الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
4525 - وعن عائشة - رضي الله عنها - ورافع بن خديج ، عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : " الحمى من فيح جهنم ، فابردوها بالماء " . متفق عليه .

التالي السابق


4525 - ( وعن عائشة ، ورافع بن خديج ) : بفتح الخاء المعجمة وكسر الدال المهملة والجيم ، أنصاري أصابه سهم يوم أحد ، فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : " أنا أشهد لك يوم القيامة " . وأنقضت جراحته زمن عبد الملك بن مروان ، فمات سنة ثلاث وسبعين بالمدينة ، وله ست وثمانون سنة ، روى عنه خلق كثير . ( عن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال : الحمى من فيح جهنم ) : بفتح الفاء وسكون الياء قيل : هو حقيقة ، واللهب الحاصل في جسم المحموم قطعة منها أظهرها الله بأسباب تقتضيها ليعتبر العباد بذلك ، وروى البزار حديث : " الحمى حظ المؤمن من النار " ، وقيل : هـ على جهة التشبيه ، أي حر الحمى شبيه بحر جهنم ، والأول أولى ذكره السيوطي ، فهو تشبيه بليغ ، وقال بعض الشراح : أي من شدة حرها أو من شدة حرارة الطبيعة ، وهي تشبه نار جهنم في كونها معذبة ومذيبة للجسد اهـ . فهو استعارة تبعية .

قال الطيبي : الفيح سطوع الحر وفورانه ، وفيه وجهان . أحدهما : أنه تشبيه قال المظهر : شبه اشتعال حرارة الطبيعة في كونها مذهبة للبرودة ، وثانيهما قال بعضهم : أن الحمى مأخوذ من حرارة جهنم حقيقة أرسلت إلى الدنيا نذيرا للجاحدين وبشيرا للمعتبرين ; لأنها كفارة لذنوبهم وجابرة عن تقصيرهم . قال الطيبي : " من " ليست .

[ ص: 2867 ] بيانية حتى يكون تشبيها كقوله تعالى : حتى يتبين لكم الخيط الأبيض من الخيط الأسود من الفجر ، جعل فهي إما ابتدائية أي الحمى نشأت وحصلت من " فيح جهنم " ، أو تبعيضية أي : بعض منها ، ويدل على هذا التأويل ما ورد في الصحيح : " اشتكت النار إلى ربها فقالت : رب أكل بعضي بعضا فأذن لها بنفسين ، نفس في الشتاء ونفس في الصيف " . الحديث ، فكما أن حرارة الصيف أثر من فيحها كذلك الحمى ، ( فابردوها بالماء ) : بهمز الوصل وفي نسخة بقطعها أي بردوا شدة حرارتها باستعمال الماء البارد ، وهو يحتمل الشرب والاغتسال والصب على بعض البدن كالجبين وكفوف الأيدي والأرجل والله أعلم . وقد جاء في رواية ابن ماجه بالماء البارد ، قيل : وهو خاص ببعض الحميات الحادثة عند شدة الحرارة ، وببعض الأشخاص كأهل الحجاز ، فإن أكثر الحميات التي يعرض لهم عن كثرة الحرارة وشدتها فينفعها الماء البارد شربا وغسلا ، فإنه - صلى الله عليه وسلم - كان " إذا حم دعا بقربة ماء فأهرقها على بدنه " ذكره السيوطي ، وفي رواية بماء زمزم ، وهو شفاء لكل سقم على ما ورد ، والله أعلم .

وقال بعض الشراح : أي اسقوا المحموم الماء ليقع به التبريد ، وقد وجد في كلام بعض الأطباء المتقدمين : إن ذلك أنفع الأدوية وأنجعها في التبريد عن الحميات الحارة ; لأن الماء ينساب بسهولة فيصل إلى أماكن العلة ، ويدفع حرارتها من غير حاجة إلى معاونة الطبيعة ، فلا يشتغل بذلك عن مقاومة العلة ، قال السيوطي : أي أسكنوا حرها به مع همز وصل وقطعها ، وليس المراد الغسل ، بل الرش بين البدن والثوب ، كما قالت أسماء ، وهي أعلم من غيرها . وقال النووي : هو بهمزة وصل وبضم الراء كما جاء في الرواية الأخرى ، فاطفئوها بالماء وهو الصحيح المشهور في الروايات ، وحكى القاضي عياض : أنه يقال بهمزة قطع وكسر الراء في لغة . قال الجوهري : هي لغة رديئة اهـ .

وفي القاموس : برده بردا جعله باردا ، أو خلطه بالثلج ، وأبرده جاء به باردا ، وله سقاه باردا . قال الخطابي : هذا الحديث قد غلط فيه بعض من ينسب إلى العلم ، فانغمس في الماء لما أصابته الحمى ، فاحتقنت الحرارة في باطن بدنه فأصابته عله صعبة كاد يهلك فيها ، فلما خرج من علته قال قولا فاحشا لا يحسن ذكره ، وذلك لجهله بمعنى الحديث ، وذهابه عنه ، فتبريد الحمى الصفراوية بسقي الماء الصادق البرد ، ووضع أطراف المحموم فيه من أنفع العلاج وأسرعه إلى إطفاء نارها وكسر لهيبها ، فإنما أمر بإطفاء الحمى وتبريدها بالماء على هذا الوجه دون الانغماس فيه ، وغط الرأس فيه .

قال النووي : أبردوها بالماء ليس فيه ما يبين صفته وحالته ، والأطباء يسلمون أن الحمى الصفراوية يدبر صاحبها بسقي الماء البارد الشديد البرودة ، ويسقونه الثلج ، ويغسلون أطرافه بالماء البارد ، فلا يبعد أنه - صلى الله عليه وسلم - أراد هذا النوع من الحمى والغسل نحو ما قالوه ، وقد ذكر مسلم هنا في صحيحه عن أسماء : أنه يؤتى بالمرأة الموعوكة فتصب الماء في جيبها ، وتقول : إن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " أبردوها بالماء " فهذه أسماء راوية الحديث ، وقربها من النبي - صلى الله عليه وسلم - معلوم ، وتؤول الحديث على نحو ما قلناه ، فلم يبق للملحد المعترض إلا اختراعه الكذب .

قال الطيبي : أما ما رويناه عن الترمذي ، عن ثوبان أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال : " إذا أصاب أحدكم الحمى ، فإن الحمى قطعة من النار فليطفئها عنه بالماء ، فليستنقع في نهر جار ، وليستقبل جريته فيقول : بسم الله اللهم اشف عبدك وصدق رسولك " إلى قوله : " فإنها لا تكاد تجاوز تسعا بإذن الله عز وجل " ، والحديث بتمامه مذكور في باب صلاة الجنائز فشيء خارج عن قواعد الطبيعة داخل في قسم المعجزات الخارقة للعادة . ألا ترى كيف قال في صدر الحديث : صدق رسولك ، وفي آخره بإذن الله ، وقد شوهد وجرب ، ووجد كما نطق به الصادق المصدوق وصلوات الله عليه ، وعلى من اقتفى أثره قلت : قد تقدم شرح الحديث في محله مبسوطا ، لكن جعل الطيبي هنا قوله - صلى الله عليه وسلم - وفي آخره بإذن الله دليلا على كونه خارقا للعادة عجيب غريب خارق للعادة ، فإن الأمور كلها سواء المعجزات والكرامات وموافق العادات بإذن الله ومشيئته وقدرته وإرادته بالإجماع بلا نزاع ، وأما قول عيسى عليه السلام : وأحيي الموتى بإذن الله ، فإما محمول على الإذن بمعنى الأمر ، وإما إشعار بأن الأمر كله بيد الله ، وأنه لا استقلال للعبد في فعله ، وردا على من يدعي فيه الألوهية والله سبحانه أعلم . ( متفق عليه ) .

[ ص: 2868 ] وفي الجامع الصغير : رواه أحمد والبخاري عن ابن عباس ، ورواه أحمد والشيخان عن ابن عمر ، ورواه الشيخان والترمذي وابن ماجه عن عائشة ، والنسائي عن رافع بن خديج ، والشيخان والترمذي والنسائي عن أسماء بنت أبي بكر . وفي رواية لابن ماجه عن أبي هريرة : ( الحمى كير من جهنم فنحوها عنكم بالماء البارد ) . وروى الطبراني في الأوسط ، عن أنس : " الحمى حظ أمتي من جهنم " ، وفي الكبير عن أبي ريحانة : " الحمى كير من جهنم وهي نصيب المؤمن من النار " . ورواه البزار عن عائشة " الحمى حظ كل مؤمن من النار " . وفي مسند الفردوس للديلمي عن أنس " الحمى شهادة " . وروى القضاعي عن أبي مسعود " الحمى حظ كل مؤمن من النار وحمى ليلة تكفر خطايا سنة مجرمة " : بالجيم أي تامة . وروى ابن نافع عن أسد بن كرز " الحمى تحت الخطايا كما تحت الشجرة ورقها " . وروى ابن السني وأبو نعيم في الطب عن أنس " الحمى رائدة الموت وسجن الله في الأرض " . وروى البيهقي عن الحسن مرسلا : الحمى زائد الموت ، وهي سجن الله في الأرض للمؤمن ، يحبس بها عبده إذا شاء ، ثم يرسله إذا شاء ، فغيروها بالماء ، وكذا ذكره هنا والزهد ، وابن أبي الدنيا في المرض والكفارات .




الخدمات العلمية