الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثاني

212 - عن كثير بن قيس - رضي الله عنه - قال : كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق فجاء رجل فقال : يا أبا الدرداء ! إني جئتك من مدينة رسول - صلى الله عليه وسلم - لحديث بلغني أنك تحدثه عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ما جئت لحاجة . قال : فإني سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : " من سلك طريقا يطلب فيه علما سلك الله به طريقا من طرق الجنة ، وإن الملائكة لتضع أجنحتها رضا لطالب العلم ، وإن العالم يستغفر له من في السماوات ومن في الأرض والحيتان في جوف الماء ، وإن فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب ، وإن العلماء ورثة الأنبياء ، وإن الأنبياء لم يورثوا دينارا ولا درهما ، وإنما ورثوا العلم ، فمن أخذه أخذ بحظ وافر " . رواه أحمد والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والدارمي وسماه الترمذي قيس بن كثير .

التالي السابق


الفصل الثاني

212 - ( عن كثير بن قيس ) : ذكره المصنف في التابعين ( قال : كنت جالسا مع أبي الدرداء في مسجد دمشق ) : بكسر الدال وفتح الميم ويكسر أي : الشام ( فجاءه ) أي : أبا الدرداء ( رجل ) أي : من طلبة العلم ( فقال : يا أبا الدرداء ! ) : يقرأ بالهمزة بعد حرف النداء ولا يكتب رسما ( إني جئتك من مدينة الرسول - صلى الله عليه وسلم - ) : قال ابن حجر : كره الشافعي أن يقال ذلك لأنه لفظ مشترك من رسول الله ورسول غيره ، ولا يرد عليه يا أيها الرسول الآية . لأن خطاب الله لنبيه تشريف له بأي لفظ كان ، وله تعالى أن يخاطب عبيده بما شاء ومن ثم أخذ من قوله تعالى : لا تجعلوا دعاء الرسول بينكم كدعاء بعضكم بعضا أنه يحرم نداؤه باسمه ك " يا محمد " ، أو بكنيته ك " يا أبا القاسم " . قال : وإنما ينادى بنحو : يا رسول الله يا نبي الله ا هـ . وفيه : أن القرينة المانعة من إرادة الإشراك قائمة ، فإنه لا يفهم بل لا يتوهم من مدينة الرسول غير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ونحوه لا سيما إذا انضم إليه - صلى الله عليه وسلم - ( لحديث ) أي : لأجل تحصيل حديث ( بلغني أنك تحدثه ) أي : ذلك الحديث ( عن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - ) ، وهو يحتمل أن يكون سمعه إجمالا ، ويحتمل أن يكون سمع الحديث ، لكن أراد أن يسمعه بلا واسطة لإفادة العلم وزيادة يقينه أو لعلو الإسناد فإنه من الدين ( ما جئت ) : إلىالشام ( لحاجة ) : أخرى ، غير أن أسمعك الحديث ، ثم تحديث أبي الدرداء بما حدثه يحتمل أن يكون مطلوب الرجل بعينه أو يكون بيانا أن سعيه مشكور عند الله ، ولم يذكر هنا ما هو مطلوبه ، والأول أغرب ، والثاني أقرب ( قال ) أي : أبو الدرداء ( فإني ) أي : إذا كان الأمر كذلك فاعلم أني ( سمعت رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقول : ( من سلك ) أي : دخل أو مشى ، ( طريقا ) أي : قريبا أو بعيدا ( يطلب فيه ) أي : في ذلك الطريق أو في ذلك المسلك أو في سلوكه ( علما ) : قال الطيبي : وإنما أطلق الطريق والعلم ليشملا في جنسهما أي طريق كان من مفارقة الأوطان والضرب في البلدان إلى غير ذلك كما سبق ، وأي علم كان من علوم الدين قليلا أو كثيرا رفيعا أو غير رفيع . وفي شرح السنة عن الثوري : ما أعلم اليوم شيئا أفضل من طلب العلم ، قيل له : ليس لهم نية . قال : طلبهم له نية ، أي : سببها ، ولذا قال بعضهم : طلبنا العلم لغير الله فأبى أن يكون إلا لله ، وعن الشافعي رحمه الله : طلب العلم أفضل من صلاة النافلة ا هـ . لأنه إما فرض عين أو فرض كفاية ، وهما أفضل من النافلة . وقال الإمام مالك : العلم الحكمة وهو نور يهدي الله به من يشاء وليس بكثرة المسائل ا هـ . ولعله يشير إلى معنى الآية : يؤتي الحكمة من يشاء " سلك الله به " : الضمير المجرور عائد إلى " من " والباء للتعدية ، أي : جعله سالكا ووفقه أن يسلك طريق الجنة ، وقيل : عائد إلى العلم والباء للسببية ، وسلك بمعنى سهل ، والعائد إلى " من " محذوف ، والمعنى سهل الله له بسبب العلم ( طريقا من طرق الجنة ) : فعلى الأول سلك من السلوك ، وعلى الثاني من السلك ، والمفعول محذوف كقوله تعالى : يسلكه عذابا صعدا قيل : عذابا مفعول ثان ، وعلى التقديرين نسبة سلك إلى الله تعالى على طريق المشاكلة كذا قاله الطيبي ، وقال ابن الملك : فيه إشارة إلى أن طرق الجنة كثيرة ، وكل عمل صالح طريق من طرقها ، وطرق العلم أقرب الطرق إليها وأعظم ا هـ .

[ ص: 296 ] قلت : والأظهر أن كل علم طريق إلى الجنة كما يستفاد من تنكيرهما ، وفيه إيماء إلى أن طرق الجنة محصورة في طرق العلم ، فإن العمل الصالح لا يتصور بدون العلم والله أعلم ، فقول الصوفية الطرق إلى الله بعدد أنفاس المخلوقات مبني على المعرفة وهي نوع من أنواع العلم ، ولأن طريق غير العلم هو طريق الجهل وما اتخذ الله وليا جاهلا ولو اتخذه لعلمه . ( وإن الملائكة ) : اللام للجنس أو للعهد أي : ملائكة الرحمة . قال ابن حجر : ويحتمل أن الملائكة كلهم وهو أنسب بالمعنى المجازي في قوله : ( لتضع أجنحتها رضا ) : حال أو مفعول له على معنى إرادة رضا ليكون فعلا لفاعل الفعل المعلل ( لطالب العلم ) : اللام متعلق برضا ، وقيل : التقدير لأجل الرضا الواصل منها إليه أو لأجل إرضائها الطالب العلم بما يصنع من حيازة الوراثة العظمى وسلوك السن الأسنى . قال زين العرب وغيره : قيل : معناه أنها تتواضع لطالبه توقيرا لعلمه كقوله تعالى : واخفض لهما جناح الذل من الرحمة أي : تواضع لهما ، أو المراد الكف عن الطيران والنزول للذكر كقوله في الحديث السابق : " وحفت بهم الملائكة " أو معناه المعونة وتيسير المؤنة بالسعي في طلبه أو المراد تليين الجانب والانقياد والفيء عليه بالرحمة والانعطاف ، أو المراد حقيقته وإن لم تشاهد ، وهي فرش الجناح وبسطها لطالب العلم لتحمله عليها وتبلغه مقعده من البلاد ، نقله السيد جمال الدين . ونقل ابن القيم عن أحمد بن شعيب قال : كنا عند بعض المحدثين بالبصرة فحدثنا هذا الحديث ، وفي المجلس شخص من المعتزلة فجعل يستهزئ بالحديث فقال : والله لأطرقن غدا نعلي وأطأ بها أجنحة الملائكة ففعل ومشى في النعلين فحفت رجلاه ووقعت فيهما الأكلة . وقال الطبراني : سمعت ابن يحيى الساجي يقول : كنا نمشي في أزقة البصرة إلى باب بعض المحدثين فأسرعنا المشي ، وكان معنا رجل ماجن متهم في دينه فقال : ارفعوا أرجلكم عن أجنحة الملائكة لا تكسروها كالمستهزئ بالحديث ، فما زال عن موضعه حتى حفت رجلاه وسقط إلى الأرض ا هـ .

والحفاء : رقة القدم على ما في القاموس ، وفي رواية في السنن والمسانيد عن صفوان بن عسال قال : قلت يا رسول الله ! جئت أطلب العلم . قال : " مرحبا بطالب العلم إن طالب العلم لتحف به الملائكة وتظله بأجنحتها فيركب بعضها على بعض حتى تبلغ السماء الدنيا من حبهم لما يطلب " . نقله الشيخ ابن القيم ، وقال الحاكم : إسناده صحيح ( وإن العالم ليستغفر له ) ، قال الطيبي : هو مجاز من إرادة استقامة حال المستغفر له ا هـ .

والحقيقة أولى ( من في السماوات ) : لأنهم عرفوا بتعريف العلماء وعظموا بقولهم ( ومن في الأرض ) : قيل : فيه تغليب ، والمراد ما في الأرض لأن بقاءهم وصلاحهم مربوط برأي العلماء وفتواهم ولذلك قيل : ما من شيء من الموجودات حيها وميتها إلا وله مصلحة متعلقة بالعلم ( والحيتان ) : جمع الحوت ( في جوف الماء ) : خص لدفع إيهام أن من في الأرض لا يشمل من في البحر أو تعميما بعد تعميم بأن يراد بالحيتان جميع دواب الماء وهي أكثر من عوالم البر لما جاء : أن عوالم البر أربعمائة عالم ، وعوالم البحر ستمائة عالم . قال ابن الملك : وخص بالذكر بعد دخولها في الجملة المذكورة إذ هي في الماء ا هـ . وبين كلاميه تناقض ، نعم يصلح أن يكون سؤالا وجوابا ثم قال : وإن سلم أن قوله : من في الأرض يشملها فذكرها للإيماء إلى أن العلم ماء ، ولذلك استغفر للعالم لأن السبب لبقائه مختص به قال تعالى : أنزل من السماء ماء فسالت أودية بقدرها قال ابن عباس : الماء العلم والأودية القلوب ا هـ كلامه ، وفيه ما فيه . وقال الطيبي : تخصيص الحيتان للدلالة على أن إنزال المطر ببركتهم حتى إن الحيتان تعيش بسببهم ا هـ . وفي الحديث : بهم تمطرون و بهم ترزقون ( وإن فضل العالم ) : أي : الغالب عليه العلم ، وهو الذي يقوم بنشر العلم بعد أدائه ما توجه إليه من الفرائض والسنن المؤكدة ( على العابد ) أي : الغالب عليه العبادة ، وهو الذي يصرف أوقاته بالنوافل مع كونه عالما بما تصح به العبادة ( كفضل القمر ليلة البدر ) أي : ليلة الرابع عشر ، وبه أول " طه " على حساب الجمل ، وأريد به [ ص: 297 ] النبي - صلى الله عليه وسلم - يعني المشبه به في نهاية النور وغاية الظهور ، فيكون فيه تلميح إلى قوله : " كفضلي على أدناكم " كما في قوله ( على سائر الكواكب ) : إيماء إلى قوله : " أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم " فإن نور المؤمن - ولو كان عابدا - ضعيف إذا لم يكن عالما ، وإنما حملنا الكلام على من غلب عليه أحد الوصفين لا على عالم فقط وعابد فقط ، لأن هذين لا فضل لهما بل إنهما معذبان في النار لتوقف صحة العمل على العلم وكمال العلم على العمل ، بل ورد : ويل للجاهل مرة وويل للعالم سبع مرات ، وورد : أشد الناس عذابا يوم القيامة عالم لم ينفعه الله بعلمه ; لأنه يكون حينئذ ضالا مضلا . وقال القاضي : شبه العالم بالقمر ، والعابد بالكوكب ، لأن كمال العبادة ونورها لا يتعدى من العابد ، ونور العابد يتعدى إلى غيره فيستضيء بنوره المتلقي عن النبي - صلى الله عليه وسلم - كالقمر يتلقى نوره من نور الشمس من خالقها عز وجل ( وإن العلماء ورثة الأنبياء ) : وإنما لم يقل : ورثة الرسل ليشمل الكل قاله ابن الملك : يعني : فإن البعض ورثة الرسل كأصحاب المذاهب ، والباقون ورثة الأنبياء على اختلاف مراتبهم ( وإن الأنبياء لم يورثوا ) : بالتشديد ( دينارا ولا درهما ) أي : شيئا من الدنيا وخصا لأنهما أغلب أنواعها ، وذلك إشارة إلى زوال الدنيا ، وأنهم لم يأخذوا منها إلا بقدر ضرورتهم ، فلم يورثوا شيئا منها ، لئلا يتوهم أنهم كانوا يطلبون شيئا منها يورث عنهم ، على أن جماعة قالوا : إنهم كانوا لا يملكون مبالغة في تنزههم عنها ، ولذا قيل : الصوفي لا يملك ولا يملك ، وفيه إيماء إلى كمال توكلهم على الله تعالى في أنفسهم وأولادهم وإشعار بأن طالب الدنيا ليس من العلماء الورثة ، ولذا قال الغزالي : أقل العلم بل أقل الإيمان أن يعرف أن الدنيا فانية ، وأن العقبى باقية . ونتيجة هذا العلم أن يعرض عن الفاني ويقبل على الباقي . قال ابن الملك : خصوا الدرهم بالذكر لأن نفي الدينار لا يستلزم نفيه ، وفيه أنه لا تخصيص هنا ، والعطف يدل على المغايرة ، وإنما زيدت لا لتأكيد النفي وإرادة المبالغة ثم قال : ولا يرد الاعتراض بأنه عليه الصلاة والسلام كان له صفايا بني النضير وفدك وخيبر إلى أن مات وخلفها ، وكان لشعيب عليه الصلاة والسلام أغنام كثيرة ، وكان أيوب وإبراهيم عليهما الصلاة والسلام ذوي نعمة كثيرة ، لأن المراد أنه ما ورثت أولادهم وأزواجهم شيئا من ذلك بل بقي بعدهم معدا لنوائب المسلمين ا هـ .

ويذكر عن أبي هريرة - رضي الله عنه - أنه مر يوما في السوق بقوم مشتغلين بتجاراتهم فقال : أنتم هاهنا ، وميراث رسول الله - صلى الله عليه وسلم - يقسم في المسجد ؟ فقاموا سراعا إليه فلم يجدوا فيه إلا القرآن والذكر ومجالس العلم فقالوا : أين ما قلت يا أبا هريرة ؟ فقال : هذا ميراث محمد - صلى الله عليه وسلم - يقسم بين ورثته وليس بمواريثه دنياكم ( وإنما ورثوا العلم ) : لإظهار الإسلام ونشر الأحكام ، أو بأحوال الظاهر والباطن على تباين أجناسه واختلاف أنواعه ( فمن أخذه ) : أي : العلم ( أخذ بحظ وافر ) أي : أخذ حظا وافرا يعني نصيبا تاما أي : لا حظ أوفر منه ، والباء زائدة للتأكيد ، أو المراد أخذه متلبسا بحظ وافر من ميراث النبوة ، ويجوز أن يكون " أخذ " بمعنى الأمر أي : فمن أراد أخذه فليأخذ بحظ وافر ولا يقتنع بقليل . هذا زبدة كلام الشرح هنا . ( رواه أحمد ، والترمذي ، وأبو داود ، وابن ماجه ، والدارمي ، وسماه الترمذي ) أي : كثير بن قيس ( قيس بن كثير ) والصحيح أنه كثير بن قيس . قال ميرك شاه : وقال المؤلف في أسماء الرجال للمشكاة : قيس بن كثير سمع أبا الدرداء . هكذا أخرج حديثه الترمذي عن قيس بن كثير وقال : كذا حدثنا محمود بن خداش ، وإنما هو كثير بن قيس ، وكذلك سماه أبو داود كثير بن قيس ، وأورده البخاري في باب كثير لا في باب قيس .

[ ص: 298 ]



الخدمات العلمية