الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
صفحة جزء
الفصل الثالث

4625 - عن سمرة بن جندب - رضي الله عنه - قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر أن يقول لأصحابه : " هل رأى أحد منكم من رؤيا ؟ " فيقص عليه من شاء الله أن يقص ، وإنه قال لنا ذات غداة : " إنه أتاني الليلة آتيان ، وإنهما ابتعثاني ، وإنهما قالا لي : انطلق ، وإني انطلقت معهما . وذكر مثل الحديث المذكور في الفصل الأول بطوله ، وفيه زيادة ليست في الحديث المذكور ، وهي قوله : " فأتينا على روضة معتمة ، فيها من كل نور الربيع ، وإذا بين ظهري الروضة رجل طويل ، لا أكاد أرى رأسه طولا في السماء ، وإذا حول الرجل من أكثر ولدان رأيتهم قط . قلت لهما : ما هذا ، ما هؤلاء ؟ " قال : " قالا لي : انطلق ، فانطلقنا ، فانتهينا إلى روضة عظيمة ، لم أر روضة قط أعظم منها ، ولا أحسن " . قال : " قالا لي : ارق فيها " . قال : " فارتقينا فيها ، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ، ولبن فضة ، فأتينا باب المدينة ، فاستفتحنا ، ففتح لنا ، فدخلناها ، فتلقانا فيها رجال ؛ شطر من خلقهم كأحسن ما أنت راء ، وشطر منهم كأقبح ما أنت راء " . قال : " قالا لهم : اذهبوا ، فقعوا في ذلك النهر " . قال : " وإذا نهر معترض يجري كأن ماءه المحض في البياض ، فذهبوا ، فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء عنهم ، فصاروا في أحسن صورة " . وذكر في تفسير هذه الزيادة : " وأما الرجل الطويل الذي في الروضة فإنه إبراهيم ، وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة " . قال : فقال بعض المسلمين : يا رسول الله ! وأولاد المشركين ؟ فقال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : وأولاد المشركين ، وأما القوم الذين كانوا شطر منهم حسن ، وشطر منهم قبيح ، فإنهم قوم قد خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا . تجاوز الله عنهم " . رواه البخاري .

التالي السابق


الفصل الثالث

4625 - ( وعن سمرة بن جندب قال : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - مما يكثر ) : بفتح الياء وضم المثلثة وفاعله ( أن يقول ) : وما موصولة أي : كان من الفريق الذي يكثر قوله ، وفى نسخة صحيحة بضم الياء وكسر الثاء ففيه ضمير فاعل راجع إلى ما ، ومفعوله أن يقول واللام في ( لأصحابه ) : للمشافهة والمقول ( هل رأى أحد منكم من رؤيا ) ؟ أي : شيئا منها ، واقتصر الطيبي - رحمه الله - على الإعراب الأول حيث قال : قوله مما يكثر خبر كان ، وما مما موصولة ويكثر صلته ، والضمير الراجع إلى ما فاعل يقول ، وأن يقول فاعل يكثر ، وهل رأى أحد منكم هو المقول ، أي : كان رسول الله - صلى الله عليه وسلم - من زمرة الذين كثر منهم هذا القول ، فوضع " ما " موضع " من " تعظيما وتفخيما لجانبه - صلى الله عليه وسلم - ، كقوله تعالى : ( والسماء وما بناها ) و ( " سبحان الذي سخر " ) قلت : التعظيم والتفخيم ظاهر باهر في الآيتين ، مع أنه قد يراد بما فيها معنى الصفة على ما هو مقرر عند أرباب الصنعة ، وأما استعمال ما في الحديث على إرادة التفخيم ، فخارج عن صورة التسليم والله بكل شيء عليم . ( فيقص ) : بالرفع ، أي : فهو يقص ( عليه ) : وفي نسخة بالنصب عطفا على يقول وفاعله ( من شاء الله ) : وفي نسخة ما شاء ، أي : الذي أراده الله ( أن يقص ) ، أي : عليه ( وإنه ) : بكسر الهمزة ، أي : الشأن ( قال لنا ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( ذات غدوة ) أي : صبح يوم ( إنه ) أي : الشأن ( أتاني الليلة آتيان ) ، تثنية اسم الفاعل من أتى ، أي : شخصان أو ملكان جاءياني ( وإنهما ابتعثاني ) أي : أثاراني وأذهباني ، وأما ما قيل أن معناه أيقظاني من المنام فلا يناسب المقام ( وإنهما قالا لي : انطلق ، وإني انطلقت معهما ) . قال الطيبي : معطوف على قوله : وإنهما قالا أي : حصل منهما القول ومني الانطلاق ، وذكر - صلى الله عليه وسلم - إن المؤكدة أربع مرات تحقيقا لما رآه ، وتقريرا بقوله " الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءا من النبوة " .

[ ص: 2932 ] ( وذكر ) أي : سمرة بقية هذا الحديث ( مثل الحديث المذكور ) أي : عنه ( في الفصل الأول بطوله ) ، أي بطول الحديث المذكور ( وفيه ) : - صلى الله عليه وسلم - أي : في حديث سمرة هذا ( زيادة ليست في الحديث المذكور ، وهي ) أي : الزيادة ( قوله ) أي : قوله ( فأتينا على روضة معتمة ) ، بضم الميم وسكون المهملة وكسر المثناة وتخفيف الميم ، من العتمة شدة الظلام ، فوصفها بشدة الخضرة ، ولبعضهم بفتح المثناة وتشديد الميم ؛ كذا حققه العسقلاني ، وقال الطيبي أي : طويلة النبات ، يقال : اعتم النبت إذا طال ، قلت : ويؤيد الأول ما في النهاية أعتم يعتم دخل في عتمة الليلة ، وهي ظلمته ، وعليه أيضا يدور جميع ما ذكره صاحب القاموس في هذه المادة ( فيها ) أي : في تلك الروضة ( من كل نور الربيع ) ، بفتح النون أي : زهره ، والمراد بالربيع الفصل المشهور الذي بين الشتاء والصيف ( وإذا بين ظهري الروضة ) أي : في وسطها والظهر مقحم ، وكأنه أريد المبالغة في تحقق الوسط ( رجل طويل ) ، أي ذو طول عظيم ( لا أكاد أرى رأسه طولا ) : نصبه على التمييز ( في السماء ) ، أي : في جهتها وهو تأكيد وإلا فالطول مقابل للعرض ( وإذا حول الرجل ) : بالنصب على أنه ظرف ( من أكثر ولدان رأيتهم ) : الظاهر أن " من " زائدة على ما ذهب إليه الكوفيون والأخفش من تجويز زيادة من في الإثبات ( قط ) . بفتح القاف وضم الطاء المشددة . وفي القاموس : ما رأيته قط ، ويضم ويخففان ويختص بالنفي ماضيا ، وفي مواضع من البخاري : جاء بعد المثبت منها في الكسوف أطول صلاة صليتها قط . وفي سنن أبي داود : توضأ ثلاثا قط ، وأثبتها ابن مالك في الشواهد لغة قال : وهى مما خفي على كثير من النحاة .

وقال الطيبي : أصل التركيب وإذا حول الرجل ولدان ما رأيت ولدانا قط أكثر منهم يشهد له قوله : لم أر روضة قط أعظم منها ، ولما كان التركيب متضمنا لمعنى النفي جاز زيادة من وقط التي تختص بالماضي المنفي ، ونظيره حديث حارثة مرفوعا قال : صلى بنا النبي - صلى الله عليه وسلم - " ونحن أكثر ما كنا قط " . وقد سبق بيانه في باب صلاة السفر . قال صاحب الكشاف ، في قوله تعالى : فشربوا منه إلا قليلا على قراءة الرفع هذا من ميلهم مع المعنى والإعراض عن اللفظ جانبا ، وهو باب جليل من علم العربية . قلت : وهو مشرب الصوفية حيث قالوا : إن الكلام في إعراب المباني يشغل عن إعراب المعاني ، وقد قال الكافيجي : إن أصل النحو ثلاث قواعد ، والباقي من القواعد والاصطلاحات زيادة عليها ، وقد تقرر أن علل النحو اعتبارات بعد الوقوع لا موجبات ، ثم قال الكشاف : فلما كان معنى فشربوا منه في معنى فلم يطيعوه حمل عليه كأنه قيل : فلم يطيعوه إلا قليل منهم . ( قلت لهما : ما هذا ) ، أي : الرجل الطويل ( ما هؤلاء ) ؟ أي : الولدان وما بمعنى " من " أو أريد بها الصفة أي : ما صفة هذا وصفة هؤلاء ؟ وأغرب الطيبي في قوله : ومن حق الظاهر أن يقال من هذا ؟ فكأنه - صلى الله عليه وسلم - لما رأى حاله من الطول المفرط كأنه خفي عليه أنه من أي جنس هو أبشر أم ملك أم جني أم غير ذلك ؟ اهـ . وغرابته لا تخفى إذ مع إطلاق الرجل عليه لا يتصور أن يكون جمادا أو نباتا أو بهيمة ، وكونه ملكا أم جنيا لا يستعدي " ما " ، بل يقتضي " من " أيضا ( قال ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - ( قالا لي : انطلق انطلق ) ، ولعل في تكرار الأمر إشعار بقرب المزار ( فانطلقنا ، فانتهينا إلى روضة عظيمة ، لم أر روضة قط أعظم منها ) ، أي : في الكمية ( ولا أحسن ) أي : منها في الكيفية ( قال : قالا لي : ارق ) : بفتح القاف ، أي : اصعد ( فيها . قال : فارتقينا فيها ، فانتهينا إلى مدينة مبنية بلبن ذهب ، ولبن فضة ) [ ص: 2933 ] بفتح اللام وكسر الموحدة ما يكون على صورة الآجر ، ولعل هذا إشارة إلى جنة المخلصين من التائبين أو غيرهم أو من صرف أوقاته بعضها إلى الطاعة وبعضها إلى الغفلة ، أو بعضها إلى الأفضل ، وبعضها إلى الفاضل . ( فأتينا باب المدينة ، فاستفتحنا ، ففتح لنا ، فدخلناها ، فتلقانا فيها رجال شطر ) أي : نصف أو بعض ( من خلقهم ) أي : من خلقتهم ، وشطر مبتدأ خبره ( كأحسن ما ) أي : مثل أحسن شيء ( أنت راء ) ، أي له في عمرك ، والجملة صفة " رجال " ، وقال الطيبي : الكاف زائدة ، وأظن أن الكلام لا يحتاج إلى القول بالزيادة ( وشطر منهم ) أي : من خلقتهم ( كأقبح ما أنت راء ) . قال الطيبي : يحتمل أن يكون بعضهم موصوفين بأن خلقتهم حسنة وبعضهم قبيحة وأن يكون كل واحد منهم بعضه حسن وبعضه قبيح ، والثاني هو المراد بدليل قوله في التفصيل : فإنهم قوم خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا ، أي : خلط كل واحد عملا صالحا بسيئ وسيئا بصالح . قلت : وقوله من خلقهم أيضا يدفع أن يكون المراد به المعنى الأول ، فتأمل ، نعم لو قال شطر منهم لكان محل التوهم .

( قال : قالا لهم : اذهبوا فقعوا ) : أمر من وقع يقع كقوله تعالى : فإذا سويته ونفخت فيه من روحي فقعوا له ساجدين ، فالمعنى أوقعوا أنفسكم . ( في ذلك النهر ) . أي : المرئي عندهم ( قال : وإذا نهر معترض ) أي : عريض ( يجري ) أي : ماؤه ( كأن ماءه المحض ) أي : اللبن الخالص غير مشوب بشيء ، والمحض من كل شيء الخالص منه ( في البياض ) ، كأنه سمي بالصفة ، ثم استعمل في الصفاء . قال الطيبي : ويمكن أن يراد بالماء عفو الله تعالى عنهم ، أو التوبة منهم كما ورد : اللهم اغسل خطاياي بالماء والثلج والبرد . قلت : إن كان مراده تعبير الماء بالعفو فهو متعين لما سيأتي في التأويل أنه تجاوز الله عنهم ، فلا يحتاج إلى تقييده بالإمكان ، وإن أراد أن الماء المرئي هو العفو فلا خفاء لعدم صحته ( فذهبوا ، فوقعوا فيه ، ثم رجعوا إلينا قد ذهب ذلك السوء ) : بضم أوله ويجوز فتحه ، أي : القبح ( عنهم ، فصاروا ) أي : فرجعوا وانقلبوا ( في أحسن صورة . وذكر ) أي : النبي - صلى الله عليه وسلم - في نسخة بصيغة المجهول أي : قبل ( في تفسير هذه الزيادة : ( وأما الرجل الطويل الذي في الروضة ، فإنه إبراهيم ) أي : الخليل عليه السلام ( وأما الولدان الذين حوله فكل مولود مات على الفطرة ) أي : في الصغر ( قال ) أي : الراوي ( فقال بعض المسلمين : يا رسول الله وأولاد المشركين ) أي : منهم أو هم كذلك .

قال الطيبي : يعني أولاد المشركين الذين ماتوا على الفطرة أداخلون في زمرة هؤلاء الولدان ؟ فأجاب : وأولاد المشركين ، وفيه أن حكم أولاد المشركين الذين غيرت فطرتهم بالتهود والتمجس خلاف هذا ، فالأحاديث الدالة على أن أولاد المشركين في النار توؤل بمن غيرت فطرتهم جمعا بين الدليلين ورفعا للتناقض ، قلت : هذا جمع حسن ، لكن يشعر بوقوع التكليف في حال التمييز بالنسبة إلى أولاد المشركين ، لكن له تعالى أن يعذبهم بكفرهم في صغرهم بناء على عدله ، كما أنه يقبل إيمان الصغير بناء على فضله ( " لا يسأل عما يفعل " ) وقد توقف إمامنا الأعظم في هذا الباب ، وقد سبق هذا المبحث بالإطناب في صدر الكتاب .

[ ص: 2934 ] قال الخطابي : وقول القائل : يا رسول الله ! وأولاد المشركين . فإن ظاهر هذا الكلام أنه ألحقهم بأولاد المسلمين في حكم الآخرة وإن كان قد حكم لهم بحكم آبائهم في الدنيا ، وذلك أنه سئل عن ذراري المشركين ؟ فقال : هم من آبائهم ، وللناس في أطفال المشركين اختلاف ، وعامة أهل السنة على أن حكمهم حكم آبائهم في الكفر ، وقد ذهب طائفة منهم إلى أنهم في الآخرة من أهل الجنة ، وقد روي فيه آثار عن نفر من الصحابة ، واحتجوا لهذه المقالة بحديث النبي - صلى الله عليه وسلم : " كل مولود يولد على الفطرة " ويقول الله عز وجل : وإذا الموءودة سئلت بأي ذنب قتلت وبقوله : يطوف عليهم ولدان مخلدون ; لأن اسم الولدان مشتق من الولادة . ولا ولادة في الجنة ، فكانوا هم الذين نالتهم الولادة في الدنيا ، وروي عن بعضهم أنهم كانوا سبيا وخدما للمسلمين في الدنيا ، فهم خدام لهم في الجنة ( وأما القوم الذين كانوا ) أي : وجدوا ( شطر منهم حسن ، وشطر منهم قبيح ، فإنهم قوم قد ) : للتحقيق على ما في النسخ المصححة ( خلطوا عملا صالحا وآخر سيئا تجاوز الله عنهم . رواه البخاري ) .




الخدمات العلمية