الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
                                        معلومات الكتاب

                                        إحكام الإحكام شرح عمدة الأحكام

                                        ابن دقيق العيد - محمد بن علي بن وهب بن مطيع

                                        صفحة جزء
                                        56 - الحديث الحادي عشر : عن جابر بن عبد الله رضي الله عنهما ، { أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه جاء يوم الخندق بعد ما غربت الشمس فجعل يسب كفار قريش ، وقال : يا رسول الله ، ما كدت أصلي العصر حتى كادت الشمس تغرب . فقال النبي صلى الله عليه وسلم : والله ما صليتها . قال : فقمنا إلى بطحان ، فتوضأ للصلاة ، وتوضأنا لها ، فصلى العصر بعد ما غربت الشمس . ثم صلى بعدها المغرب } .

                                        التالي السابق


                                        [ ص: 188 ] حديث عمر : فيه دليل على جواز سب المشركين لتقرير رسول الله صلى الله عليه وسلم عمر على ذلك . لم يعين في الحديث لفظ السب . فينبغي - مع إطلاقه - أن يحمل على ما ليس بفحش .



                                        وقوله " يا رسول الله ما كدت أصلي العصر " يقتضي أنه صلاها قبل الغروب ; لأن النفي إذا دخل على " كاد " تقتضي وقوع الفعل في الأكثر ، كما في قوله عز وجل { وما كادوا يفعلون } وكذا في الحديث . وقوله صلى الله عليه وسلم " والله ما صليتها " قيل : في هذا القسم إشفاق منه صلى الله عليه وسلم على من تركها ، وتحقيق هذا : أن القسم تأكيد للمقسم عليه . وفي هذا القسم إشعار ببعد وقوع المقسم عليه ، حتى كأنه لا يعتقد وقوعه . فأقسم على وقوعه . وذلك يقتضي تعظيم هذا الترك . وهو مقتض للإشفاق منه ، أو ما يقارب هذا المعنى . وفي الحديث : دليل على عدم كراهية قول القائل " ما صلينا " خلاف ما يتوهمه قوم من الناس . وإنما ترك النبي صلى الله عليه وسلم هذه الصلاة لشغله بالقتال ، كما ورد مصرحا به في حديث آخر . وهو قوله صلى الله عليه وسلم { شغلونا عن الصلاة الوسطى } فتمسك به بعض المتقدمين في تأخير الصلاة في حالة الخوف إلى حالة الأمن . والفقهاء على إقامة الصلاة في حالة الخوف . وهذا الحديث ورد في غزوة الخندق وصلاة الخوف - فيما قيل : شرعت في غزوة ذات الرقاع . وهي بعد ذلك . ومن الناس من سلك طريقا آخر . وهو أن الشغل إن أوجب النسيان ، فالترك للنسيان . وربما ادعي الظهور في الدلالة على النسيان . وليس كذلك ، بل الظاهر : تعليق الحكم بالمذكور لفظا وهو الشغل . وقوله " فقمنا إلى بطحان " اسم موضع ، يقوله المحدثون بضم الباء وسكون الطاء وذكر غيرهم فيه الفتح في الباء والكسر في الطاء دون الضم .



                                        وقوله " فتوضأ للصلاة وتوضأنا لها " قد يشعر بصلاتهم معه صلى الله عليه وسلم جماعة فيستدل به على صلاة الفوائت جماعة . وقوله " فصلى العصر " فيه دليل على تقديم الفائتة على الحاضرة في القضاء . وهو واجب في القليل من الفوائت عند مالك ، وهي ما دون الخمس ، وفي الخمس خلاف . ويستحب عند الشافعي مطلقا . فإذا ضم إلى هذا الحديث [ ص: 189 ] الدليل على اتساع وقت المغرب إلى مغيب الشفق : لم يكن في هذا الحديث دليل على وجوب الترتيب في قضاء الفوائت ; لأن الفعل بمجرده لا يدل على الوجوب ، على المختار عند الأصوليين .

                                        وإن ضم إلى هذا الحديث الدليل على تضييق وقت المغرب : كان فيه دليل على وجوب تقديم الفائتة على الحاضرة عند ضيق الوقت ; لأنه لو لم يجب لم تخرج الحاضرة عن وقتها ، لفعل ما ليس بواجب . فالدلالة من هذا الحديث على حكم الترتيب : تنبني على ترجيح أحد الدليلين على الآخر في امتداد وقت المغرب ، أو على القول بأن الفعل للوجوب .




                                        الخدمات العلمية