الجزء الثاني [  أسباب الفساد العامة في البيوع المطلقة      ] وإذا اعتبرت الأسباب التي من قبلها ورد النهي الشرعي في البيوع ، ( وهي أسباب الفساد العامة ) وجدت أربعة : أحدها : تحريم عين المبيع . والثاني : الربا . والثالث : الغرر . والرابع : الشروط التي تئول إلى أحد هذين أو لمجموعهما .  
وهذه الأربعة هي بالحقيقة أصول الفساد ، وذلك أن النهي إنما تعلق فيها بالبيع من جهة ما هو بيع لا لأمر من خارج .  
وأما التي ورد النهي فيها لأسباب من خارج; فمنها الغش; ومنها الضرر; ومنها لمكان الوقت المستحق بما هو أهم منه; ومنها لأنها محرمة البيع .      [ ص: 497 ] ففي هذا الجزء أبواب : الباب الأول في الأعيان المحرمة البيع  
وهذه على ضربين : نجاسات ، وغير نجاسات . فأما  بيع النجاسات   فالأصل في تحريمها حديث  جابر  ، ثبت في الصحيحين قال : قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم : "  إن الله ورسوله حرما بيع الخمر والميتة والخنزير والأصنام ، فقيل : يا رسول الله أرأيت شحوم الميتة فإنه يطلى بها السفن ويستصبح بها ؟ فقال : " لعن الله  اليهود   حرمت الشحوم عليهم فباعوها وأكلوا أثمانها     " ، وقال في الخمر : "  إن الذي حرم شربها حرم بيعها     " .  
والنجاسات على ضربين : ضرب اتفق المسلمون على تحريم بيعها وهي الخمر وأنها نجسة ، إلا خلافا شاذا في الخمر ( أعني : في كونها نجسة ) ، والميتة بجميع أجزائها التي تقبل الحياة ، وكذلك الخنزير بجميع أجزائه التي تقبل الحياة . واختلف في الانتفاع بشعره ، فأجازه  ابن القاسم  ومنه  أصبغ     .  
وأما القسم الثاني ( وهي النجاسات التي تدعو الضرورة إلى استعمالها كالرجيع ، والزبل الذي يتخذ في البساتين ) ، فاختلف في بيعها في المذهب ، فقيل بمنعها مطلقا ، وقيل بإجازتها مطلقا ، وقيل بالفرق بين العذرة والزبل ( أعني : إباحة الزبل ومنع العذرة ) .  
واختلفوا فيما يتخذ من  أنياب الفيل   لاختلافهم هل هو نجس أم لا ؟ فمن رأى أنه ناب جعله ميتة ، ومن رأى أنه قرن معكوس جعل حكمه حكم القرن ، والخلاف فيه في المذهب .  
وأما ما حرم بيعه مما ليس بنجس أو مختلف في نجاسته ، فمنها الكلب والسنور . أما الكلب فاختلفوا في بيعه ، فقال   الشافعي     : لا يجوز  بيع الكلب   أصلا . وقال  أبو حنيفة     : يجوز ذلك . وفرق أصحاب  مالك  بين كلب الماشية والزرع المأذون في اتخاذه ، وبين ما لا يجوز اتخاذه ، فاتفقوا على أن ما لا يجوز اتخاذه لا يجوز بيعه للانتفاع به وإمساكه . فأما من أراده للأكل فاختلفوا فيه ، فمن أجاز أكله أجاز بيعه ، ومن لم يجزه على رواية  ابن حبيب  لم يجز بيعه . واختلفوا أيضا في المأذون في اتخاذه ، فقيل هو حرام ، وقيل مكروه . فأما   الشافعي  ، فعمدته شيئان : أحدهما ثبوت  النهي الوارد عن ثمن الكلب عن النبي - صلى الله عليه وسلم     . والثاني أن الكلب عنده نجس العين كالخنزير ، وقد ذكرنا دليله في ذلك في كتاب الطهارة . وأما من أجاز فعمدته أنه طاهر العين غير محرم الأكل ، فجاز بيعه كالأشياء الطاهرة العين ، وقد تقدم أيضا في كتاب الطهارة استدلال من رأى أنه طاهر العين ، وفي كتاب الأطعمة استدلال من رأى أنه حلال .  
 [ ص: 498 ] ومن فرق أيضا فعمدته أنه غير مباح للأكل ولا مباح الانتفاع به ، إلا ما استثناه الحديث من  كلب الماشية أو كلب الزرع   وما في معناه ، ورويت أحاديث غير مشهورة اقترن فيها بالنهي من ثمن الكلب استثناء أثمان الكلاب المباحة الاتخاذ . وأما النهي عن  ثمن السنور   فثابت ، ولكن الجمهور على إباحته لأنه طاهر العين مباح المنافع . فسبب اختلافهم في الكلاب تعارض الأدلة .  
ومن هذا الباب اختلافهم في  بيع الزيت النجس   وما ضارعه بعد اتفاقهم على تحريم أكله ، فقال  مالك     : لا يجوز بيع الزيت النجس ، وبه قال   الشافعي     ; وقال  أبو حنيفة     : يجوز إذا بين ، وبه قال  ابن وهب  من أصحاب  مالك     . وحجة من حرمه حديث  جابر  المتقدم "  أنه سمع رسول الله - صلى الله عليه وسلم - عام الفتح يقول : إن الله ورسوله حرما الخمر والميتة والخنزير     " . وعمدة من أجازه : أنه إذا كان في الشيء أكثر من منفعة واحدة وحرم منه واحدة من تلك المنافع أنه ليس يلزمه أن يحرم منه سائر المنافع ، ولا سيما إذا كانت الحاجة إلى المنفعة غير المحرمة كالحاجة إلى المحرمة ، فإذا كان الأصل هذا يخرج منه الخمر والميتة والخنزير ، وبقيت سائر محرمات الأكل على الإباحة ( أعني : أنه إن كان فيها منافع سوى الأكل فبيعت لهذا ) جاز ، ورووا عن  علي  ،   وابن عباس  ،   وابن عمر  أنهم أجازوا بيع الزيت النجس ليستصبح به  ، وفي مذهب  مالك  جواز الاستصباح به وعمل الصابون مع تحريم بيعه ، وأجاز ذلك   الشافعي  أيضا مع تحريم ثمنه ، وهذا كله ضعيف ، وقد قيل إن في المذهب رواية أخرى تمنع الاستصباح به وهو ألزم للأصل ( أعني : لتحريم البيع ) .  
واختلف أيضا في المذهب في غسله وطبخه هل هو مؤثر في عين النجاسة ومزيل لها على قولين : أحدهما جواز ذلك ، والآخر منعه ، وهما مبنيان على أن  الزيت إذا خالطته النجاسة هل نجاسته نجاسة عين أو نجاسة مجاورة ؟   فمن رآه نجاسة مجاورة طهره عند الغسل والطبخ ، ومن رآه نجاسة عين لم يطهره عند الطبخ والغسل .  
ومن مسائلهم المشهورة في هذا الباب اختلافهم في جواز  بيع لبن الآدمية إذا حلب   ،  فمالك  ،   والشافعي  يجوزانه ،  وأبو حنيفة  لا يجوزه . وعمدة من أجاز بيعه أنه لبن أبيح شربه فأبيح بيعه قياسا على لبن سائر الأنعام ،  وأبو حنيفة  يرى تحليله إنما هو لمكان ضرورة الطفل إليه ، وأنه في الأصل محرم ، إذ لحم ابن آدم محرم ، والأصل عندهم أن الألبان تابعة للحوم ، فقالوا في قياسهم هكذا الإنسان حيوان لا يؤكل لحمه ، فلم يجز بيع لبنه ، أصله لبن الخنزير ، والأتان . فسبب اختلافهم في هذا الباب تعارض أقيسة الشبه . وفروع هذا الباب كثيرة ، وإنما نذكر من المسائل في كل باب المشهور ؛ ليجري ذلك مجرى الأصول .  
				
						
						
