[ ص: 213 ] nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28983_31895_28901لقد كان في يوسف وإخوته آيات للسائلين nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ونحن عصبة إن أبانا لفي ضلال مبين nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=9اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا يخل لكم وجه أبيكم وتكونوا من بعده قوما صالحين .
هذا شروع في القصة بعد مقدمتين ، أولاهما في صفة القرآن وكونه تنزيلا من الله دالا على رسالة من أنزل عليه ، وكونه عربيا تقوم به الحجة على العرب الذين يعقلونه ، وكون النبي - صلى الله عليه وسلم - كان من قبله غافلا عما جاءه فيه لا يدري منه شيئا ، ونتيجة هاتين القضيتين تأتي بعد تمام القصة في قوله - تعالى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=102ذلك من أنباء الغيب 102 إلخ .
والمقدمة الثانية : رؤيا
يوسف وما فهمه منها أبوه فهما إجماليا كليا كما بيناه آنفا ، وبنى عليه أن حذره وأنذره ما يستهدف له قبله من كيد إخوته ، وبشره بحسن عاقبته ، ونتيجة هاتين القضيتين ما قاله لأبيه بعد دخولهم عليه وسجودهم له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=100ياأبت هذا تأويل رؤياي من قبل قد جعلها ربي حقا ) 100 إلخ .
فمثل هذا الترتيب المنطقي العقلي البديع يتوقف نظمه وسرده على سبق العلم بالقصة وتتبع حوادثها والإحاطة بدقائقها ، ثم على وضع ترتيب ينسق عليه الكلام كالقصص الفنية المتكلفة ، ثم توضع له المقدمة والخاتمة في الغاية التي ألفت القصة لأجلها ، فتجعل الأولى براعة مطلع ، والآخرة براعة مقطع ، فقل لمن جهل سيرة
محمد - صلى الله عليه وسلم - وتاريخه : إن
محمدا لم يكن قارئا ولا كاتبا ، ولا خطيبا ولا شاعرا ، ولا مؤرخا ، ولا راويا ، ولا حافظا للشعر ولا ناثرا ، بل كان كما قال الله - تعالى - غافلا عن هذه القصة وكل ما جاء في القرآن ، وكانت تنزل عليه السورة القصيرة فيعجل بقراءتها لئلا ينسى منها شيئا ، فنهي عن ذلك عندما عرض له في أثناء نزول سورة القيامة بقوله - تعالى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=16لا تحرك به لسانك لتعجل به إن علينا جمعه وقرآنه فإذا قرأناه فاتبع قرآنه ثم إن علينا بيانه ) 75 : 16 - 19 وبقوله :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=114ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علما 20 : 114 وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=6سنقرئك فلا تنسى ) 87 : 6 وقوله : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إنا نحن نزلنا الذكر وإنا له لحافظون ) 15 : 9
[ ص: 214 ] فلما ضمن ربه له أمن ضياع شيء منه بعدم حفظه عند تلقيه ، أو نسيانه بعده ، زال خوفه ، وترك الاستعجال بقراءته .
وهذه السورة الطويلة نزلت عليه دفعة واحدة كأكثر السور المكية حتى الطوال منها كسورة الأنعام ، فلم يكن يدري من هذا الترتيب والنسق لها ولا من موضوعها شيئا قبل وحيها ، ولا يحيط به إلا أن يكمل له تلقيها عن الروح الأمين - عليهما السلام - ولكن العجب أن يغفل عنه أو يجهله أحد من المفسرين ، فرسان البلاغة الفنية ، والآن قد بينته لقارئ هذا التفسير ليفطن لدلالة السورة بنظمها وبلاغتها على إعجاز القرآن اللفظي ، وبما فيها من التشريع وعلم الغيب على إعجازه المعنوي ، وبالإعجازين كليهما على نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ورسالته ، أشرع في تفسير القصة متبرئا من حولي وقوتي إلى حول الله وقوته ، وهي : لقد كان في
يوسف وإخوته آيات للسائلين أي لقد كان في قصة
يوسف وإخوته لأبيه أنواع من الدلائل على أنواع من قدرة الله وحكمته ، وتوفيق أقداره ولطفه بمن اصطفى من عباده ، وتربيته لهم ، وحسن عنايته بهم ، للسائلين عنها ، من الراغبين في معرفة الحقائق والاعتبار بها ، لأنهم هم الذين يعقلون الآيات ويستفيدون منها ، ومن فاته العلم بشيء أو بحكمته أو بوجه العبرة فيه سأل عنه من هو أعلم به منه ، فإن للظواهر غايات لا تعلم حقائقها إلا منها ، فإخوة
يوسف لو لم يحسدوه لما ألقوه في غيابة الجب ، ولو لم يلقوه لما وصل إلى
عزيز مصر ، ولو لم يعتقد العزيز بفراسته وأمانته وصدقه لما أمنه على بيته ورزقه وأهله ، ولو لم تراوده
امرأة العزيز عن نفسه ويستعصم لما ظهرت نزاهته وعرف أمرها ، ولو لم تخب في كيدها وكيد صواحبها من النسوة لما ألقي في السجن لإخفاء هذا الأمر ، ولو لم يسجن لما عرفه ساقي ملك
مصر وعرف براعته وصدقه في تعبير الرؤيا ، ولو لم يعلم الساقي منه هذا لما عرفه ملك
مصر وآمن به وله وجعله على خزائن الأرض ، ولو لم يتبوأ هذا المنصب لما أمكنه أن ينقذ أبويه وإخوته وأهلهم أجمعين من المخمصة ، ويأتي بهم إلى
مصر فيشاركوه في رياسته ومجده ، بل لما تم قول أبيه له : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=6ويتم نعمته عليك وعلى آل يعقوب ) 6 فما من حلقة من هذه السلسلة إلا وكان ظاهرها محرقا ، وباطنها مشرقا ، وبدايتها شرا وخسرا ، وعاقبتها خيرا وفوزا ، وصدق قول الله - عز وجل - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=128والعاقبة للمتقين ) 7 : 128 .
فهذه أنواع من آيات الله في القصة للسائلين عن وقائعها الحسية الظاهرة ، وما هو أعلى منها من علومها وحكمها الباطنة ، كعلم يعقوب بتأويل رؤيا
يوسف وعلمه بكذبهم بدعوى أكل الذئب له ، ومن شهادة الله بالعلم بقوله : وإنه لذو علم لما علمناه 68 ، الآية ، ومن شمه لريح
يوسف منذ فصلت العير من أرض
مصر قاصدة أرض
كنعان . ومن علم
يوسف بتأويل الأحاديث ، ومن رؤيته لبرهان ربه ، ومن كيد الله له ليأخذ أخاه بشرع
[ ص: 215 ] الملك ، ثم من علمه بأن إلقاء قميصه على أبيه يعيده بصيرا بعد عمى سنين كثيرة ، في القصة مجال لسؤال السائلين عن كل هذه المعاني من العلم الروحاني ، وهي أخفى مما قبلها ، وأحق بالسؤال عنها .
وقيل عن المراد بالسائلين : جماعة من
اليهود جاءوا
مكة وسألوا النبي - صلى الله عليه وسلم - سؤال امتحان عن نبي كان
بالشام أخرج ابنه إلى
مصر فبكى عليه حتى عمي ؟ فأنزل الله - تعالى - عليه سورة
يوسف جملة واحدة كما في التوراة ، وروي أن بعضهم لقنوا بعض أهل
مكة أن يسألوه عن قصة
يوسف . وروي أن بعضهم سألوه عن أسماء الكواكب الأحد عشر التي رآها
يوسف في منامه ولم يكن يعرفها ، فنزل عليه
جبريل فلقنه إياها فجاءت موافقة لما في التوراة ، وذكروا هذه الأسماء في تفاسيرهم ، فالمراد بالآيات على هذا دلائل نبوة
محمد - صلى الله عليه وسلم - ولا يصح من هذه الروايات شيء بل هي من الإسرائيليات ، وليس في التوراة ذكر لأسماء هذه الكواكب ، وقصة
يوسف في القرآن موافقة لجملة ما في سفر التكوين ومخالفة له في بعض دقائقها ، وسنذكر من ذلك غير ما ذكرنا آنفا .
nindex.php?page=treesubj&link=31895_28983_28901 ( nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8إذ قالوا ليوسف وأخوه أحب إلى أبينا منا ) أي إن في قصتهم لآيات في الوقت الذي ابتدءوا فيه بقولهم جازمين مقسمين : ليوسف وأخوه الشقيق له واسمه ( (
بنيامين ) ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8أحب إلى أبينا منا ) كلنا ونحن عصبة أي يفضلهما علينا بمزيد المحبة على صغرهما وقلة غنائهما ، والحال أننا نحن عصبة عشرة رجال أقوياء أشداء معتصبون ، نقوم له بكل ما يحتاج إليه من أسباب الرزق والحماية والكفاية (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8إن أبانا لفي ضلال مبين ) إنه لفي تيه من المحاباة لهما ضل فيه طريق العدل والمساواة ضلالا بينا لا يخفى على أحد ، إذ يفضل غلامين ضعيفين من ولده لا يقومان له بخدمة نافعة ، على العصبة أولي القوة والكسب والنجدة .
وهذا الحكم منهم على أبيهم جهل مبين وخطأ كبير ، لعل سببه اتهامهم إياه بإفراطه في حب أمهما من قبل ، فيكون مثاره الأول اختلاف الأمهات بتعدد الزوجات ولا سيما الإماء منهن ، وهو الذي أضلهم عن غريزة الوالدين في زيادة العطف على صغار الأولاد وضعافهم
[ ص: 216 ] وكانا أصغر أولاده ، فقد سئل والد بليغ : أي ولدك أحب إليك ؟ قال : صغيرهم حتى يكبر ، وغائبهم حتى يحضر ، ومريضهم حتى يشفى ، وفقيرهم حتى يغنى ( وأشك في هذه الأخيرة ) .
ومن فوائد القصة : وجوب
nindex.php?page=treesubj&link=19833_18000عناية الوالدين بمداراة الأولاد وتربيتهم على المحبة والعدل ، واتقاء وقوع التحاسد والتباغض بينهم ، ومنه اجتناب تفضيل بعضهم على بعض بما يعده المفضول إهانة له ومحاباة لأخيه بالهوى ، وقد نهى عنه النبي - صلى الله عليه وسلم - مطلقا ، ومنه سلوك سبيل الحكمة في تفضيل من فضل الله - تعالى - بالمواهب الفطرية كمكارم الأخلاق والتقوى والعلم والذكاء . وما كان
يعقوب بالذي يخفى عليه هذا ، وما نهى
يوسف عن قص رؤياه عليهم إلا من علمه بما يجب فيه . ولكن ما يفعل الإنسان بغريزته وقلبه وروحه ؟ أيستطيع أن يحول دون سلطانها على جوارحه ؟ كلا .
دلائل العشق لا تخفى على أحد كحامل المسك لا يخلو من العبق
nindex.php?page=treesubj&link=28983_31895_28901 ( nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=9اقتلوا يوسف أو اطرحوه أرضا ) أي اقتلوه قتلا لا مطمع بعده ولا أمل في لقائه ، أو انبذوه كالشيء اللقا الذي لا قيمة له في أرض مجهولة بعيدة عن مساكننا أو عن العمران ، بحيث لا يهتدي إلى العودة إلى أبيه سبيلا إن هو سلم فيها من الهلاك : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=9يخل لكم وجه أبيكم ) فيكن كل توجهه إليكم ، وكل إقباله عليكم ، بخلو الديار ممن يشغله عنكم أو يشارككم في عطفه وحبه ، وهذه الجملة من فرائد درر الكلام البليغ ، بتصويرها حصر الحب وتوجه الإقبال والعطف بصورة الضروريات التي لا اختيار للرأي ولا للإرادة فيها ، لا من ظاهر الحس ، ولا من وجدان النفس ، بعد وقوع هذه الجناية التي تقتضي إعراض الوجه ، وأعراض الكراهة والمقت وتكونوا من بعده أي من بعد
يوسف ، أو بعد قتله أو تغريبه قوما صالحين تائبين إلى الله من هذه الجريمة ، مصلحين لأعمالكم بما يكفر إثمها ، وعدم التصدي لمثلها ، فيرضى عنكم أبوكم ويرضى ربكم ، هكذا يزين الشيطان للمؤمن المتدين معصية الله - تعالى - ولا يزال ينزغ له ويسول ، ويعد ويمني ويؤول ، حتى يرجح داعي الإيمان ، أو يجيب داعي الشيطان ، وهذا الذي غلب على إخوة
يوسف فكان ، ولكن بعد رأفة مخففة لحكم الانتقام ، وهو مقتضى الحكمة التي أرادها الله .
[ ص: 213 ] nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=7nindex.php?page=treesubj&link=28983_31895_28901لَقَدْ كَانَ فِي يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=9اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ .
هَذَا شُرُوعٌ فِي الْقِصَّةِ بَعْدَ مُقَدِّمَتَيْنِ ، أُولَاهُمَا فِي صِفَةِ الْقُرْآنِ وَكَوْنِهِ تَنْزِيلًا مِنَ اللَّهِ دَالًّا عَلَى رِسَالَةِ مَنْ أَنْزَلَ عَلَيْهِ ، وَكَوْنِهِ عَرَبِيًّا تَقُومُ بِهِ الْحُجَّةُ عَلَى الْعَرَبِ الَّذِينَ يَعْقِلُونَهُ ، وَكَوْنِ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - كَانَ مِنْ قَبْلِهِ غَافِلًا عَمَّا جَاءَهُ فِيهِ لَا يَدْرِي مِنْهُ شَيْئًا ، وَنَتِيجَةُ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ تَأْتِي بَعْدَ تَمَامِ الْقِصَّةِ فِي قَوْلِهِ - تَعَالَى - :
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=102ذَلِكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ 102 إِلَخْ .
وَالْمُقَدِّمَةُ الثَّانِيَةُ : رُؤْيَا
يُوسُفَ وَمَا فَهِمَهُ مِنْهَا أَبُوهُ فَهْمًا إِجْمَالِيًّا كُلِّيًّا كَمَا بَيَّنَّاهُ آنِفًا ، وَبَنَى عَلَيْهِ أَنْ حَذَّرَهُ وَأَنْذَرَهُ مَا يُسْتَهْدَفُ لَهُ قِبَلَهُ مِنْ كَيْدِ إِخْوَتِهِ ، وَبَشَّرَهُ بِحُسْنِ عَاقِبَتِهِ ، وَنَتِيجَةِ هَاتَيْنِ الْقَضِيَّتَيْنِ مَا قَالَهُ لِأَبِيهِ بَعْدَ دُخُولِهِمْ عَلَيْهِ وَسُجُودِهِمْ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=100يَاأَبَتِ هَذَا تَأْوِيلُ رُؤْيَايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَهَا رَبِّي حَقًّا ) 100 إِلَخْ .
فَمِثْلُ هَذَا التَّرْتِيبِ الْمَنْطِقِيِّ الْعَقْلِيِّ الْبَدِيعِ يَتَوَقَّفُ نَظْمُهُ وَسَرْدُهُ عَلَى سَبْقِ الْعِلْمِ بِالْقِصَّةِ وَتَتَبُّعِ حَوَادِثِهَا وَالْإِحَاطَةِ بِدَقَائِقِهَا ، ثُمَّ عَلَى وَضْعِ تَرْتِيبٍ يُنَسَّقُ عَلَيْهِ الْكَلَامُ كَالْقِصَصِ الْفَنِّيَّةِ الْمُتَكَلَّفَةِ ، ثُمَّ تُوضَعُ لَهُ الْمُقَدِّمَةُ وَالْخَاتِمَةُ فِي الْغَايَةِ الَّتِي أُلِّفَتِ الْقِصَّةُ لِأَجْلِهَا ، فَتَجْعَلُ الْأُولَى بَرَاعَةَ مَطْلَعٍ ، وَالْآخِرَةَ بَرَاعَةَ مَقْطَعٍ ، فَقُلْ لِمَنْ جَهِلَ سِيرَةَ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَتَارِيخَهُ : إِنَّ
مُحَمَّدًا لَمْ يَكُنْ قَارِئًا وَلَا كَاتِبًا ، وَلَا خَطِيبًا وَلَا شَاعِرًا ، وَلَا مُؤَرِّخًا ، وَلَا رَاوِيًا ، وَلَا حَافِظًا لِلشِّعْرِ وَلَا نَاثِرًا ، بَلْ كَانَ كَمَا قَالَ اللَّهُ - تَعَالَى - غَافِلًا عَنْ هَذِهِ الْقِصَّةِ وَكُلِّ مَا جَاءَ فِي الْقُرْآنِ ، وَكَانَتْ تَنْزِلُ عَلَيْهِ السُّورَةُ الْقَصِيرَةُ فَيُعَجِّلُ بِقِرَاءَتِهَا لِئَلَّا يَنْسَى مِنْهَا شَيْئًا ، فَنُهِيَ عَنْ ذَلِكَ عِنْدَمَا عَرَضَ لَهُ فِي أَثْنَاءِ نُزُولِ سُورَةِ الْقِيَامَةِ بِقَوْلِهِ - تَعَالَى - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=75&ayano=16لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ ) 75 : 16 - 19 وَبِقَوْلِهِ :
nindex.php?page=tafseer&surano=20&ayano=114وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا 20 : 114 وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=87&ayano=6سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى ) 87 : 6 وَقَوْلِهِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=15&ayano=9إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ ) 15 : 9
[ ص: 214 ] فَلَمَّا ضَمِنَ رَبُّهُ لَهُ أَمْنَ ضَيَاعِ شَيْءٍ مِنْهُ بِعَدَمِ حِفْظِهِ عِنْدَ تَلَقِّيهِ ، أَوْ نِسْيَانِهِ بَعْدَهُ ، زَالَ خَوْفُهُ ، وَتَرَكَ الِاسْتِعْجَالَ بِقِرَاءَتِهِ .
وَهَذِهِ السُّورَةُ الطَّوِيلَةُ نَزَلَتْ عَلَيْهِ دُفْعَةً وَاحِدَةً كَأَكْثَرِ السُّوَرِ الْمَكِّيَّةِ حَتَّى الطَّوَالِ مِنْهَا كَسُورَةِ الْأَنْعَامِ ، فَلَمْ يَكُنْ يَدْرِي مِنْ هَذَا التَّرْتِيبِ وَالنَّسَقِ لَهَا وَلَا مِنْ مَوْضُوعِهَا شَيْئًا قَبْلَ وَحْيِهَا ، وَلَا يُحِيطُ بِهِ إِلَّا أَنْ يُكْمِلَ لَهُ تَلَقِّيَهَا عَنِ الرُّوحِ الْأَمِينِ - عَلَيْهِمَا السَّلَامُ - وَلَكِنَّ الْعَجَبَ أَنْ يَغْفَلَ عَنْهُ أَوْ يَجْهَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ ، فُرْسَانُ الْبَلَاغَةِ الْفَنِّيَّةِ ، وَالْآنَ قَدْ بَيَّنْتُهُ لِقَارِئِ هَذَا التَّفْسِيرِ لِيَفْطِنَ لِدَلَالَةِ السُّورَةِ بِنَظْمِهَا وَبَلَاغَتِهَا عَلَى إِعْجَازِ الْقُرْآنِ اللَّفْظِيِّ ، وَبِمَا فِيهَا مِنَ التَّشْرِيعِ وَعِلْمِ الْغَيْبِ عَلَى إِعْجَازِهِ الْمَعْنَوِيِّ ، وَبِالْإِعْجَازَيْنِ كِلَيْهِمَا عَلَى نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَرِسَالَتِهِ ، أَشْرَعُ فِي تَفْسِيرِ الْقِصَّةِ مُتَبَرِّئًا مِنْ حَوْلِي وَقُوَّتِي إِلَى حَوْلِ اللَّهِ وَقُوَّتِهِ ، وَهِيَ : لَقَدْ كَانَ فِي
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ آيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ أَيْ لَقَدْ كَانَ فِي قِصَّةِ
يُوسُفَ وَإِخْوَتِهِ لِأَبِيهِ أَنْوَاعٌ مِنَ الدَّلَائِلِ عَلَى أَنْوَاعٍ مِنْ قُدْرَةِ اللَّهِ وَحِكْمَتِهِ ، وَتَوْفِيقِ أَقْدَارِهِ وَلُطْفِهِ بِمَنِ اصْطَفَى مِنْ عِبَادِهِ ، وَتَرْبِيَتِهِ لَهُمْ ، وَحُسْنِ عِنَايَتِهِ بِهِمْ ، لِلسَّائِلِينَ عَنْهَا ، مِنَ الرَّاغِبِينَ فِي مَعْرِفَةِ الْحَقَائِقِ وَالِاعْتِبَارِ بِهَا ، لِأَنَّهُمْ هُمُ الَّذِينَ يَعْقِلُونَ الْآيَاتِ وَيَسْتَفِيدُونَ مِنْهَا ، وَمَنْ فَاتَهُ الْعِلْمُ بِشَيْءٍ أَوْ بِحِكْمَتِهِ أَوْ بِوَجْهِ الْعِبْرَةِ فِيهِ سَأَلَ عَنْهُ مَنْ هُوَ أَعْلَمُ بِهِ مِنْهُ ، فَإِنَّ لِلظَّوَاهِرِ غَايَاتٍ لَا تُعْلَمُ حَقَائِقُهَا إِلَّا مِنْهَا ، فَإِخْوَةُ
يُوسُفَ لَوْ لَمْ يَحْسُدُوهُ لَمَا أَلْقَوْهُ فِي غَيَابَةِ الْجُبِّ ، وَلَوْ لَمْ يُلْقُوهُ لَمَا وَصَلَ إِلَى
عَزِيزِ مِصْرَ ، وَلَوْ لَمْ يَعْتَقِدِ الْعَزِيزُ بِفِرَاسَتِهِ وَأَمَانَتِهِ وَصِدْقِهِ لَمَا أَمِنَهُ عَلَى بَيْتِهِ وَرِزْقِهِ وَأَهْلِهِ ، وَلَوْ لَمْ تُرَاوِدْهُ
امْرَأَةُ الْعَزِيزِ عَنْ نَفْسِهِ وَيَسْتَعْصِمُ لِمَا ظَهَرَتْ نَزَاهَتُهُ وَعُرِفَ أَمْرُهَا ، وَلَوْ لَمْ تَخِبْ فِي كَيْدِهَا وَكَيْدِ صَوَاحِبِهَا مِنَ النِّسْوَةِ لَمَا أُلْقِيَ فِي السِّجْنِ لِإِخْفَاءِ هَذَا الْأَمْرِ ، وَلَوْ لَمْ يُسْجَنْ لَمَا عَرَفَهُ سَاقِي مَلِكِ
مِصْرَ وَعَرَفَ بَرَاعَتَهُ وَصِدْقَهُ فِي تَعْبِيرِ الرُّؤْيَا ، وَلَوْ لَمْ يَعْلَمِ السَّاقِي مِنْهُ هَذَا لَمَا عَرَفَهُ مَلِكُ
مِصْرَ وَآمَنَ بِهِ وَلَهُ وَجَعَلَهُ عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ ، وَلَوْ لَمْ يَتَبَوَّأْ هَذَا الْمَنْصِبَ لَمَا أَمْكَنَهُ أَنْ يُنْقِذَ أَبَوَيْهِ وَإِخْوَتَهُ وَأَهْلَهُمْ أَجْمَعِينَ مِنَ الْمَخْمَصَةِ ، وَيَأْتِي بِهِمْ إِلَى
مِصْرَ فَيُشَارِكُوهُ فِي رِيَاسَتِهِ وَمَجْدِهِ ، بَلْ لَمَا تَمَّ قَوْلُ أَبِيهِ لَهُ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=6وَيُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَعَلَى آلِ يَعْقُوبَ ) 6 فَمَا مِنْ حَلَقَةٍ مِنْ هَذِهِ السِّلْسِلَةِ إِلَّا وَكَانَ ظَاهِرُهَا مُحْرِقًا ، وَبَاطِنُهَا مُشْرِقًا ، وَبِدَايَتُهَا شَرًّا وَخُسْرًا ، وَعَاقِبَتُهَا خَيْرًا وَفَوْزًا ، وَصَدَقَ قَوْلُ اللَّهِ - عَزَّ وَجَلَّ - : (
nindex.php?page=tafseer&surano=7&ayano=128وَالْعَاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ ) 7 : 128 .
فَهَذِهِ أَنْوَاعٌ مِنْ آيَاتِ اللَّهِ فِي الْقِصَّةِ لِلسَّائِلِينَ عَنْ وَقَائِعِهَا الْحِسِّيَّةِ الظَّاهِرَةِ ، وَمَا هُوَ أَعْلَى مِنْهَا مِنْ عُلُومِهَا وَحِكَمِهَا الْبَاطِنَةِ ، كَعِلْمِ يَعْقُوبَ بِتَأْوِيلِ رُؤْيَا
يُوسُفَ وَعِلْمِهِ بِكَذِبِهِمْ بِدَعْوَى أَكْلِ الذِّئْبِ لَهُ ، وَمِنْ شَهَادَةِ اللَّهِ بِالْعِلْمِ بِقَوْلِهِ : وَإِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِمَا عَلَّمْنَاهُ 68 ، الْآيَةَ ، وَمِنْ شَمِّهِ لِرِيحِ
يُوسُفَ مُنْذُ فَصَلَتِ الْعِيرُ مِنْ أَرْضِ
مِصْرَ قَاصِدَةً أَرْضَ
كَنْعَانَ . وَمِنْ عِلْمِ
يُوسُفَ بِتَأْوِيلِ الْأَحَادِيثِ ، وَمِنْ رُؤْيَتِهِ لِبُرْهَانِ رَبِّهِ ، وَمِنْ كَيْدِ اللَّهِ لَهُ لِيَأْخُذَ أَخَاهُ بِشَرْعِ
[ ص: 215 ] الْمَلِكِ ، ثُمَّ مِنْ عِلْمِهِ بِأَنَّ إِلْقَاءَ قَمِيصِهِ عَلَى أَبِيهِ يُعِيدُهُ بَصِيرًا بَعْدَ عَمَى سِنِينٍ كَثِيرَةٍ ، فِي الْقِصَّةِ مَجَالٌ لِسُؤَالِ السَّائِلِينَ عَنْ كُلِّ هَذِهِ الْمَعَانِي مِنَ الْعِلْمِ الرُّوحَانِيِّ ، وَهِيَ أَخْفَى مِمَّا قَبْلَهَا ، وَأَحَقُّ بِالسُّؤَالِ عَنْهَا .
وَقِيلَ عَنِ الْمُرَادِ بِالسَّائِلِينَ : جَمَاعَةٌ مِنَ
الْيَهُودِ جَاءُوا
مَكَّةَ وَسَأَلُوا النَّبِيَّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - سُؤَالَ امْتِحَانٍ عَنْ نَبِيٍّ كَانَ
بِالشَّامِ أُخْرِجَ ابْنُهُ إِلَى
مِصْرَ فَبَكَى عَلَيْهِ حَتَّى عَمِيَ ؟ فَأَنْزَلَ اللَّهُ - تَعَالَى - عَلَيْهِ سُورَةَ
يُوسُفَ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَمَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ لَقَّنُوا بَعْضَ أَهْلِ
مَكَّةَ أَنْ يَسْأَلُوهُ عَنْ قِصَّةِ
يُوسُفَ . وَرُوِيَ أَنَّ بَعْضَهُمْ سَأَلُوهُ عَنْ أَسْمَاءِ الْكَوَاكِبِ الْأَحَدَ عَشَرَ الَّتِي رَآهَا
يُوسُفُ فِي مَنَامِهِ وَلَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا ، فَنَزَلَ عَلَيْهِ
جِبْرِيلُ فَلَقَّنَهُ إِيَّاهَا فَجَاءَتْ مُوَافِقَةً لِمَا فِي التَّوْرَاةِ ، وَذَكَرُوا هَذِهِ الْأَسْمَاءَ فِي تَفَاسِيرِهِمْ ، فَالْمُرَادُ بِالْآيَاتِ عَلَى هَذَا دَلَائِلُ نُبُوَّةِ
مُحَمَّدٍ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - وَلَا يَصِحُّ مِنْ هَذِهِ الرِّوَايَاتِ شَيْءٌ بَلْ هِيَ مِنَ الْإِسْرَائِيلِيَّاتِ ، وَلَيْسَ فِي التَّوْرَاةِ ذِكْرٌ لِأَسْمَاءِ هَذِهِ الْكَوَاكِبِ ، وَقِصَّةُ
يُوسُفَ فِي الْقُرْآنِ مُوَافِقَةٌ لِجُمْلَةِ مَا فِي سِفْرِ التَّكْوِينِ وَمُخَالِفَةٌ لَهُ فِي بَعْضِ دَقَائِقِهَا ، وَسَنَذْكُرُ مِنْ ذَلِكَ غَيْرَ مَا ذَكَرْنَا آنِفًا .
nindex.php?page=treesubj&link=31895_28983_28901 ( nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8إِذْ قَالُوا لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ) أَيْ إِنَّ فِي قِصَّتِهِمْ لَآيَاتٍ فِي الْوَقْتِ الَّذِي ابْتَدَءُوا فِيهِ بِقَوْلِهِمْ جَازِمِينَ مُقْسِمِينَ : لَيُوسُفُ وَأَخُوهُ الشَّقِيقُ لَهُ وَاسْمُهُ ( (
بِنْيَامِينَ ) ) ، (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8أَحَبُّ إِلَى أَبِينَا مِنَّا ) كُلِّنَا وَنَحْنُ عُصْبَةٌ أَيْ يُفَضِّلُهُمَا عَلَيْنَا بِمَزِيدِ الْمَحَبَّةِ عَلَى صِغَرِهِمَا وَقِلَّةِ غِنَائِهِمَا ، وَالْحَالُ أَنَّنَا نَحْنُ عُصْبَةُ عَشَرَةِ رِجَالٍ أَقْوِيَاءَ أَشِدَّاءَ مُعْتَصِبُونَ ، نَقُومُ لَهُ بِكُلِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ أَسْبَابِ الرِّزْقِ وَالْحِمَايَةِ وَالْكِفَايَةِ (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=8إِنَّ أَبَانَا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ ) إِنَّهُ لَفِي تِيهٍ مِنَ الْمُحَابَاةِ لَهُمَا ضَلَّ فِيهِ طَرِيقَ الْعَدْلِ وَالْمُسَاوَاةِ ضَلَالًا بَيِّنًا لَا يَخْفَى عَلَى أَحَدٍ ، إِذْ يُفَضِّلُ غُلَامَيْنِ ضَعِيفَيْنِ مِنْ وَلَدِهِ لَا يَقُومَانِ لَهُ بِخِدْمَةٍ نَافِعَةٍ ، عَلَى الْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ وَالْكَسْبِ وَالنَّجْدَةِ .
وَهَذَا الْحُكْمُ مِنْهُمْ عَلَى أَبِيهِمْ جَهْلٌ مُبِينٌ وَخَطَأٌ كَبِيرٌ ، لَعَلَّ سَبَبَهُ اتِّهَامُهُمْ إِيَّاهُ بِإِفْرَاطِهِ فِي حُبِّ أُمِّهِمَا مِنْ قَبْلُ ، فَيَكُونُ مَثَارُهُ الْأَوَّلُ اخْتِلَافَ الْأُمَّهَاتِ بِتَعَدُّدِ الزَّوْجَاتِ وَلَا سِيَّمَا الْإِمَاءُ مِنْهُنَّ ، وَهُوَ الَّذِي أَضَلَّهُمْ عَنْ غَرِيزَةِ الْوَالِدَيْنِ فِي زِيَادَةِ الْعَطْفِ عَلَى صِغَارِ الْأَوْلَادِ وَضِعَافِهِمْ
[ ص: 216 ] وَكَانَا أَصْغَرَ أَوْلَادِهِ ، فَقَدْ سُئِلَ وَالِدٌ بَلِيغٌ : أَيُّ وَلَدِكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ ؟ قَالَ : صَغِيرُهُمْ حَتَّى يَكْبُرَ ، وَغَائِبُهُمْ حَتَّى يَحْضُرَ ، وَمَرِيضُهُمْ حَتَّى يُشْفَى ، وَفَقِيرُهُمْ حَتَّى يُغْنَى ( وَأَشُكُّ فِي هَذِهِ الْأَخِيرَةِ ) .
وَمِنْ فَوَائِدِ الْقِصَّةِ : وُجُوبُ
nindex.php?page=treesubj&link=19833_18000عِنَايَةِ الْوَالِدَيْنِ بِمُدَارَاةِ الْأَوْلَادِ وَتَرْبِيَتِهِمْ عَلَى الْمَحَبَّةِ وَالْعَدْلِ ، وَاتِّقَاءِ وُقُوعِ التَّحَاسُدِ وَالتَّبَاغُضِ بَيْنَهُمْ ، وَمِنْهُ اجْتِنَابُ تَفْضِيلِ بَعْضِهِمْ عَلَى بَعْضٍ بِمَا يَعُدُّهُ الْمَفْضُولُ إِهَانَةً لَهُ وَمُحَابَاةً لِأَخِيهِ بِالْهَوَى ، وَقَدْ نَهَى عَنْهُ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مُطْلَقًا ، وَمِنْهُ سُلُوكُ سَبِيلِ الْحِكْمَةِ فِي تَفْضِيلِ مَنْ فَضَّلَ اللَّهُ - تَعَالَى - بِالْمَوَاهِبِ الْفِطْرِيَّةِ كَمَكَارِمِ الْأَخْلَاقِ وَالتَّقْوَى وَالْعِلْمِ وَالذَّكَاءِ . وَمَا كَانَ
يَعْقُوبُ بِالَّذِي يَخْفَى عَلَيْهِ هَذَا ، وَمَا نَهَى
يُوسُفَ عَنْ قَصِّ رُؤْيَاهُ عَلَيْهِمْ إِلَّا مِنْ عِلْمِهِ بِمَا يَجِبُ فِيهِ . وَلَكِنْ مَا يَفْعَلُ الْإِنْسَانُ بِغَرِيزَتِهِ وَقَلْبِهِ وَرُوحِهِ ؟ أَيَسْتَطِيعُ أَنْ يَحُولَ دُونَ سُلْطَانِهَا عَلَى جَوَارِحِهِ ؟ كَلَّا .
دَلَائِلُ الْعِشْقِ لَا تَخْفَى عَلَى أَحَدٍ كَحَامِلِ الْمِسْكِ لَا يَخْلُو مِنَ الْعَبَقِ
nindex.php?page=treesubj&link=28983_31895_28901 ( nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=9اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضًا ) أَيِ اقْتُلُوهُ قَتْلًا لَا مَطْمَعَ بَعْدَهُ وَلَا أَمَلَ فِي لِقَائِهِ ، أَوِ انْبُذُوهُ كَالشَّيْءِ اللُّقَا الَّذِي لَا قِيمَةَ لَهُ فِي أَرْضٍ مَجْهُولَةٍ بَعِيدَةٍ عَنْ مَسَاكِنِنَا أَوْ عَنِ الْعُمْرَانِ ، بِحَيْثُ لَا يَهْتَدِي إِلَى الْعَوْدَةِ إِلَى أَبِيهِ سَبِيلًا إِنْ هُوَ سَلِمَ فِيهَا مِنَ الْهَلَاكِ : (
nindex.php?page=tafseer&surano=12&ayano=9يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ ) فَيَكُنْ كُلُّ تَوَجُّهِهِ إِلَيْكُمْ ، وَكُلُّ إِقْبَالِهِ عَلَيْكُمْ ، بِخُلُوِّ الدِّيَارِ مِمَّنْ يَشْغَلُهُ عَنْكُمْ أَوْ يُشَارِكُكُمْ فِي عَطْفِهِ وَحُبِّهِ ، وَهَذِهِ الْجُمْلَةُ مِنْ فَرَائِدِ دُرَرِ الْكَلَامِ الْبَلِيغِ ، بِتَصْوِيرِهَا حَصْرَ الْحُبِّ وَتَوَجُّهَ الْإِقْبَالِ وَالْعَطْفِ بِصُورَةِ الضَّرُورِيَّاتِ الَّتِي لَا اخْتِيَارَ لِلرَّأْيِ وَلَا لِلْإِرَادَةِ فِيهَا ، لَا مِنْ ظَاهِرِ الْحِسِّ ، وَلَا مِنْ وِجْدَانِ النَّفْسِ ، بَعْدَ وُقُوعِ هَذِهِ الْجِنَايَةِ الَّتِي تَقْتَضِي إِعْرَاضَ الْوَجْهِ ، وَأَعْرَاضَ الْكَرَاهَةِ وَالْمَقْتِ وَتَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ أَيْ مِنْ بَعْدِ
يُوسُفَ ، أَوْ بَعْدَ قَتْلِهِ أَوْ تَغْرِيبِهِ قَوْمًا صَالِحِينَ تَائِبِينَ إِلَى اللَّهِ مِنْ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ ، مُصْلِحِينَ لِأَعْمَالِكُمْ بِمَا يُكَفِّرُ إِثْمَهَا ، وَعَدَمِ التَّصَدِّي لِمِثْلِهَا ، فَيَرْضَى عَنْكُمْ أَبُوكُمْ وَيَرْضَى رَبُّكُمْ ، هَكَذَا يُزَيِّنُ الشَّيْطَانُ لِلْمُؤْمِنِ الْمُتَدَيِّنِ مَعْصِيَةَ اللَّهِ - تَعَالَى - وَلَا يَزَالُ يَنْزَغُ لَهُ وَيُسَوِّلُ ، وَيَعِدُ وَيُمَنِّي وَيُؤَوِّلُ ، حَتَّى يُرَجِّحَ دَاعِيَ الْإِيمَانِ ، أَوْ يُجِيبَ دَاعِيَ الشَّيْطَانِ ، وَهَذَا الَّذِي غَلَبَ عَلَى إِخْوَةِ
يُوسُفَ فَكَانَ ، وَلَكِنْ بَعْدَ رَأْفَةٍ مُخَفَّفَةٍ لِحُكْمِ الِانْتِقَامِ ، وَهُوَ مُقْتَضَى الْحِكْمَةِ الَّتِي أَرَادَهَا اللَّهُ .