[ ص: 118 ] الباب الثالث 
في 
التعزير 
وفي الجواهر : والنظر في موجبه وجنسه ومستوفيه ، أما موجبه : فهو معصية الله تعالى في حقه أو حق آدمي ، وأما قدره  ، فلا حد له ، فلا يقدر أقله ولا أكثره ، بل بحسب اجتهاد الإمام على قدر الجناية ، ويلزم الاقتصار على دون الحدود ، ولا له النهاية إلى حد القتل ، وأما جنسه : فلا يختص بسوط ، أو حد ، أو حبس ، أو غيره ، بل اجتهاد الإمام ، وكان الخلفاء المتقدمون يعاملون بقدر الجاني والجناية ، فمنهم من يضرب ، ومنهم من يحبس ، ومنهم من يقام على قدميه في تلك المحافل ، ومنهم من تنزع عمامته ، ومنهم من يحل إزاره . ويعتبر في ذلك قول القائل ، والمقول له ، والمقول ، فإن كان القائل ممن لا قدر له ، أو عرف بالأذى ، والمقول له من أهل المروءة ، فعقوبته أشد ، أو من أهل الخمر ، فعقوبته أخف ، إلا أن تخف الجناية جدا ، فلا يعاقب ويزجر بالقول إن كان القائل ممن له قدر ، معروفا بالخير . والمقول له على غير ذلك ، زجر بالقول . قال  مالك     : وقد يتجافى السلطان عن الفلتة من ذوي المروءة . وفي الكتاب : إن قال : يا سارق ، نكل ، أو قال : سرق متاعي ، والمقول فيه يتهم ، فلا شيء عليه ، والأنكل ، وإن ناداه ، يا شارب الخمر ، ونحوه ، نكل ، ويا برون ، أو يا حمار ، أو بما يؤذيه ، نكل . 
 [ ص: 119 ] ويجوز العفو والشفاعة في النكال  وإن بلغ الإمام ; لأنه حق لآدمي صرف . قال  مالك     : إذا انتهى للإمام والجاني من أهل العفاف والمروءة ، ووقع ذلك منه فلتة ، تجافى الإمام عنه ، أو من أهل الأذية ، فلا يقله ، ولينكله . قال الأستاذ  أبو بكر     : وظاهر هذه الإطلاقات يقتضي أن التعزير واجب إذا قام به صاحبه ، وإن لم يطالب لم يعزر . ولم يفصل أصحابنا بين حق الآدمي وغيره ، بل أطلقوا عدم الوجوب عند عدم القيام ، وينبغي التفصيل . 
فرع : 
قال : والمعتبر في الدفع : القرآن ، والعلم ، والآداب الإسلامية ، وفي الزناة : الجهل ، ( قاله الأستاذ  أبو بكر     ) . وأما المستوفي للتعزير    : فهو الإمام ، والأب ، والسيد ، ويؤدب الصغير دون الكبير ، ويؤدبه معلمه ، وصاحبه ، ويعزر السيد في حقه وحق الله تعالى ، والزوج في النشوز وما يشبهه مما يتعلق بمنع حقه ; لأن التعزير لو جعل لعامة الناس ; لأدى لتواثب السفهاء للأذية ، وكثرة الهرج والفتن ، والتعزير جائز بشرط سلامة العاقبة  ، فإن سرى ضمنت عاقلته بخلاف الحد ; لأن التعزير باجتهاد ، والحد مقدر لا مدخل له فيه ، فلو لم تترك المرأة النشوز إلا بضرب مخوف ، لم يجز تعزيرها أصلا . 
تنبيه : قال إمام الحرمين : متى كان الجاني ينزجر بالكلمة أو بالضربة الواحدة ، لم تجز الزيادة ; لأن الأذية مفسدة يقتصر منها على ما يدرأ المفاسد ، وإن   [ ص: 120 ] كان لا ينزجر بالعقوبة اللائقة بتلك الجناية ، بل بالمخوفة ، حرم تأديبه مطلقا ، أما اللائق به فإنه لا يفيد ، فهو مفسدة بغير فائدة ، وأما الزيادة المهلكة : فإن سببها لم يوجد ، والصغار والكبار في تلك سواء . 
فرع : 
في الموازية : قال  محمد     : إذا بلغ التعزير قدر الحد ، ضرب عريانا . 
تنبيه : قال ( ح ) : لا يجاوز به أقل الحدود  وهو أربعون حد العبد ، بل ينقص منه سوط ، والتعزير  واجب لا يجوز للإمام تركه ، إلا إذا غلب على ظنه أن غير الضرب مصلحة من الملامة والكلام . وعند ( ش ) قولان في المجاوزة به ، وهو عنده غير واجب على الإمام ، إن شاء أقامه أو تركه . لنا في المسألة قضاء الصحابة - رضي الله عنهم - : زور   معن بن زائدة  كتابا على   عمر بن الخطاب     - رضي الله عنه - ونقش خاتمه مثل نقش خاتمه ، فجلده مائة ، فشفع فيه فقال : أذكرني الطعن ، وكنت ناسيا ، فجلده مائة أخرى ، ثم جلده بعد ذلك مائة أخرى ، وكان رجل يأتي الناس في أسواقهم ومجالسهم ، فيقول : ( والذاريات ذروا    ) ، ويقول : ( والنازعات غرقا    ) ما الذاريات ؟ ما النازعات ؟ ما الفارقات ؟ ما الحاملات ؟ ما الذاريات ؟ وكان يتهم بالحرورية ، فكتب  أبو موسى  إلى  عمر   [ ص: 121 ]   - رضي الله عنهما - فيه فأمر بإقدامه عليه ، فقال له  عمر     : عم تسأل ؟ تسأل عن الذاريات والنازعات ؟ فضربه  عمر     - رضي الله عنه - بجريد النخل حتى أدمى جسده كله ، ثم حبسه حتى كاد يبرأ ، فضربه ، وسجنه ، فعل ذلك به مرارا ، فقال يا أمير المؤمنين : إن كنت تريد قتلي ، فأوجز ، وإن كنت تريد الدواء ، فقد بلغ الدواء مني ، فأطلقه وأمره أن لا يجالس أحدا ، إلى أن كتب إليه  أبو موسى     : إنه قد حسن حاله ، فأمر بمجالسته ، ولم ينكره أحد من الصحابة فكان إجماعا . وقتل رجل عبدا في زمان النبي - صلى الله عليه وسلم - فأمر به فجلد مائة جلدة ، وقال : لا تقبلوا له شهادة   ; ولأن الله تعالى جعل الحدود مختلفة بحسب الجنايات ، فالزنا أعظم جناية وعقوبة من القذف ، والسرقة أعظم منهما ، والحرابة أعظم من الكل ، فوجب أن تختلف التعازير . وتكون على قدر الجنايات في الزجر فإذا زادت على موجب الحد زاد التعزير ، احتجوا بما في الصحيحين : قال - عليه السلام - : ( لا يجلد فوق عشر جلدات في غير حد من حدود الله   ) ، واحتج ( ش ) بأن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - لم يعزر الأنصاري لما قال له : أن كان ابن عمتك - يعني  ابن الزبير     - الحديث ولأنه غير مقدر ، فلا يجب ، كضرب الأب ، والمعلم ، والزوج . 
والجواب عن الأول : أنه خلاف مذهبكم ; لأنكم تزيدون على العشر ، أو لأنه محمول على اتباع السلف ، كماقال  الحسن     : إنكم لتأتون أمورا هي في أعينكم أدق من الشعيرة إن كنا لنعدها من الموبقات ، فكان يكفهم قليل التعزير   [ ص: 122 ] ثم تتابع الناس في المعاصي حتى زوروا خاتما على خاتم  عمر  ، ولذلك قال   عمر بن عبد العزيز  ، تحدث للناس أقضية على قدر ما أحدثوا من الفجور   . ولم يرد نسخ حكم ، بل المجتهد فيه يستقل فيه بالاجتهاد . 
وعن الثاني : أنه حقه - عليه السلام - فله تركه ، أو لأن تلك الكلمات كانت تصدر ، ولم يقصد بها الاهتضام ، من جفاة الأعراب . 
وعن الثالث : أنه ينتقض برياضة الدابة إذا استؤجر عليها ، وقد يجب غير المقدر كنفقات الزوجات والأقارب ، ونصيب الإنسان في بيت المال غير المقدر ، وهو يجب . 
فرع : 
في النوادر : قال  مالك     : إن شتمه جده ، أوعمه ، أو خاله ، فلا شيء عليه إن كان تأديبا ولم ير الأخ مثلهم . 
فائدة : التعزير . قيل : لفظ مشترك بين الإهانة والإكرام ، لقوله تعالى : ( لتؤمنوا بالله ورسوله وتعزروه وتوقروه    ) ، وقيل : بل معناه : المنع ، فتعزير الجناة : منعهم من العود إلى الجنايات ، وتعزير رسول الله - صلى الله عليه وسلم - : منعه من المكاره . 
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					