الباب الثاني .
فيما يجوز أن يقتضي من المسلم إليه بدل ما انعقد عليه السلم ، وما يعرض في ذلك من الإقالة ، والتعجيل ، والتأخير .
وفي هذا الباب فروع كثيرة ، لكن نذكر منها المشهور :
مسألة .
اختلف العلماء فيمن أسلم في شيء من الثمر ، فلما حل الأجل تعذر تسليمه حتى عدم ذلك المسلم فيه وخرج زمانه ، فقال الجمهور : إذا وقع ذلك كان المسلم بالخيار بين أن يأخذ الثمن أو يصير إلى العام القابل ، وبه قال الشافعي ، وأبو حنيفة ، وابن القاسم ; وحجتهم أن العقد وقع على موصوف في الذمة فهو باق على أصله ، وليس من شرط جوازه أن يكون من ثمار هذه السنة ، وإنما هو شيء شرطه المسلم فهو في ذلك بالخيار .
وقال أشهب من أصحاب مالك : ينفسخ السلم ضرورة ولا يجوز التأخير ، وكأنه رآه من باب الكالئ بالكالئ . وقال سحنون : ليس له أخذ الثمن ، وإنما له أن يصبر إلى القابل ، واضطرب قول مالك في هذا .
والمعتمد عليه في هذه المسألة ما رآه أبو حنيفة ، والشافعي ، وابن القاسم ، وهو الذي اختاره أبو بكر الطرطوشي ، والكالئ بالكالئ المنهي عنه إنما هو المقصود ، لا الذي يدخل اضطرارا .
مسألة .
اختلف العلماء في بيع المسلم فيه إذا حان الأجل من المسلم إليه قبل قبضه ; فمن العلماء من لم يجز ذلك أصلا ، وهم القائلون بأن كل شيء لا يجوز بيعه قبل قبضه ، وبه قال أبو حنيفة ، وأحمد ، وإسحاق .
وتمسك أحمد ، وإسحاق في منع هذا بحديث عطية العوفي ، عن أبي سعيد الخدري قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أسلم في شيء فلا يصرفه في غيره " .
وأما مالك : فإنه منع شراء المسلم فيه قبل قبضه في موضعين :
أحدهما : إذا كان المسلم فيه طعاما ، وذلك بناء على مذهبه في أن الذي يشترط في بيعه القبض هو الطعام على ما جاء عليه النص في الحديث .
[ ص: 563 ] والثاني : إذا لم يكن المسلم فيه طعاما فأخذ عوضه المسلم ما لا يجوز أن يسلم فيه رأس ماله ، مثل أن يكون المسلم فيه عرضا ، والثمن عرضا مخالفا له فيأخذ المسلم من المسلم إليه إذا حان الأجل شيئا من جنس ذلك العرض الذي هو الثمن ، وذلك أن هذا يدخله إما سلف ، وزيادة إن كان العرض المأخوذ أكثر من رأس مال السلم ، وإما ضمان ، وسلف إن كان مثله أو أقل .
وكذلك إن كان رأس مال السلم طعاما لم يجز أن يأخذ فيه طعاما آخر أكثر ، لا من جنسه ولا من غير جنسه ، فإن كان مثل طعامه في الجنس ، والكيل ، والصفة فيما حكاه عبد الوهاب جاز; لأنه يحمله على العروض .
وكذلك يجوز عنده أن يأخذ من الطعام المسلم فيه طعاما من صفته ، وإن كان أقل جودة ; لأنه عنده من باب البدل في الدنانير . والإحسان مثل أن يكون له عليه قمح فيأخذ بمكيلته شعيرا ، وهذا كله من شرطه عند مالك أن لا يتأخر القبض; لأنه يدخله الدين بالدين .
وإن كان رأس مال السلم عينا وأخذ المسلم فيه عينا من جنسه جاز ما لم يكن أكثر منه ، ولم يتهمه على بيع العين بالعين نسيئة إذا كان مثله ، أو أقل ، وإن أخذ دراهم في دنانير لم يتهمه على الصرف المتأخر ، وكذلك إن أخذ فيه دنانير من غير صنف الدنانير التي هي رأس مال السلم .
وأما بيع السلم من غير المسلم إليه : فيجوز بكل شيء يجوز التبايع به ما لم يكن طعاما; لأنه لا يدخله بيع الطعام قبل قبضه .
وأما الإقالة : فمن شرطها عند مالك أن لا يدخلها زيادة ولا نقصان ، فإن دخلها زيادة أو نقصان كان بيعا من البيوع ، ودخلها ما يدخل البيوع ( أعني : أنها تفسد عنده بما يفسد بيوع الآجال مثل أن يتذرع إلى بيع وسلف ، أو إلى : ضع وتعجل ، أو إلى بيع السلم بما لا يجوز بيعه ) . مثال ذلك : في دخول بيع ، وسلف به إذا حل الأجل ، فأقاله على أن أخذ البعض ، وأقال من البعض ، فإنه لا يجوز عنده ، فإنه يدخله التذرع إلى بيع وسلف ، وذلك جائز عند الشافعي ، وأبي حنيفة ; لأنهما لا يقولان بتحريم بيوع الذرائع .
مسألة .
اختلف العلماء في الشراء برأس مال السلم من المسلم إليه شيئا بعد الإقالة بما لا يجوز قبل الإقالة : فمن العلماء من لم يجزه أصلا ، ورأى أن الإقالة ذريعة إلى أن يجوز من ذلك ما لا يجوز ، وبه قال أبو حنيفة وأصحابه ، ومالك وأصحابه ، إلا أن عند أبي حنيفة لا يجوز على الإطلاق ، إذ كان لا يجوز عنده بيع المسلم فيه قبل القبض على الإطلاق; ومالك يمنع ذلك في المواضع التي يمنع بيع المسلم فيه قبل القبض على ما فصلناه قبل هذا من مذهبه . ومن العلماء من أجازه ، وبه قال الشافعي ، والثوري .
وحجتهم أن بالإقالة قد ملك رأس ماله ، فإذا ملكه جاز له أن يشتري به ما أحب ، والظن الرديء بالمسلمين غير جائز . قال : وأما حديث أبي سعيد فإنه إنما وقع النهي فيه قبل الإقالة .
مسألة .
اختلفوا إذا ندم المبتاع في السلم فقال للبائع : أقلني وأنظرك بالثمن الذي دفعت إليك ، فقال مالك [ ص: 564 ] وطائفة : ذلك لا يجوز .
وقال قوم : يجوز .
واعتل مالك في ذلك مخافة أن يكون المشتري لما حل له الطعام على البائع أخره عنه على أن يقبله ، فكان ذلك من باب بيع الطعام إلى أجل قبل أن يستوفى . وقوم اعتلوا لمنع ذلك بأنه من باب فسخ الدين بالدين .
والذين رأوه جائزا رأوه أنه من باب المعروف ، والإحسان الذي أمر الله تعالى به . قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " من أقال مسلما صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة ، ومن أنظر معسرا أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله " .
مسألة .
أجمع العلماء على أنه كان لرجل على رجل دراهم أو دنانير إلى أجل فدفعها إليه عند محل الأجل وبعده أنه يلزمه أخذها .
واختلفوا في العروض المؤجلة من السلم ، وغيره : فقال مالك والجمهور : إن أتى بها قبل محل الأجل لم يلزمه أخذها . وقال الشافعي : إن كان مما لا يتغير ولا يقصد به النظارة لزمه أخذه كالنحاس ، والحديد ، وإن كان مما يقصد به النظارة كالفواكه لم يلزمه .
وأما إذا أتى به بعد محل الأجل فاختلف في ذلك أصحاب مالك : فروي عنه أنه : يلزمه قبضه ، مثل أن يسلم في قطائف الشتاء ، فيأتي بها في الصيف ، فقال ابن وهب وجماعة : لا يلزمه ذلك .
وحجة الجمهور في أنه لا يلزمه قبض العروض قبل محل الأجل من قبل أنه من ضمانه إلى الوقت المضروب الذي قصده ، ولما كان عليه من المؤنة في ذلك ، وليس كذلك الدنانير ، والدراهم ، إذ لا مؤنة فيها .
ومن لم يلزمه بعد الأجل فحجته أنه رأى أن المقصود من العروض إنما كان وقت الأجل لا غيره . وأما من أجاز ذلك في الوجهين ( أعني : بعد الأجل أو قبله ) فشبهه بالدنانير والدراهم .
مسألة .
اختلف العلماء فيمن أسلم إلى آخر أو باع منه طعاما على مكيلة ما فأخبر البائع أو المسلم إليه المشتري بكيل الطعام ، هل للمشتري أن يقبضه منه دون أن يكيله ، وأن يعمل في ذلك على تصديقه ؟
فقال مالك : ذلك جائز في السلم ، وفي البيع بشرط النقد ، وإلا خيف أن يكون من باب الربا ، كأنه إنما صدقه في الكيل لمكان أنه أنظره بالثمن .
وقال أبو حنيفة ، والشافعي ، والثوري ، والأوزاعي ، والليث : لا يجوز ذلك حتى يكيله البائع للمشتري مرة ثانية بعد أن كاله لنفسه بحضرة البائع .
وحجتهم أنه لما كان ليس للمشتري أن يبيعه إلا بعد أن يكيله لم يكن له أن يقبضه إلا بعد أن يكيله البائع له; لأنه لما كان من شرط البيع الكيل فكذلك القبض . واحتجوا بما جاء في الحديث : " أنه عليه الصلاة والسلام نهى عن بيع الطعام حتى يجري فيه الصاعان : صاع البائع ، وصاع المشتري " .
واختلفوا إذا هلك الطعام في يد المشتري قبل الكيل ، فاختلفا في الكيل ، فقال الشافعي : القول قول [ ص: 565 ] المشتري ، وبه قال أبو ثور . وقال مالك : القول قول البائع; لأنه قد صدقه المشتري عند قبضه إياه ، وهذا مبني عنده على أن البيع يجوز بنفسه تصديقه .


