الكلام في الآيتين مستقل ، ووجه اتصال الآية الأولى منهما بما قبلها هو أن في التي قبلها تسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - عن تكذيب اليهود ، وغيرهم له ، ببيان طبيعة الناس في تكذيب الأنبياء السابقين وصبر أولئك على المجاحدة ، والمعاندة ، والكفر . وفي هذه تأكيد للتسلية ، كما قال الإمام الرازي : من حيث إن الموت هو الغاية ، وبه تذهب الأحزان ومن حيث إن بعده دارا يجازى فيها كل ما يستحق ، وقال الأستاذ الإمام : إنها تسلية أخرى ، كأنه يقول : لا تضجر ، ولا تسأم لما ترى من معاندة الكافرين ، فإن هذا منته ، وكل ما له نهاية فلا بد من الوصول إليه ، فالذي يصير إليه هؤلاء المعاندون قريب ، فيجازون على أعمالهم ، ولا تنتظر أن يوفوا جزاء عملهم السيئ كله في هذه الدار ، كما أن أجرك على عملك لا توفاه في هذه الحياة ، فحسبك ما أصبت من الجزاء الحسن ، وحسبهم ما أصيبوا ، وما يصابون به من الجزاء السيئ في الدنيا . واعلم أنه لا يوفى أحد جزاءه في هذه الدار لأن توفية الأجور إنما تكون في الآخرة .
قال : ويصح وصلها بما قبلها من قوله تعالى : ولا يحسبن الذين يبخلون إلخ . أي إن أولئك البخلاء الذين يمنعون الحقوق ، وأولئك المتجرئين على الله والظالمين لرسله والذين عاندوا خاتم النبيين - كل أولئك سيموتون كما يموت غيرهم ، ويوفون أجورهم يوم القيامة - وكذلك لا يحسبن أحد من المؤمنين الذين يقاومون هؤلاء ، ويلقون منهم في سبيل الإيمان ما يلقون أنهم يوفون أجورهم في الدنيا ، كلا ، إنهم إنما يوفون أجورهم يوم القيامة .
وأقول : إن الكلام في الآيتين هو تصريح بما في ضمن الآية السابقة من التسلية للنبي - صلى الله عليه وسلم - ولمن اتبعه ، والتفات إلى خطابهم ، فإن توفية الأجور متبادرة في الخير ، فهذه الآية تمهيد لما بعدها ليسهل على المسلمين وقع إنبائهم بما يبتلون به .
[ ص: 222 ] ثم قال - تعالى - : كل نفس ذائقة الموت والمعنى ظاهر يفهمه كل من يعرف العربية وهو : أن كل حي يموت ، فتذوق نفسه طعم مفارقة البدن الذي تعيش فيه ، ولكنهم أوردوا عليها إشكالات بحسب علوم الفلسفة التي تغلغلت اصطلاحاتها في كتب المسلمين ; لذلك قال الأستاذ الإمام : لكلمة نفس استعمالات يصح في بعض المواضع منها ما لا يصح في موضع آخر ، والمتبادر هنا أن المراد بالنفس ما به الحياة المعروفة في الحيوان ، ولا يصح أن تكون هنا بمعنى الذات ( أي فيقال : إنه يدخل في عمومها البارئ - تعالى - لإضافة لفظ النفس إليه - عز وجل ) ، واستشكلوا موت النفس مع أنها باقية ; لأنها تبعث يوم القيامة ، وإنما يبعث الموجود ، ولو عدمت النفس لما صح أن يقال : إنها تبعث ، وإنما كان يقال توجد .
وأجابوا عنه : كونها باقية لا ينافي كونها تذوق الموت ، فإن الذي يذوق هو الموجود ، والميت لا يذوق لأن الذوق شعور ، فالحالة المخصوصة التي هي مفارقة الروح للبدن إنما تشعر بها النفس ، وأما البدن فلا شعور له لأنه يموت ، ومن العبث ، والجهل البحث في تعريف الموت ، فالموت هو الموت المعروف لكل أحد ، وهناك جواب آخر أبسط من هذا وأظهر ، وهو أن الخطاب هنا على العرف المعهود في التخاطب المتبادر لكل عربي ، وهو أن كل حي يموت .
وإنما توفون أجوركم يوم القيامة وفاه أجره : أعطاه إياه وافيا بالعمل لم ينقصه منه شيئا ، ومهما نال الإنسان من أجر على عمله في الدنيا فإنه لا يوفاه إلا في الآخرة ، والقيامة يوم يقوم الناس لرب العالمين في الحياة التي بعد الموت . واستدل بالآية من ينكر عذاب القبر ونعيمه ، أي ما تذوقه هذه النفوس في البرزخ الذي بين هذه الحياة القصيرة ، وتلك الحياة الطويلة ، وهو ينسب إلى المعتزلة ، ولكن الزمخشري - وهو من أساطينهم - يرد استدلالهم ، قال في الكشاف : فإن قلت : فهذا يوهم نفي ما يروى من أن القبر روضة من رياض الجنة ، أو حفرة من حفر النار ، قلت : كلمة التوفية تزيل هذا الوهم ; لأن المعنى أن توفية الأجور وتكميلها يكون ذلك اليوم وما يكون قبل ذلك فبعض الأجور اهـ .
فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز زحزح عن النار : نحي وأبعد عنها ، واختطف دونهما قبل أن تلتهمه ، قال في الكشاف : الزحزحة تكرير الزح ، وهو الجذب بعجلة ، والذي يهم بمواقعها مرة بعد مرة ( لما في نفسه من الشوائب التي تجذب إليها ) فينحى عنها في كل مرة ( بغلبة تأثير حسناته المضاعفة على سيئاته ) إلى أن يدخل الجنة فائزا فوزا عظيما .
[ ص: 223 ] وذكر الفوز مطلقا غير متعلق به شيء يفيد أنه الفوز العظيم الذي يشمل كل ما يطلبه المرء من سلامة من مكروه ، وفوز بمحبوب ، وناهيك بالسلامة من النار ، والفوز بالنعيم الدائم في دار القرار .
الأستاذ الإمام : ذكر توفية الأجور ، ثم بين ذلك بأبلغ عبارة موجزة إيجازا معجزا فأعلم أن هنالك جنة ونارا ، وأن من الناس من يلقى في تلك ومنهم من يدخل في هذه ، وأبان عظيم هول النار ، وشدتها بالتعبير عن النجاة عنها بالزحزحة كأن كل شخص كان مشرفا على السقوط فيها ، وأن مجرد الزحزحة عنها فوز كبير ، وفيه إيماء إلى أن أعمال الناس سائقة لهم إلى النار ; لأنها حيوانية في الغالب حتى لا يكاد يدخل أحد الجنة إلا بعد أن يكون زحزح عما كان صائرا إليه من السقوط في النار ، أما هؤلاء المزحزحون فهم الذين غلبت في نفوسهم الصفات الروحية على الصفات الحيوانية فأخلصوا في إيمانهم ، وفي أعمالهم ، وجاهدوا في الله حق جهاده حتى لم يبق في نفوسهم شائبة من إشراك غير الله في عمل من الأعمال . أفاد هذا الإيجاز كل هذه المعاني ، ولم يحتج في هذه الآية إلى مثل ما ذكر في آيات أخرى من وصف الجنة والنار لما يقتضيه السياق هنالك من الإطناب ، والتعريف بشيء من أمور عالم الغيب ، وعبر بالفاء في قوله : فمن زحزح للترتيب ، وبيان السبب . كذا كتبت عنه ، وكتبت بجانبه " وفيه نظر " ولعلي كنت أريد مراجعته فيه فنسيت ، والظاهر أن هذه الفاء عاطفة ، وفيها معنى الترتيب دون السبب ، وما بعدها تفصيل لتوفية الأجور .
وما الحياة الدنيا إلا متاع الغرور الدنيا صفة للحياة ، وهي مؤنث الأدنى ، والمتاع ما يتمتع به أي ينتفع به زمنا ممتدا امتدادا طويلا ، أو قصيرا لأنه من المتوع ، وهو الامتداد ، يقال متع النهار ومتع النبات : إذا ارتفع وامتد ، ويقال للآنية : متاع ، قال - تعالى - : ومما يوقدون عليه في النار ابتغاء حلية أو متاع [ 13 : 17 ] وقال في إخوة يوسف : ولما فتحوا متاعهم [ 12 : 65 ] وهو الأوعية بما فيها من الميرة ، والطعام ، والغرور : الخداع ، وأصله إصابة الغرة أي الغفلة ممن تخدعه وتغشه . قال في الكشاف : شبه الدنيا بالمتاع الذي يدلس به على المستام ، ويغر حتى يشتريه ، ثم يتبين له فساده ورداءته .
الأستاذ الإمام : الحياة الدنيا هي السفلى ، أو القربى ، والمراد منها حياتنا هذه ، أي معيشتنا الحاضرة التي نتمتع فيها باللذات الحسية كالأكل ، والشرب ، أو المعنوية كالجاه ، والمنصب ، والسيادة ، هذه الحياة هي أقرب الحياتين ، وأدناهما ، وأحطهما ، وهي على كل حال متاع الغرور ; لأن صاحبها دائما مغرور مخدوع لها تشغله كل حين بجلب لذاتها ودفع آلامها ، فهو يتعب لما لا يستحق التعب ، ويشقى لتوهم السعادة ، ويتعب نقدا ليستريح نسيئة ، والعبارة جاءت بصيغة الحصر فهي تشمل حياة الأبرار الذين يصرفون أعمالهم في نفع الناس حبا بالخير ، وتقربا إلى الله - عز وجل - [ ص: 224 ] من حيث هم متمتعون فيها ، إما من حيث أن لذتهم فيما هم فيه قهرية ، وإما على معنى أنها لا بقاء لها ، أو يقال : إن ما كان من عمل الخير والطاعة ليس من متاع الدنيا ، والحصر بحسب ما عليه الغالب .
وأقول : حاصل معنى الجملة أن الدنيا ليست إلا متاعا من شأنه أن يغر الإنسان ويشغله عن تكميل نفسه بالمعارف الحقيقية ، والأخلاق المرضية التي ترقى بروحه فتعدها لسعادة الآخرة ، فينبغي له أن يحذر من الإسراف في الاشتغال بمتاعها عن نفسه ، فإن أي نوع منه قد يشغله وينسيه نفسه ، وإن لم يكن الاشتغال به ضروريا ، ولا من حاجات المعيشة المعتدلة ، أما ترى المغرمين فيها باللعب واللهو كالشطرنج ، والنرد ، وما في معناهما - وهو كثير في هذا الزمان - كيف يسرفون في حياتهم ، ويفنون أعمارهم بين جدران بيوت اللهو كالقهاوي والحانات . كل حزب بما لديهم فرحون ; لأنهم مغرورون مخدوعون إلا من وفقه الله لصرف معظم زمنه في علم يرقى به عقله ، وعبرة تتزكى بها نفسه ، وعمل صالح ينتفع به ، وينفع به عباد الله - تعالى - مع النية الصالحة ، والقلب السليم ، وما أحسن وصية الحلاج الأخيرة لمريده قبيل قتله : " عليك بنفسك إن لم تشغلها شغلتك " .
وليس لمتاع الدنيا غاية ينتهي العامل إليها فتسكن نفسه ، ويطمئن قلبه بل المزيد منه يغري بزيادة الإسراف في الطلب ، فلا ينتهي أرب منه إلا إلى أرب ، قال الشاعر :
فما قضى أحد منا لبانته ولا انتهى أرب إلا إلى أرب
فمن هدي الدين تنبيه الناس إلى ذلك حتى لا تغلب عليهم الحيوانية فيكونوا من الهالكين .


