وَاسْتُعْمِلَ فِي الْخِيَارِ وَالْأَصْلَحِ وَالْأَنْفَعِ ، قِيلَ : لِأَنَّ النَّاسَ يُنْفِقُونَ فِي الْعَادَةِ أَرْدَأَ مَا عِنْدَهُمْ وَأَقْرَبَهُ
[ ص: 158 ] إِلَى التَّلَفِ وَالْفَسَادِ أَوَّلًا وَيَسْتَبْقُونَ الْأَجْوَدَ فَالْأَجْوَدَ ، وَنَقُولُ : لِأَنَّ الْأَحْيَاءَ يَهْلِكُ مِنْهُمْ الْأَضْعَفُ فَالْأَضْعَفُ أَوَّلًا وَيَبْقَى الْأَقْوَى فَالْأَقْوَى ، وَمِنْ هَذَا مَا يُعْرَفُ فِي عِلْمِ الِاجْتِمَاعِ بِسُنَّةِ الِانْتِخَابِ الطَّبِيعِيِّ ، وَهُوَ إِفْضَاءُ تَنَازُعِ الْأَحْيَاءِ إِلَى بَقَاءِ الْأَمْثَلِ وَالْأَصْلَحِ ، كَمَا وَرَدَ فِي الْمَثَلِ الَّذِي ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْحَقِّ وَالْبَاطِلِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=13&ayano=17فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفَاءً وَأَمَّا مَا يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ - 13 : 17 وَمِنْ ثَمَّ يُعَبِّرُونَ عَنِ الْخِيَارِ بِالْبَقِيَّةِ ، يَقُولُونَ : فِي الزَّوَايَا خَبَايَا ، وَفِي النَّاسِ بَقَايَا ، وَبِهَذَا فُسِّرَتِ الْآيَةُ .
وَالْمَعْنَى : فَهَلَّا كَانَ - أَيْ وُجِدَ - مِنْ أُولَئِكَ الْأَقْوَامِ الَّذِينَ أَهْلَكْنَاهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَفَسَادِهِمْ فِي الْأَرْضِ ، جَمَاعَةٌ أَصْحَابُ بَقِيَّةٍ مِنَ النَّهْيِ وَالرَّأْيِ وَالصَّلَاحِ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، وَهُوَ الظُّلْمُ وَاتِّبَاعُ الْهَوَى وَالشَّهَوَاتِ الَّتِي تُفْسِدُ عَلَيْهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَمَصَالِحَهُمْ ، فَيَحُولُ نَهْيُهُمْ إِيَّاهُمْ دُونَ هَلَاكِهِمْ ، فَإِنَّ مِنْ سُنَّتِنَا أَلَّا نُهْلِكَ قَوْمًا إِلَّا إِذَا عَمَّ الْفَسَادُ وَالظُّلْمُ أَكْثَرَهُمْ ، كَمَا يَأْتِي فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنَا مِنْهُمْ - أَيْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ بَقِيَّةٌ مِنْ هَؤُلَاءِ الْعُقَلَاءِ الْأَخْيَارِ ، النَّاهِينَ عَنِ الْمُنْكَرِ ، الْآمِرِينَ بِالْمَعْرُوفِ ، وَلَكِنْ كَانَ هُنَالِكَ قَلِيلٌ مِنَ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ ، أَوْ هُمُ الَّذِينَ أَنْجَيْنَاهُمْ مَعَ الرُّسُلِ مِنْهُمْ ، وَكَانُوا مَنْبُوذِينَ لَا يُقْبَلُ نَهْيُهُمْ وَأَمْرُهُمْ ، مُهَدَّدِينَ مَعَ رُسُلِهِمْ بِالطَّرْدِ وَالْإِبْعَادِ ، بَعْدَ الْأَذَى وَالِاضْطِهَادِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=116وَاتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا - وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ مِنْهُمْ - مَا أُتْرِفُوا فِيهِ - أَيْ : مَا رَزَقْنَاهُمْ وَآتَيْنَاهُمْ مِنْ أَسْبَابِ التَّرَفِ وَالنَّعِيمِ فَبَطَرُوا .
يُقَالُ : أَتْرَفَتْهُ النِّعْمَةُ أَيْ أَبْطَرَتْهُ وَأَفْسَدَتْهُ ، وَالْبَطَرُ : الطُّغْيَانُ فِي الْمَرَحِ وَخِفَّةِ النَّشَاطِ وَالْفَرَحِ - وَكَانُوا مُجْرِمِينَ - أَيْ : مُتَلَبِّسِينَ بِالْإِجْرَامِ الَّذِي وَلَّدَهُ التَّرَفُ رَاسِخِينَ فِيهِ ، فَكَانَ هُوَ الْمُسَخَّرُ لِعُقُولِهِمْ فِي تَرْجِيحِ مَا أَعْطَوْا مِنْ ذَلِكَ عَلَى اتِّبَاعِ الرُّسُلِ .
رَوَى
ابْنُ مَرْدَوَيْهِ فِي تَفْسِيرِهِ
عَنْ nindex.php?page=showalam&ids=34أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ قَالَ : أَقْرَأَنِي رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - " أُولُو بَقِيَّةٍ وَأَحْلَامٍ " وَالْأَشْبَهُ عِنْدِي أَنَّهُ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - ذَكَرَ الْأَحْلَامَ تَفْسِيرًا لَا قُرْآنًا . وَالْمَعْنَى : أَنَّ الْعُقُولَ السَّلِيمَةَ الرَّشِيدَةَ كَافِيَةٌ لِفَهْمِ مَا فِي دَعْوَةِ الرُّسُلِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ مِنَ الْخَيْرِ وَالصَّلَاحِ ، لَوْ لَمْ يَمْنَعْ مِنِ اسْتِعْمَالِ هِدَايَتِهَا الِافْتِتَانُ بِالتَّرَفِ ، وَالتَّفَنُّنُ فِي أَنْوَاعِهِ ، بَدَلًا مِنَ الْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ فِيهِ وَشُكْرِ اللَّهِ الْمُنْعِمِ بِهِ عَلَيْهِ ، فَالْإِتْرَافُ هُوَ الْبَاعِثُ عَلَى الْإِسْرَافِ وَالْفُسُوقِ وَالْعِصْيَانِ ، وَالظُّلْمُ وَالْإِجْرَامُ يَظْهَرُ فِي الْكُبَرَاءِ وَالرُّؤَسَاءِ ، وَيَسْرِي بِالتَّقْلِيدِ فِي الدَّهْمَاءِ ، فَيَكُونُ سَبَبَ الْهَلَاكِ بِاسْتِئْصَالٍ ، أَوْ فَقْدِ الِاسْتِقْلَالِ ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ - تَعَالَى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=17&ayano=16وَإِذَا أَرَدْنَا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنَا مُتْرَفِيهَا فَفَسَقُوا فِيهَا فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْنَاهَا تَدْمِيرًا - 17 :16 .
[ ص: 159 ] فَهَذَا بَيَانٌ لِسُنَّتِهِ - تَعَالَى - فِي الْأُمَمِ قَدِيمِهَا وَحَدِيثِهَا ، وَلَا تُغْنِي عَنْ شُعُوبِ
الْإِفْرِنْجِ مَعْرِفَتُهُمْ بِهَذِهِ السُّنَّةِ وَمُحَاوَلَةِ اتِّقَائِهَا لَهَا ، فَحُكَمَاؤُهُمْ وَهُمْ أُولُو الْبَقِيَّةِ وَالْأَحْلَامِ الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ عَنِ الْفَسَادِ فِي الْأَرْضِ ، يُصَرِّحُونَ بِأَنَّهُمْ سَيَهْلِكُونَ كَمَا هَلَكَ مَنْ قَبْلَهُمْ ، وَلَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ قُوَّتُهُمْ ، بَلْ تَكُونُ هِيَ الْمُهْلِكَةُ لَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=6&ayano=65قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ - 6 : 65 فَرَاجِعْ تَفْسِيرَهَا .
وَمِنْ عَجَائِبِ الْجَهْلِ وَالْغَيِّ ، أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=31949_32001مُتَّبِعِي الْإِتْرَافِ مِنْ شُعُوبِنَا يُقَلِّدُونَ الْإِفْرِنْجَ فِي الْإِسْرَافِ فِيهِ دُونَ مَا بِهِ يَرْجُو
الْإِفْرِنْجُ اتِّقَاءَ الْهَلَاكِ مِنْ فَسَادِهِ ، وَهُوَ الْقُوَّةُ الْحَرْبِيَّةُ وَفُنُونُ الصِّنَاعَةِ ، فَإِذَا كَانَ فِسْقُ الْإِتْرَافِ يُهْلِكُ الْأُمَمَ الْقَوِيَّةَ ، فَكَيْفَ تَبْقَى مَعَ اتِّبَاعِهِ وَفَسَادِهِ الْأُمَمُ الضَّعِيفَةُ ؟ وَكَيْفَ يَزُولُ وَالْمُتَّبِعُونَ لَهُ هُمْ الْمُلُوكُ وَالْأُمَرَاءُ ، وَالزُّعَمَاءُ وَالْحُكَّامُ ، وَالْكُتَّابُ وَالْخُطَبَاءُ ، وَهُمُ الْأَكْثَرُونَ الظَّاهِرُونَ ، وَالنَّاهُونَ عَنْ فَسَادِهِمُ الْأَقَلُّونَ الْخَامِلُونَ ؟ ثُمَّ بَيَّنَ سُنَّتَهُ - تَعَالَى - فِي إِهْلَاكِ الْأُمَمِ وَمَا يَحُولُ دُونَهُ بِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=treesubj&link=28982
- nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=117وَمَا كَانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - أَيْ وَمَا كَانَ مِنْ شَأْنِ رَبِّكَ وَسُنَّتِهِ فِي الِاجْتِمَاعِ الْبَشَرِيِّ أَنْ يُهْلِكَ الْأُمَمَ بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهَا فِي حَالِ كَوْنِ أَهْلِهَا مُصْلِحِينَ فِي الْأَرْضِ . مُجْتَنِبِينَ لِلْفَسَادِ وَالظُّلْمِ ، وَإِنَّمَا أَهْلَكَهُمْ وَيُهْلِكُهُمْ بِظُلْمِهِمْ وَإِفْسَادِهِمْ فِيهَا ، كَمَا تَرَى فِي الْآيَاتِ الْعَدِيدَةِ مِنْ هَذِهِ السُّورَةِ وَغَيْرِهَا .
وَفِي الْآيَةِ وَجْهٌ آخَرُ ، وَهُوَ أَنَّهُ لَيْسَ مِنْ سُنَّتِهِ - تَعَالَى - أَنْ - يُهْلِكَ الْقُرَى بِظُلْمٍ - يَقَعُ فِيهَا - مَعَ تَفْسِيرِ الظُّلْمِ وَالشِّرْكِ - -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=117وَأَهْلُهَا مُصْلِحُونَ - فِي أَعْمَالِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ وَالْعُمْرَانِيَّةِ ، وَأَحْكَامِهِمُ الْمَدَنِيَّةِ وَالتَّأْدِيبِيَّةِ ، فَلَا يَبْخَسُونَ الْحُقُوقَ
كَقَوْمِ شُعَيْبٍ ، وَلَا يَرْتَكِبُونَ الْفَوَاحِشَ وَيَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَيَأْتُونَ فِي نَادِيهِمُ الْمُنْكَرَ
كَقَوْمِ لُوطٍ ، وَلَا يَبْطِشُونَ بِالنَّاسِ بَطْشَ الْجَبَّارِينَ
كَقَوْمِ هُودٍ ، وَلَا يُذَلُّونَ لِمُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ يَسْتَعْبِدُ الضُّعَفَاءَ ،
كَقَوْمِ فِرْعَوْنَ - بَلْ لَابُدَّ أَنْ يَضُمُّوا إِلَى الشِّرْكِ الْإِفْسَادَ فِي الْأَعْمَالِ وَالْأَحْكَامِ ، وَهُوَ الظُّلْمُ الْمُدَمِّرُ لِلْعُمْرَانِ ، وَيُحْتَمَلُ أَنْ يُرَادَ أَنَّهُ لَا يُهْلِكُهَا بِظُلْمٍ قَلِيلٍ مِنْ أَهْلِهَا لِأَنْفُسِهِمْ ، إِذَا كَانَ الْجُمْهُورُ الْأَكْبَرُ مِنْهُمْ مُصْلِحِينَ فِي حِلِّ أَعْمَالِهِمْ وَمُعَامَلَاتِهِمْ لِلنَّاسِ ، أَخْرَجَ
nindex.php?page=showalam&ids=14687الطَّبَرَانِيُّ وَأَبُو الشَّيْخِ وَابْنُ مَرْدَوَيْهِ وَالدَّيْلَمِيُّ عَنْ
nindex.php?page=showalam&ids=97جَرِيرِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - يَسْأَلُ عَنْ تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَةِ فَقَالَ : " وَأَهْلُهَا يُنْصِفُ بَعْضُهُمْ بَعْضًا ، وَرُوِيَ مَوْقُوفًا عَلَى
جَرِيرٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ - فَتَنْكِيرُ الظُّلْمِ فِي هَذَا لِلتَّقْلِيلِ وَالتَّحْقِيرِ ، وَفِيمَا قَبْلَهُ لِلتَّعْظِيمِ ، وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنْ قَوْلِهِ - تَعَالَى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=31&ayano=13إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ - 31 : 13 وَالْآيَةُ تَدُلُّ عَلَى أَنَّ إِهْلَاكَ الْمُصْلِحِينَ ظُلْمٌ فَلِذَلِكَ يَتَنَزَّهُ اللَّهُ عَنْهُ .
[ ص: 160 ] وَذَكَرَ الْمُفَسِّرُونَ فِي الْوَجْهِ الثَّانِي الْقَوْلَ الْمَشْهُورَ الْمُعَبِّرَ عَنْ تَجَارِبِ النَّاسِ ، وَهُوَ أَنَّ
nindex.php?page=treesubj&link=25987الْأُمَمَ تَبْقَى مَعَ الْكُفْرِ ، وَلَا تَبْقَى مَعَ الظُّلْمِ ، وَالْأَوْجُهُ الثَّلَاثَةُ فِي الْآيَةِ صَحِيحَةٌ ، وَيَجُوزُ إِرَادَتُهَا كُلُّهَا عَلَى الْقَوْلِ بِأَنَّ جَمِيعَ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِمَّا شَأْنُ صَاحِبِهِ أَنْ يَعْلَمَهُ وَلَا يَكُونُ مُتَعَارِضًا فِي نَفْسِهِ يَصِحُّ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا لَهُ ، وَإِنْ كَانَ مِنَ الْمُشْتَرَكِ أَوْ كَانَ بَعْضُهُ حَقِيقَةً وَبَعْضُهُ مَجَازًا ، وَمِنْ أَرْكَانِ بَلَاغَةِ الْقُرْآنِ جَمْعُ الْمَعَانِي الْكَثِيرَةِ فِي اللَّفْظِ الْقَلِيلِ ، وَأَنْ يَكُونَ بَعْضُهَا وَاضِحًا فِي هَذِهِ الْمَعَانِي وَبَعْضُهَا خَفِيًّا يُرَادُ بِهِ أَنْ يَذْهَبَ الذِّهْنُ وَالْفِكْرُ فِيهِ كُلَّ مَذْهَبٍ ، وَهَذَا مِمَّا يَتَنَافَسُ فِيهِ الْبُلَغَاءُ .
-
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ - أَيُّهَا الرَّسُولُ الْحَرِيصُ عَلَى إِيمَانِ قَوْمِهِ ، الْآسِفُ عَلَى إِعْرَاضِ أَكْثَرِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ دَعْوَتِهِ ، وَاتِّبَاعِ هِدَايَتِهِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً وَاحِدَةً - عَلَى دِينٍ وَاحِدٍ بِمُقْتَضَى الْغَرِيزَةِ وَالْفِطْرَةِ لَا رَأْيَ لَهُمْ فِيهِ وَلَا اخْتِيَارَ ، وَإِذَنْ لَمَا كَانُوا هُمْ هَذَا النَّوْعَ مِنَ الْخَلْقِ الْمُسَمَّى بِالْبَشَرِ وَبِنَوْعِ الْإِنْسَانِ ، بَلْ لَكَانُوا فِي حَيَاتِهِمْ الِاجْتِمَاعِيَّةِ كَالنَّحْلِ أَوِ النَّمْلِ ، وَفِي حَيَاتِهِمُ الرُّوحِيَّةِ كَالْمَلَائِكَةِ مَفْطُورِينَ عَلَى اعْتِقَادِ الْحَقِّ وَطَاعَةِ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - فَلَا يَقَعُ بَيْنَهُمُ اخْتِلَافٌ ، وَلَكِنَّهُ خَلَقَهُمْ بِمُقْتَضَى حِكْمَتِهِ كَاسِبِينَ لِلْعِلْمِ لَا مُلْهَمِينَ ، وَعَامِلِينَ بِالِاخْتِيَارِ وَتَرْجِيحِ بَعْضِ الْمُمْكِنَاتِ الْمُتَعَارِضَةِ عَلَى بَعْضٍ ، لَا مَجْبُورِينَ وَلَا مُضْطَرِّينَ ، وَجَعَلَهُمْ مُتَفَاوِتِينَ فِي الِاسْتِعْدَادِ وَكَسْبِ الْعِلْمِ وَاخْتِلَافِ الِاخْتِيَارِ ، وَقَدْ كَانُوا فِي طَوْرِ الطُّفُولَةِ النَّوْعِيَّةِ فِي الْحَيَاةِ الْفَرْدِيَّةِ وَالزَّوْجِيَّةِ وَالِاجْتِمَاعِ الْبَدَوِيِّ السَّاذَجِ أُمَّةً وَاحِدَةً لَا مَثَارَ لِلِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ ، ثُمَّ كَثُرُوا وَدَخَلُوا فِي طَوْرِ الْحَيَاةِ الِاجْتِمَاعِيَّةِ فَظَهَرَ اسْتِعْدَادُهُمْ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّنَازُعِ فَاخْتَلَفُوا ، كَمَا قَالَ - تَعَالَى - : -
nindex.php?page=tafseer&surano=10&ayano=19وَمَا كَانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً وَاحِدَةً فَاخْتَلَفُوا - 10 : 19 فِي كُلِّ شَيْءٍ بِالتَّبَعِ لِاخْتِلَافِ الِاسْتِعْدَادِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=118وَلَا يَزَالُونَ مُخْتَلِفِينَ - فِي كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى الدِّينِ الَّذِي شَرَعَهُ اللَّهُ لِتَكْمِيلِ فِطْرَتِهِمْ وَإِزَالَةِ الِاخْتِلَافِ بَيْنَهُمْ -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ - مِنْهُمْ فَاتَّفَقُوا عَلَى حُكْمِ كِتَابِ اللَّهِ فِيهِمْ ، وَهُوَ الْقَطْعِيُّ الدَّلَالَةِ مِنْهُ الَّذِي لَا مَجَالَ لِلِاخْتِلَافِ فِيهِ ، وَعَلَيْهِ مَدَارُ جَمْعِ الْكَلِمَةِ وَوَحْدَةِ الْأُمَّةِ ، إِذِ الظَّنِّيُّ لَا يُكَلَّفُونَ الِاتِّفَاقَ عَلَى مَعْنَاهُ ; لِأَنَّهُ مَوْكُولٌ إِلَى الِاجْتِهَادِ الَّذِي لَا يَجِبُ الْعَمَلُ بِهِ إِلَّا عَلَى مَنْ ثَبَتَ عِنْدَهُ رُجْحَانُهُ ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ وَحْدَةِ الْبَشَرِ فَاخْتِلَافِهِمْ فَبَعْثَةِ النَّبِيِّينَ وَإِنْزَالِ الْكِتَابِ مَعَهُمْ لِلْحُكْمِ بَيْنَ النَّاسِ فِي الْآيَةِ ( 2 : 213 ) وَتَفْسِيرِهَا فِي الْجُزْءِ الثَّانِي مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ ، -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119وَلِذَلِكَ خَلَقَهُمْ - أَيْ وَلِذَلِكَ الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ مِنْ مَشِيئَتِهِ - تَعَالَى - فِيهِمْ ، خَلَقَهُمْ مُسْتَعِدِّينَ لِلِاخْتِلَافِ وَالتَّفَرُّقِ فِي عُلُومِهِمْ وَمَعَارِفِهِمْ وَآرَائِهِمْ وَشُعُورِهِمْ ، وَمَا يَتْبَعُ ذَلِكَ مِنْ إِرَادَتِهِمْ وَاخْتِيَارِهِمْ فِي أَعْمَالِهِمْ ، وَمِنْ ذَلِكَ الدِّينُ وَالْإِيمَانُ وَالطَّاعَةُ وَالْعِصْيَانُ ، وَحِكْمَتُهُ أَنْ يَكُونُوا مَظْهَرًا لِأَسْرَارِ خَلْقِهِ الْمَادِّيَّةِ وَالْمَعْنَوِيَّةِ فِي الْأَجْسَامِ وَالْأَرْوَاحِ وَسُنَنِهِ فِي الْأَحْيَاءِ ، وَتَعَلُّقِ قُدْرَتِهِ
[ ص: 161 ] وَمَشِيئَتِهِ بِخَلْقِ جَمِيعِ الْمُمَكَّنَاتِ ، وَبِهَذَا كَانُوا خُلَفَاءَ الْأَرْضِ -
nindex.php?page=tafseer&surano=2&ayano=31وَعَلَّمَ آدَمَ الْأَسْمَاءَ كُلَّهَا - 2 : 31 وَقَالَ
الْحَسَنُ وَعَطَاءٌ : خَلَقَهُمْ لِلِاخْتِلَافِ . وَقَالَ
مُجَاهِدٌ وَعِكْرِمَةُ : خَلَقَهُمْ لِلرَّحْمَةِ .
وَقَالَ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنُ عَبَّاسٍ : خَلَقَهُمْ فَرِيقَيْنِ : فَرِيقًا يُرْحَمُ فَلَا يَخْتَلِفُ ، وَفَرِيقًا لَا يُرْحَمُ فَيَخْتَلِفُ ، فَذَلِكَ قَوْلُهُ : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=105فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَسَعِيدٌ - 105 وَهَذَا أَصَحُّ مِمَّا قَبْلَهُ لِأَنَّهُ جَامِعٌ لِلْقَوْلَيْنِ ، وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُ
nindex.php?page=showalam&ids=16867مَالِكِ بْنِ أَنَسٍ وَقَدْ سَأَلَهُ
أَشْهَبُ عَنِ الْآيَةِ فَقَالَ : خَلَقَهُمْ لِيَكُونَ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَفَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ . انْتَهَى . أَيْ كَانَ الِاخْتِلَافُ سَبَبَ دُخُولِ كُلٍّ مِنَ الدَّارَيْنِ ، وَفِي الرِّوَايَةِ عَنِ
nindex.php?page=showalam&ids=11ابْنِ عَبَّاسٍ تَقْدِيمُ الْمَعْلُولِ عَلَى الْعِلَّةِ ، وَالْمَعْقُولُ الْمَشْرُوعُ عَكْسُهُ ، فَالتَّرْتِيبُ فِي الْجَزَاءِ أَنْ يُقَالَ : فَرِيقٌ اتَّفَقُوا فِي الدِّينِ فَجَعَلُوا كِتَابَ اللَّهِ حَكَمًا بَيْنَهُمْ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ ، فَاجْتَمَعَتْ كَلِمَتُهُمْ وَكَانُوا أُمَّةً وَاحِدَةً فَرَحِمَهُمُ اللَّهُ بِوِقَايَتِهِمْ مِنْ شَرِّ الِاخْتِلَافِ وَغَوَائِلِهِ فِي الدُّنْيَا وَمِنْ عَذَابِ الْآخِرَةِ ، وَفَرِيقٌ اخْتَلَفُوا فِيهِ كَمَا اخْتَلَفُوا فِي مَصَالِحِ الدُّنْيَا وَمَنَافِعِهَا وَسُلْطَانِهَا ، فَكَانَ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدًا ، فَذَاقُوا عِقَابَ الِاخْتِلَافِ وَالشِّقَاقِ فِي الدُّنْيَا ، وَأَعْقَبَهُمْ جَزَاءَهُ فِي الْآخِرَةِ فَكَانُوا مَحْرُومِينَ مِنْ رَحْمَتِهِ بِظُلْمِهِمْ لِأَنْفُسِهِمْ لَا بِظُلْمٍ مِنْهُ لَهُمْ : -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119وَتَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ - الَّتِي قَالَهَا فِي غَيْرِ الْمُهْتَدِينَ -
nindex.php?page=tafseer&surano=11&ayano=119nindex.php?page=treesubj&link=28982_30437لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَالنَّاسِ أَجْمَعِينَ - أَيْ مِنْ عَالَمَيْ : الْإِنْسِ وَالْجِنِّ الَّذِينَ لَا يَهْتَدُونَ بِمَا أَرْسَلَ بِهِ رُسُلَهُ وَأَنْزَلَ مَعَهُمْ كُتُبَهُ لِهِدَايَةِ الْمُكَلَّفِينَ وَالْحُكْمِ بَيْنَ الْمُخْتَلِفِينَ ، فَفِي سُورَةِ الم السَّجْدَةِ : -
nindex.php?page=tafseer&surano=32&ayano=13وَلَوْ شِئْنَا لَآتَيْنَا كُلَّ نَفْسٍ هُدَاهَا وَلَكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ - 32 : 13 الْآيَةَ ، فَهَذَا فَرِيقُ السَّعِيرِ ، وَمِنْهُ يُعْلَمُ جَزَاءُ الْفَرِيقِ الْآخَرِ ، وَالْمَقَامُ يَقْتَضِي الْإِنْذَارَ .