الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
5144 - وعنه أبي ثعلبة - رضي الله عنه - في قوله تعالى : عليكم أنفسكم لا يضركم من ضل إذا اهتديتم . فقال : أما والله لقد سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : " بل ائتمروا بالمعروف ، وتناهوا عن المنكر ، حتى إذا رأيت شحا مطاعا ، وهوى متبعا ، ودنيا مؤثرة ، وإعجاب كل ذي رأي برأيه ، ورأيت أمرا لا بد لك منه فعليك نفسك ، ودع أمر العوام ، فإن وراءكم أيام الصبر ، فمن صبر فيهن قبض على الجمر ، للعامل فيهن أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله " . قالوا : يا رسول الله ! أجر خمسين منهم ؟ قال : أجر خمسين منكم " . رواه الترمذي ، وابن ماجه .

التالي السابق


5144 - ( وعن أبي ثعلبة ) أي : ابن جرهم بن ثابت الخشني ، بايع النبي - صلى الله عليه وسلم - بيعة الرضوان ، وأرسله إلى قومه فأسلموا ، ونزل بالشام ، ومات بها سنة خمس وخمسين . ( في قوله تعالى : عليكم أنفسكم ) : قال البيضاوي - رحمه الله - أي : احفظوها والزموا إصلاحها ، والجار مع المجرور جعل اسما للزموا ، ولذلك نصب ( أنفسكم ) ، وقرئ بالرفع على الابتداء لا يضركم من ضل إذا اهتديتم أي : لا يضركم الضلال إذا كنتم مهتدين ، ومن الاهتداء أن ينكر المنكر حسب طاقته على ما سبق من الحديث . ولا يضركم يحتمل الرفع على أنه مستأنف ، ويؤيده أن قرئ لا يضركم بالجزم على الجواب أي : للأمر أو على النهي ، لكنه ضمت الراء اتباعا لضمة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة ، ويؤيده قراءة من قرأ لا يضركم بالفتح ولا يضركم بكسر الضاد وضمها أي : مع سكون الراء من ضاره يضيره ويضوره . قال الطيبي رحمه الله : يقول الراوي : سئل أبو ثعلبة في شأن قوله تعالى : عليكم أنفسكم ( فقال ) أي : أبو ثعلبة ( أما ) : بتخفيض الميم للتنبيه ( والله لقد سألت عنها ) أي : عن الآية ( رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال : بل ائتمروا ) أي : امتثلوا ( بالمعروف ) أي : ومنه الأمر به ( وتناهوا ) أي : انتهوا واجتنبوا ( المنكر ) : ومنه الامتناع عن نهيه أو الائتمار بمعنى التأمر كالاختصام بمعنى التخاصم ، ويؤيده التناهي ، والمعنى ليأمر بعضكم بعضا بالمعروف ، وتنه طائفة منكم طائفة عن المنكر . وقال الطيبي رحمه الله : قوله : بل ائتمروا إضراب عن مقدر أي : سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وقلت : أما نترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بناء على ظاهر الآية ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : " لا تتركوا ، بل ائتمروا بالمعروف إلخ . اهـ .

والمعنى كونوا قائمين بهما على وجه كمالهما ، ( حتى إذا رأيت ) أي : أيها المخاطب خطابا عاما ونكتة الإفراد انفراد المستقيم ، واجتماع العامة على العدول عن الطريق القويم ، والمعنى إذا علمت الغالب على [ ص: 3215 ] الناس ( شحا مطاعا ) : أو إذا عرفت شحا أي : بخلا مطاعا بأن أطاعته نفسك وطاوعه غيرك ( وهوى متبعا ) : بصيغة المفعول أي : وهوى للنفس متبوعا ، وطريق الهدى مدفوعا ، وحاصله أن كلا يتبع هواه وما تأمره نفسه الأمارة وما تتمناه ( ودنيا ) : بالقصر ، وفي نسخة بالتنوين وهي عبارة عن المال والجاه في الدار الدنية ( مؤثرة ) أي : مختارة على أمور الدين ودرجات الآخرة ( وإعجاب كل ذي رأي برأيه ) أي : من غير نظر إلى الكتاب والسنة وإجماع الأمة ، والقياس على أقوى الأدلة وترك الاقتداء بنحو الأئمة الأربعة ، والإعجاب بكسر الهمز هو وجدان الشيء حسنا ، ورؤيته مستحسنا بحيث يصير صاحبه به معجبا ، وعن قبول كلام الغير مجنبا وإن كان قبيحا في نفس الأمر ، ( ورأيت أمرا لا بد لك منه ) : بضم الموحدة وتشديد المهملة في جميع النسخ المصححة والأصول المعتمدة . وقال الطيبي رحمه الله : يحتمل أن يكون بالباء الموحدة بمعنى لا فراق لك منه ، والمعنى رأيت أمرا يميل إليه هواك ونفسك من الصفات الذميمة ، حتى إذا قمت بين الناس لا محالة أن تقع فيها ( فعليك نفسك ) : واعتزل عن الناس حذرا من الوقوع ، وأن يكون بالياء المثناة كما في بعض نسخ المصابيح ، والمعنى ، فإن رأيت أمرا لا طاقة لك من دفعه فعليك نفسك اهـ . ونفسك منصوب ، وقيل مرفوع أي : فالواجب أو فيجب عليك حفظها من المعاصي ، لكن يؤيد الأول وهو أن يكون للإغراء بمعنى الزم خاصة نفسك . قوله : ( ودع أمر العوام ) أي : واترك أمر عامة الناس الخارجين عن طريق الخواص ، وحاصله أنه إذا رأيت بعض الناس يعملون المعاصي ، ولا بد لك من السكوت لعجزك فاحفظ نفسك عن المعاصي ، واترك الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ، واشتغل بنفسك ، ودع أمر الناس إلى الله ، فإنه تعالى لا يكلف نفسا إلا وسعها ( فإن وراءكم ) أي : قدامكم من الأزمان الآتية ، أو خلفكم من الأمور الهاوية ( أيام الصبر ) أي : أياما لا طريق لكم فيها إلا الصبر ، أو أياما يحمد فيها الصبر وهو الحبس على خلاف النفس من اختيار العزلة وترك الخلطة والخلوة ، ( فمن صبر فيهن ) أي : في تلك الأيام ( قبض على الجمر ) : يرى يلحقه المشقة بالصبر كمشقة الصابر على قبض الجمر بيده ، وقد أشار إليه الشاطبي بقوله :


وهذا زمان الصبر من لك بالتي كقبص على جمر فتنجو من البلا



( للعامل ) أي : الكامل ، ولو لم يكن مكملا لغيره . ( أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله ) أي : في غير زمانه ( قالوا : يا رسول الله ! أجر خمسين ) : بتقدير الاستفهام ( منهم ) : فيه تأويلان أحدها : أن يكون أجر كل واحد منهم على تقدير أنه غير مبتلى ولم يضاعف أجره ، وثانيهما : أن يراد أجر خمسين منهم أجمعين لم يبتلوا ببلائه ( قال : " أجر خمسين منكم " رواه الترمذي ، وابن ماجه ) : وقد صححه الترمذي ، ورواه ابن جرير ، والبغوي في معجمه ، وابن المنذر ، وابن أبي حاتم ، والطبراني ، وأبو الشيخ ، وابن مردويه ، والحاكم ، وصححه ، والبيهقي في الشعب عن أبي أمية الشعباني قال : أتيت أبا ثعلبة الخشني فقلت له : كيف تصنع في هذه الآية ؟ قال : أي آية ؟ قلت : قوله تعالى : ياأيها الذين آمنوا عليكم أنفسكم قال : أما والله لقد سألت عنها خبيرا ، سألت عنها رسول الله - صلى الله عليه وسلم - الحديث إلى أن قال : " فإن من ورائكم أيام الصبر ، الصابر فيهن مثل القابض على الجمر ، للعامل فيهن مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عملكم " . وقد ذكر البغوي في تفسيره بإسناده إلى ابن المبارك ، عن عتبة بن أبي حكيم ، كما في أصل المشكاة إلى قوله : مثل عمله ، ثم قال : وزاد في غيره ، قال : يا رسول الله ! أجر خمسين منهم ؟ قال : ( أجر خمسين منكم ) .

[ ص: 3216 ]



الخدمات العلمية