ستجدون آخرين يريدون أن يأمنوكم ويأمنوا قومهم   هؤلاء فريق من الذين لم يهتدوا بالإسلام ، ولم يتصدوا إلى مجالدة أهله بحد الحسام ، فكانوا مذبذبين بين المؤمنين والكافرين ،   [ ص: 268 ] لا يهمهم إلا سلامة أبدانهم ، والأمن على أرواحهم وأموالهم ، فهم يظهرون لكل من المتحاربين أنهم منهم أو معهم ، روى  ابن جرير  عن مجاهد    : أنهم ناس كانوا يأتون النبي - صلى الله عليه وسلم - فيسلمون رياء فيرجعون إلى قريش  فيرتكسون في الأوثان يبتغون بذلك أن يأمنوا هاهنا وهاهنا ، فأمر بقتالهم إن لم يعتزلوا ويصلحوا اهـ . 
وروي عن  ابن عباس  أنه قال : كلما أرادوا أن يخرجوا من فتنة أركسوا فيها ، وذلك أن الرجل منهم كان يوجد قد تكلم بالإسلام ، فيقرب إلى العود والحجر وإلى العقرب والخنفساء فيقول المشركون له : " قل هذا ربي " للخنفساء والعقرب ، وروي عن قتادة  أنهم حي كانوا بتهامة  ، قالوا : " يا نبي الله ، لا نقاتلك ولا نقاتل قومنا " ، وأرادوا أن يأمنوا نبي الله ويأمنوا قومهم فأبى الله ذلك عليهم فقال : كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها  ، يقول : كما عرض لهم بلاء هلكوا فيه ، وروي عن  السدي  أنها نزلت في نعيم بن مسعود الأشجعي  وكان يأمن في المسلمين والمشركين ، ينقل الحديث بين النبي - صلى الله عليه وسلم - والمشركين ، ولا يبعد أن يكون كل من ذكر من هذا الفريق ، وأن يكون منهم غير من ذكر . 
ونزيد في بيان معنى قوله : كلما ردوا إلى الفتنة أركسوا فيها  ، أنهم كانوا يريدون أن يأمنوا جانب المسلمين إما بإظهار الإسلام ، وإما بالعهد على السلم وترك القتال ومساعدة الكفار على المؤمنين ، ثم يفتنهم المشركون أي : يحملونهم على الشرك أو على مساعدتهم على قتال المسلمين وهو الإركاس فيرتكسون أي : فيتحولون شر التحول معهم ، ثم يعودون إلى ذلك النفاق والارتكاس مرة بعد المرة ، أي فهم قد مردوا على النفاق فلا ينبغي أن يختلف المؤمنون في شأنهم ، وقد بين الله حكمهم بقوله : فإن لم يعتزلوكم ويلقوا إليكم السلم ويكفوا أيديهم فخذوهم واقتلوهم حيث ثقفتموهم  ، أي فإن لم يعتزلوكم بترككم وشأنكم والتزامهم الحياد ، ويلقوا إليكم السلم ، أي زمام المسالمة بالصفة التي تثقون بها حتى كأن زمامها في أيديكم ، وفسره بعضهم بالصلح ، ويكفوا أيديهم عن القتال مع المشركين أو عن الدسائس إن لم يفعلوا ذلك ويؤمن به غدرهم وشرهم فخذوهم واقتلوهم حيث وجدتموهم ، إذ ثبت بالاختبار أنه لا علاج لهم غير ذلك ، فقد قامت الحجة لكم على ذلك ، وذلك قوله - تعالى - : وأولئكم جعلنا لكم عليهم سلطانا مبينا  ، أي : جعلنا لكم حجة واضحة وبرهانا ظاهرا على قتالهم ، فقد روي عن غير واحد أن السلطان في كتاب الله - تعالى - هو الحجة ، وهذا يقابل قوله تعالى فيمن اعتزلوا وألقوا السلم ، فما جعل الله لكم عليهم سبيلا  ، وكل من العبارتين تؤيد بالأخرى في بيان كون القتال لم يشرع في الإسلام إلا لضرورة  ، وأن هذه الضرورة تقدر بقدرها في كل حال . 
قال الرازي    : قال الأكثرون وهذا يدل على أنهم إذا اعتزلوا قتالنا وطلبوا الصلح منا وكفوا أيديهم عن قتالنا لم يجز لنا قتالهم ولا قتلهم ، ونظيره قوله - تعالى - :   [ ص: 269 ] لا ينهاكم الله عن الذين لم يقاتلوكم في الدين ولم يخرجوكم من دياركم أن تبروهم    ( 60 : 8 ) ، وقوله : وقاتلوا في سبيل الله الذين يقاتلونكم ولا تعتدوا    ( 2 : 190 ) ، فخص الأمر بالقتال بمن يقاتلنا دون من لم يقاتلنا  اهـ . 
والظاهر أنه يعني بمقابل الأكثرين من يقول إن في الآيات نسخا ، ولا يظهر النسخ فيها إلا بتكلف ، فما وجه الحرص على هذا التكلف ؟ ويأتي في هذه الآية ما ذكرناه عقب التي قبلها في قتل المرتدين وغيرهم . 
ومن مباحث اللفظ في الآيات أن " الفاء " في قوله تعالى : فتكونون سواء  للعطف لا للجواب ، كقوله : ودوا لو تدهن فيدهنون    ( 68 : 9 ) ، وقوله : أو جاءوكم حصرت صدورهم  ، معطوف على الذين يصلون  والتقدير أو الذين جاءوكم قد حصرت صدورهم ، وقرئ في الشذوذ " حصرة صدورهم " وعندي أنه تفسير للجملة بالحال لا قراءة . 
وقد فسر بعضهم " إلا الذين يصلون إلى قوم    " بصلة النسب ورده المحققون قائلين : إن كفار قريش  الذين يتصل نسبهم بنسب النبي - صلى الله عليه وسلم - لم يمتنع قتالهم ، بل كان أشد القتال منهم وعليهم ، فكيف يمتنع قتال من اتصل بالمعاهدين بالنسب ؟ ويريد من قال ذلك القول أن يفتح بابا أغلقه الإسلام ، وقد سرى سمه حتى إلى بعض من رد هذا القول فجعله بشرى لمن لا بشارة لهم فيه . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					