هذه الآيات في الهجرة نزلت في سياق واحد متصلا بعضها ببعض كما قلنا ، ومن شمله الوعد من المهاجرين في تلك الأثناء ضمرة بن جندب ، فعدوا خبر هجرته من أسباب نزول الشق الأخير من هذه الآية ، وما هو بسبب إلا في اصطلاحهم الذي يتساهلون فيه بإطلاق السبب كما بينا مرارا ، روى ابن أبي حاتم وأبو يعلى بسند جيد عن ابن عباس : خرج ضمرة بن جندب من بيته مهاجرا فقال لأهله : احملوني فأخرجوني من أرض المشركين إلى رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فمات في الطريق قبل أن يصل إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - [ ص: 294 ] فنزل الوحي ومن يخرج من بيته مهاجرا الآية ، ومنهم أبو ضمرة أخرج ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن أبي ضمرة الزرقي ، وكان بمكة فلما نزلت إلا المستضعفين من الرجال والنساء والولدان لا يستطيعون حيلة ، قال : إني لغني وإني لذو حيلة ، فتجهز يريد النبي - صلى الله عليه وسلم - فأدركه الموت بالتنعيم ، فنزلت هذه الآية ومن يخرج من بيته الآية ، ومنهم آخرون قال السيوطي في اللباب بعد إيراد الروايتين المذكورتين آنفا ، وأخرج ابن جرير نحو ذلك من طرق عن سعيد بن جبير وعكرمة وقتادة والسدي والضحاك وغيرهم وسمي في بعضها ضمرة بن العيص أو العيص بن ضمرة ، وفي بعضها جندب بن حمزة الجندعي وفي بعضها الضمري وفي بعضها رجل من بني ضمرة وفي بعضها رجل من خزاعة ، وفي بعضها رجل من بني ليث وفي بعضها من بني كنانة وفي بعضها من بني بكر قال : وأخرج ابن أبي حاتم وابن منده والبارودي في الصحابة عن هشام بن عروة عن أبيه أن الزبير بن العوام قال : هاجر خالد بن حرام إلى أرض الحبشة فنهشته حية في الطريق فمات فنزلت فيه الآية .
وأخرج الأموي في مغازيه عن عبد الملك بن عمير قال : لما بلغ أكثم بن صيفي مخرج النبي - صلى الله عليه وسلم - أراد أن يأتيه فأبى قومه أن يدعوه ، قال : فليأت من يبلغه عني ويبلغني عنه ، فانتدب له رجلان فأتيا النبي - صلى الله عليه وسلم - ، فقالا : نحن رسل أكثم بن صيفي ، وهو يسألك من أنت وما أنت وبم جئت ؟ قال : أنا محمد بن عبد الله ، وأنا عبد الله ورسوله ، ثم تلا عليهم إن الله يأمر بالعدل والإحسان ( 16 : 90 ) ، الآية ، فأتيا أكثم فقالا له ذلك ، فقال : أي قوم ، إنه يأمر بمكارم الأخلاق وينهى عن ملائمها ، فكونوا في هذا الأمر رءوسا ولا تكونوا أذنابا ، فركب بعيره متوجها إلى المدينة فمات في الطريق فنزلت فيه الآية ، مرسل إسناده ضعيف ، وأخرج أبو حاتم في كتاب المعمرين من طريقين عن ابن عباس أنه سئل عن هذه الآية قال : نزلت في أكثم ، قيل : فأين الليثي ؟ قال : هذا قبل الليثي بزمان وهي خاصة عامة اهـ .
ومجموع الروايات يؤيد رأينا من أنها نزلت هي وما قبلها في سياق أحكام الحرب لا منفردة فطبقوها على الوقائع التي حدثت في ذلك العهد ولم تنزل لأجل وقعة معينة منها .


