مسألة [  بيع ما يثمر بطونا مختلفة      ]  
أجمع فقهاء الأمصار على بيع التمر الذي يثمر بطنا واحدا يطيب بعضه وإن لم تطب جملته معا; واختلفوا فيما يثمر بطونا مختلفة; وتحصيل مذهب  مالك  في ذلك أن البطون المختلفة لا تخلو أن تتصل أو لا تتصل ، فإن لم تتصل لم يكن بيع ما لم يخلق منها داخلا فيما خلق ، كشجر التين يوجد فيه الباكور والعصير ، ثم إن اتصلت فلا يخلو أن تتميز البطون أو لا تتميز .      [ ص: 522 ] فمثال المتميز : جز القصيل الذي يجز مدة بعد مدة . ومثال غير المتميز : المباطخ ، والمقاثئ ، والباذنجان ، والقرع ، ففي الذي يتميز عنه وينفصل روايتان : إحداهما الجواز ، والأخرى المنع . وفي الذي يتصل ولا يتميز قول واحد وهو الجواز ، وخالفه الكوفيون ،  وأحمد  ،  وإسحاق  ،   والشافعي  في هذا كله ، فقالوا : لا يجوز بيع بطن منها بشرط بطن آخر . وحجة  مالك  فيما لا يتميز أنه لا يمكن حبس أوله على آخره ، فجاز أن يباع ما لم يخلق منها مع ما خلق وبدا صلاحه ، أصله جواز بيع ما لم يطب من الثمر مع ما طاب ، لأن الغرر في الصفة شبهه بالغرر في عين الشيء ، وكأنه رأى أن الرخصة هاهنا يجب أن تقاس على الرخصة في بيع الثمار ، ( أعني : ما طاب مع ما لم يطب ) لموضع الضرورة ، والأصل عنده أن من الغرر ما يجوز لموضع الضرورة ، ولذلك منع على إحدى الروايتين عنده بيع القصيل بطنا أكثر من واحد لأنه لا ضرورة هناك إذا كان متميزا . وأما وجه الجواز في القصيل فتشبيها له بما لا يتميز وهو ضعيف . وأما الجمهور فإن هذا كله عندهم من بيع ما لم يخلق ، ومن باب النهي عن بيع الثمار معاومة . واللفت ، والجزر ، والكرنب جائز عند  مالك  بيعه إذا بدا صلاحه وهو استحقاقه للأكل ، ولم يجزه   الشافعي  إلا مقلوعا ، لأنه من باب بيع المغيب; ومن هذا الباب بيع الجوز ، واللوز ، والباقلا في قشره ، أجازه  مالك  ، ومنعه   الشافعي     . والسبب في اختلافهم هل هو من الغرر المؤثر في البيوع أم ليس من المؤثر ؟ وذلك أنهم اتفقوا أن الغرر ينقسم بهذين القسمين ، وأن غير المؤثر هو اليسير أو الذي تدعو إليه الضرورة ، أو ما جمع الأمرين . 
ومن هذا الباب بيع السمك في الغدير ، أو البركة اختلفوا فيه أيضا ، فقال  أبو حنيفة     : يجوز ، ومنعه  مالك  ،   والشافعي  فيما أحسب ، وهو الذي تقتضي أصوله . ومن ذلك بيع الآبق أجازه قوم بإطلاق ، ومنعه قوم بإطلاق ومنهم   الشافعي     ; وقال  مالك     : إذا كان معلوم الصفة معلوم الموضع عند البائع ، والمشتري جاز ، وأظنه اشترط أن يكون معلوم الإباق ويتواضعان الثمن ، ( أعني : أنه لا يقبضه البائع حتى يقبضه المشتري ) ، لأنه يتردد عند العقد بين بيع وسلف ، وهذا أصل من أصوله يمنع به النقد في بيع المواضعة وفي بيع الغائب غير المأمون ، وفيما كان من هذا الجنس . وممن قال بجواز  بيع الآبق والبعير الشارد    عثمان البتي     . والحجة   للشافعي  حديث   شهر بن حوشب  ، عن   أبي سعيد الخدري     : "  أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - نهى عن شراء العبد الآبق ، وعن شراء ما في بطون الأنعام حتى تضع ، وعن شراء ما في ضروعها ، وعن شراء الغنائم حتى تقسم     " ، وأجاز  مالك  بيع لبن الغنم أياما معدودة إذا كان ما يحلب منها معروفا في العادة ، ولم يجز ذلك في الشاة الواحدة; وقال سائر الفقهاء : لا يجوز ذلك إلا بكيل معلوم بعد الحلب .  
ومن هذا الباب منع  مالك  بيع اللحم في جلده .  
 [ ص: 523 ] ومن هذا الباب بيع المريض : أجازه  مالك  إلا أن يكون ميئوسا منه; ومنعه   الشافعي  ،  وأبو حنيفة  ، وهي رواية أخرى عنه ، ومن هذا الباب بيع تراب المعدن ، والصواغين ، فأجاز  مالك  بيع تراب المعدن بنقد يخالفه ، أو بعرض ، ولم يجز بيع تراب الصاغة; ومنع   الشافعي  البيع في الأمرين جميعا; وأجازه قوم في الأمرين جميعا ، وبه قال   الحسن البصري     .  
فهذه هي البيوع التي يختلف فيها ، أكثر ذلك من قبل الجهل بالكيفية . وأما اعتبار الكمية فإنهم اتفقوا على أنه لا يجوز أن يباع شيء من المكيل ، أو الموزون ، أو المعدود ، أو المسموح إلا أن يكون معلوم القدر عند البائع والمشتري; واتفقوا على أن العلم الذي يكون بهذه الأشياء من قبل الكيل المعلوم ، أو الصنوج المعلومة مؤثر في صحة البيع ، وفي كل ما كان غير معلوم الكيل ، والوزن عند البائع والمشتري من جميع الأشياء المكيلة والموزونة ، والمعدودة ، والممسوحة ، وأن العلم بمقادير هذه الأشياء التي تكون من قبل الحزر ، والتخمين ، وهو الذي يسمونه الجزاف يجوز في أشياء ويمنع في أشياء . وأصل مذهب  مالك  في ذلك أنه يجوز في كل ما المقصود منه الكثرة لا آحاد وهو عنده أصناف : منها ما أصله الكيل ويجوز جزافا ، وهي المكيلات ، والموزونات; ومنها ما أصله الجزاف ويكون مكيلا ، وهي الممسوحات كالأرضين ، والثياب; ومنها ما لا يجوز فيها التقدير أصلا بالكيل ، والوزن ، بل إنما يجوز فيها العدد فقط ، ولا يجوز بيعها جزافا ، وهي كما قلنا التي المقصود منها آحاد أعيانها . وعند  مالك  أن التبر والفضة غير المسكوكين يجوز بيعهما جزافا ، ولا يجوز ذلك في الدراهم والدنانير; وقال  أبو حنيفة  ،   والشافعي     : يجوز ، ويكره .  
ويجوز عند  مالك  أن تباع  الصبرة المجهولة   على الكيل ( أي : كل كيل منها بكذا ) ، فما كان فيها من الأكيال وقع من تلك القيمة بعد كيلها والعلم بمبلغها; وقال  أبو حنيفة     : لا يلزم إلا في كيل واحد وهو الذي سمياه . ويجوز هذا البيع عند  مالك  في العبيد والثياب ، وفي الطعام ، ومنعه  أبو حنيفة  في الثياب ، والعبيد ، ومنع ذلك غيره في الكل فيما أحسب للجهل بمبلغ الثمن .  
ويجوز عند  مالك  أن يصدق المشتري البائع في كيلها إذا لم يكن البيع نسيئة ، لأنه يتهمه أن يكون صدقه لينظره بالثمن; وعند غيره لا يجوز ذلك حتى يكتالها المشتري  لنهيه صلى الله عليه وسلم - عن بيع الطعام حتى تجري فيه الصيعان;  وأجازه قوم على الإطلاق; وممن منعه  أبو حنيفة  ،   والشافعي  ،  وأحمد     ; وممن أجازه بإطلاق   عطاء بن أبي رباح  ،   وابن أبي مليكة     ; ولا يجوز عند  مالك  أن يعلم البائع الكيل ويبيع المكيل جزافا ممن يجهل الكيل; ولا يجوز عند   الشافعي  ،  وأبي حنيفة     .  
والمزابنة المنهي عنها هي عند  مالك  من هذا الباب ، وهي بيع مجهول الكمية بمجهول الكمية ، وذلك أما في الربويات فلموضع التفاضل ، وأما في غير الربويات فلعدم تحقق القدر .  
				
						
						
