الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          ولا تهنوا ولا تحزنوا وأنتم الأعلون إن كنتم مؤمنين الوهن : الضعف في العمل وفي الأمر ، وكذا في الرأي ، والحزن : ألم يعرض للنفس إذا فقدت ما تحب ، أي تضعفوا عن القتال وما يلزمه من التدبير بما أصابكم من الجرح والفشل في أحد ولا تحزنوا على من قتل منكم في ذلك اليوم ، ويصح أن يكون هذا النهي إنشاء بمعنى الخبر ، أي إن ما أصابكم من القرح في أحد ليس مما ينبغي أن يكون موهنا لأمركم ومضعفا لكم في عملكم ولا موجبا لحزنكم وانكسار قلوبكم ; فإنه لم يكن نصرا تاما للمشركين عليكم ، وإنما هو تربية لكم على ما وقع منكم من مخالفة قائدكم - صلى الله عليه وسلم - في تدبيره الحربي المحكم ، وفشلكم وتنازعكم في الأمر ، وذلك خروج عن سنة الله في أسباب الظفر ، وبهذه التربية تكونون أحقاء بألا تعودوا إلى مثل تلك الذنوب ، فتكون التربية خيرا لكم من عدمها بل يجب أن تزيدكم المصائب قوة وثباتا بما تربيكم على اتباع سنن الله في الحزم والبصيرة وإحكام العزيمة واستيفاء الأسباب في القتال وغيره ، وأن تعلموا أن الذين قتلوا منكم شهداء وذلك ما كنتم تتمنونه كما سيأتي ، فتذكره مما يذهب بالحزن من نفس المؤمن ( وهاتان العلتان قد ذكرتا في الآية التي بعد هذه ) وكيف تهنون وتحزنون وأنتم الأعلون بمقتضى سنن الله - تعالى - في جعل العاقبة للمتقين الذين يتقون الحيدان عن سننه ، وفي نصر من ينصره ويتبع سننه بإحقاق الحق وإقامة العدل ، والمؤمنون أجدر بذلك من الكافرين الذين يقاتلون لمحض البغي والانتقام ، أو الطمع فيما في أيدي الناس ، فهمة الكافرين تكون على قدر ما يرمون إليه من الغرض الخسيس ، وما يطلبونه من الغرض القريب ، فهي لا تكون كهمة المؤمن الذي غرضه إقامة الحق والعدل في الدنيا ، والسعادة الباقية في الآخرة ، أي إن كنتم مؤمنين بصدق وعد الله بنصر من ينصره ، وجعل العاقبة للمتقين المتبعين لسننه في نظام الاجتماع بحيث صار هذا الإيمان وصفا ثابتا لكم حاكما في ضمائركم وأعمالكم فأنتم الأعلون وإن أصابكم ما أصابكم . وإذا كان الأمر كذلك فلا تهنوا ولا تحزنوا فإن ما أصابكم يعدكم للتقوى ، فتستحقون تلك العاقبة وهي علو [ ص: 120 ] السيادة عليهم . وقيل : إن كنتم مؤمنين متعلق بالنهي وجملة وأنتم الأعلون حال معترضة . أي فلا تضعفوا ولا تحزنوا إن كنتم مؤمنين ; لأن من مقتضى الإيمان الصبر والثبات والرغبة في إحدى الحسنيين - الظفر أو الشهادة - على أن مجموع الأمة موعود بالحسنيين جميعا ، وإنما يطلب إحداهما الأفراد .

                          وقال الأستاذ الإمام ما معناه : إن الحزن إنما يكون على ما فات الإنسان وخسره مما يحبه ، وسببه أنه يشعر أنه قد فاته بفوته شيء من قوته وفقد بفقده شيئا من عزيمته أو أعضائه ، ذلك بأن صلة الإنسان بمحبوباته من المال والمتاع والناس كالأصدقاء وذي القربى تكسبه قوة وتعطيه غبطة وسرورا ، فإذا هو فقد شيئا منها بلا عوض فإنه يعرض لنفسه ألم الحزن الذي يشبه الظلمة ويسمونه كدرا كأن النفس كانت صافية رائقة فجاء ذلك الانفعال فكدرها بما أزال من صفوها . وقد يقال هنا : لماذا نهاهم عن الوهن بما عرض لهم والحزن على ما فقدوا في " أحد " ، وكل من الوهن والحزن كان قد وقع وهو أمر طبيعي في مثل الحال التي كانوا عليه ؟ والجواب : أن المراد بالنهي ما يمكن أن يتعلق به الكسب من معالجة وجدان النفس بالعمل ولو تكلفا ، كأنه يقول : انظروا في سنن من قبلكم تجدوا أنه ما اجتمع قوم على حق وأحكموا أمرهم وأخذوا أهبتهم وأعدوا لكل أمر عدته ولم يظلموا أنفسهم في العمل لنصرته إلا وظفروا بما طلبوا ، وعوضوا مما خسروا ، فحولوا وجوهكم عن جهة ما خسرتم ، وولوها جهة ما يستقبلكم ، وانهضوا به بالعزيمة والحزم ، مع التوكل على الله - عز وجل - ، والحزن إنما يكون على فقد ما لا عوض منه وأن لكم خير عوض مما فقدتم ، وأنتم الأعلون برجحانكم عليهم في مجموع الوقعتين - بدر وأحد - إذ الذين قتلوا منهم أكثر من الذين قتلوا منكم ، على كثرتهم وقلتكم ، أو جملة وأنتم الأعلون معترضة يراد بها التبشير بما يكون في المستقبل من النصر ، وهما قولان للمفسرين وسواء كانت للتسلية أو للبشارة فهي مرتبطة بالإيمان الصحيح الذي لا شائبة فيه فإن من اخترق هذا الإيمان فؤاده وتمكن من سويدائه ، يكون على يقين من العاقبة ، بعد الثقة من مراعاة السنن العامة والأسباب المطردة ولذلك قال : إن كنتم مؤمنين ومثل هذا الشرط كثير في القرآن وهو ليس للشك ، وإنما يراد به تنبيه المؤمن إلى حاله ومحاسبة نفسه على أعماله .

                          قال الأستاذ الإمام في الدرس : رأيت النبي - صلى الله عليه وسلم - ليلة الخميس الماضية ( غرة ذي القعدة سنة 1320 ) في الرؤيا منصرفا مع أصحابه من أحد وهو يقول : " لو خيرت بين النصر والهزيمة لاخترت الهزيمة " أي لما في الهزيمة من التأديب الإلهي للمؤمنين وتعليمهم أن يأخذوا بالاحتياط ولا يغتروا بشيء بشغلهم عن الاستعداد وتسديد النظر ، وأخذ الأهبة وغير ذلك من الأسباب والسنن .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية