الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                          صفحة جزء
                          كانت اليهود تفاخر مشركي العرب وغيرهم بنسبهم ودينهم ويسمون أنفسهم شعب الله ، وكذلك النصارى ، وقد حكى الله تعالى عنهم قولهم : نحن أبناء الله وأحباؤه ( 5 : 18 ) ، وقوله : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى ( 2 : 111 ) ، وقول اليهود خاصة : لن تمسنا النار إلا أياما معدودة ( 2 : 80 ) ، وكل هذا من تزكيتهم لأنفسهم وغرورهم بهم ، ويقربون قربانهم ويزعمون أنهم لا خطايا لهم ولا ذنوب ، فأنزل الله فيهم : ألم تر إلى الذين يزكون أنفسهم ، وأخرج ابن جرير نحوه عن عكرمة ومجاهد وأبي مالك قاله السيوطي في لباب النقول .

                          أقول : وروى ابن جرير أيضا أن سبب نزولها تزكيتهم لأنفسهم بالآيات التي أشرنا إليها آنفا ، وروي عن السدي أنه قال : نزلت في اليهود ، قالت اليهود : إنا لنعلم أبناءنا التوراة صغارا فلا تكون لهم ذنوب ، وذنوبنا مثل ذنوب أبنائنا ما عملنا بالنهار كفر عنا بالليل ، وذكر روايات أخرى ، ورجح أن تزكيتهم لأنفسهم وصفهم إياها بأنها لا ذنوب لها ولا خطايا ، وأنهم أبناء الله وأحباؤه .

                          أما معنى : ألم تر فقد ذكر قريبا ، والاستفهام للتعجب من حالهم ، وتزكية النفس تكون بالعمل الذي يجعلها زاكية أي طاهرة كثيرة الخير والبركة ، وأصل الزكاء والزكاة : النمو والبركة في الزرع ، ومثله كل نافع ، فتزكية النفس بالفعل عبارة عن تنمية فضائلها وخيراتها ، ولا يتم ذلك إلا باجتناب الشرور التي تعارض الخير وتعوقه ، وهذه التزكية محمودة وهي المرادة بقوله تعالى : قد أفلح من زكاها ( 91 : 9 ) ، أي : نفسه .

                          وتكون بالقول وهو ادعاء الزكاء والكمال ، ومنه تزكية الشهود ، وقد أجمع العقلاء على استقباح تزكية المرء لنفسه بالقول ، ومدحها ولو بالحق ، ولتزكيتها بالباطل أشد قبحا ، وهذا هو المراد هنا ، وهذا النوع من التزكية مصدره الجهل والغرور ، ومن آثاره العتو والاستكبار عن قبول الحق ، والانتفاع بالنصح ، وقد رد الله عليهم بقوله : بل الله يزكي من يشاء أي : ليست العبرة بتزكيتكم لأنفسكم بأنكم أبناء الله وأحباؤه ، وأنكم لا تعذبون في النار وأنكم ستكونون أهل الجنة دون غيركم ؛ لأنكم شعب الله المختار ، بل الله يزكي من يشاء من عباده من جميع الشعوب والأقوام بهدايتهم إلى العقائد الصحيحة ، والآداب الكاملة ، والأعمال الصالحة ، أو شهادة كتابة لهم بموافقة عقائدهم وآدابهم وأخلاقهم وأعمالهم لما جاء فيه : فلا تزكوا أنفسكم هو أعلم بمن اتقى ( 53 : 32 ) .

                          التالي السابق


                          الخدمات العلمية