الفصل الثالث  
فيمن يجوز أن يغسل الميت  
وأما من يجوز أن يغسل الميت ، فإنهم اتفقوا على أن  الرجال يغسلون الرجال   ،  والنساء يغسلن النساء      . واختلفوا في  المرأة تموت مع الرجال   ، أو  الرجل يموت مع النساء   ما لم يكونا زوجين على ثلاثة أقوال :  
1 - فقال قوم : يغسل كل واحد منهما صاحبه من فوق الثياب .  
2 - وقال قوم : ييمم كل واحد منهما صاحبه ، وبه قال   الشافعي  وأبو حنيفة  وجمهور العلماء .  
3 - وقال قوم : لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه ، وبه قال   الليث بن سعد  ، بل يدفن من غير غسل .  
وسبب اختلافهم : هو الترجيح بين تغليب النهي على الأمر ، أو الأمر على النهي ، وذلك أن الغسل مأمور به ، ونظر الرجل إلى بدن المرأة والمرأة إلى بدن الرجل منهي عنه .  
فمن غلب النهي تغليبا مطلقا - أعني : لم يقس الميت على الحي في كون طهارة التراب له بدلا من طهارة الماء عند تعذرها - قال : لا يغسل واحد منهما صاحبه ولا ييممه .  
 [ ص: 191 ] ومن غلب الأمر على النهي قال : يغسل كل واحد منهما صاحبه - أعني : غلب الأمر على النهي تغليبا مطلقا .  
ومن ذهب إلى التيمم فلأنه رأى أنه لا يلحق الأمر والنهي في ذلك تعارض ، وذلك أن النظر إلى مواضع التيمم يجوز لكل الصنفين ، ولذلك رأى  مالك  أن ييمم الرجل المرأة في يديها ووجهها فقط لكون ذلك منها ليسا بعورة ، وأن تيمم المرأة الرجل إلى المرفقين لأنه ليس من الرجل عورة إلا من السرة إلى الركبة على مذهبه ، فكأن الضرورة التي نقلت الميت من الغسل إلى التيمم عند من قال به هي تعارض الأمر والنهي ، فكأنه شبه هذه الضرورة بالضرورة التي يجوز معها للحي التيمم ، وهو تشبيه فيه بعد ، ولكن عليه الجمهور .  
فأما  مالك  فاختلف قوله في هذه المسألة : فمرة قال : ييمم كل واحد منهما صاحبه قولا مطلقا ، ومرة فرق في ذلك بين ذوي المحارم وغيرهم ، ومرة فرق في ذوي المحارم بين الرجال والنساء ، فيتحصل عنه أن له في  ذوي المحارم   ثلاثة أقوال :  
أشهرها : أنه يغسل كل واحد منهما على الثياب .  
والثاني : أنه لا يغسل أحدهما صاحبه لكن ييممه ، مثل قول الجمهور في غير ذوي المحارم .  
والثالث : الفرق بين الرجال والنساء - أعني : تغسل المرأة الرجل ، ولا يغسل الرجل المرأة - .  
فسبب المنع : أن كل واحد منهما لا يحل له أن ينظر إلى موضع الغسل من صاحبه كالأجانب سواء .  
وسبب الإباحة : أنه موضع ضرورة وهم أعذر في ذلك من الأجنبي .  
وسبب الفرق : أن نظر الرجال إلى النساء أغلظ من نظر النساء إلى الرجال ، بدليل أن النساء حجبن عن نظر الرجال إليهن ولم يحجب الرجال عن النساء .  
وأجمعوا من هذا الباب على جواز  غسل المرأة زوجها      . واختلفوا في جواز غسله إياها ، فالجمهور على جواز ذلك; وقال  أبو حنيفة     : لا يجوز  غسل الرجل لزوجته      .  
وسبب اختلافهم : هو تشبيه الموت بالطلاق ، فمن شبهه بالطلاق قال : لا يحل أن ينظر إليها بعد الموت ، ومن لم يشبهه بالطلاق وهم الجمهور قال : إن ما يحل له من النظر إليها قبل الموت يحل له بعد الموت ، وإنما دعا   أبا حنيفة  أن يشبه الموت بالطلاق لأنه رأى أنه إذا ماتت إحدى الأختين حل له نكاح الأخرى ، كالحال فيها إذا طلقت ، وهذا فيه بعد ، فإن علة منع الجمع مرتفعة بين الحي والميت ، ولذلك حلت إلا أن يقال إن علة منع الجمع غير معقولة ، وإن منع الجمع بين الأختين عبادة محضة غير معقولة المعنى ، فيقوى حينئذ مذهب  أبي حنيفة     .  
وكذلك أجمعوا على أن  المطلقة المبتوتة لا تغسل زوجها      . واختلفوا في الرجعية ، فروي عن  مالك  أنها تغسله ، وبه قال  أبو حنيفة  وأصحابه . وقال  ابن القاسم     : لا تغسله وإن كان الطلاق رجعيا وهو قياس قول  مالك  ، لأنه ليس يجوز عنده أن يراها ، وبه قال   الشافعي     .  
وسبب اختلافهم : هو هل يحل للزوج أن ينظر إلى الرجعية أو لا ينظر إليها ؟  
وأما حكم الغاسل : فإنهم اختلفوا فيما يجب عليه ، فقال قوم :  من غسل ميتا وجب عليه الغسل      . وقال قوم : لا غسل عليه .      [ ص: 192 ] وسبب اختلافهم : معارضة حديث   أبي هريرة  لحديث  أسماء  ، وذلك أن   أبا هريرة  روى عن النبي - عليه الصلاة والسلام - أنه قال : "  من غسل ميتا فليغتسل ، ومن حمله فليتوضأ     " خرجه  أبو داود     . وأما  حديث  أسماء  فإنها لما غسلت  أبا بكر     - رضي الله عنه - خرجت فسألت من حضرها من المهاجرين والأنصار وقالت إني صائمة ، وإن هذا يوم شديد البرد فهل علي من غسل ؟ قالوا : لا  ، وحديث  أسماء  في هذا صحيح . وأما حديث   أبي هريرة  فهو عند أكثر أهل العلم فيما حكى  أبو عمر  غير صحيح ، لكن حديث  أسماء  ليس فيه في الحقيقة معارضة له ، فإن من أنكر الشيء يحتمل أن يكون ذلك لأنه لم تبلغه السنة في ذلك الشيء ، وسؤال  أسماء     - والله أعلم - يدل على الخلاف في ذلك في الصدر الأول ، ولهذا كله قال   الشافعي     - رضي الله عنه - على عادته في الاحتياط والالتفات إلى الأثر : لا غسل على من غسل الميت إلا أن يثبت حديث  أبي هريرة     .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					