الفصل الثاني .  
وهو النظر في الضمان .  
والضمان عند الفقهاء على وجهين : بالتعدي ، أو لمكان المصلحة ، وحفظ الأموال .  
فأما بالتعدي : فيجب على المكري باتفاق ، والخلاف إنما هو في نوع التعدي الذي يوجب ذلك أو لا يوجبه وفي قدره :      [ ص: 584 ] فمن ذلك اختلاف العلماء في القضاء فيمن  اكترى دابة إلى موضع ما فتعدى بها إلى موضع زائد على الموضع الذي انعقد عليه الكراء   ، فقال   الشافعي  ،  وأحمد     : عليه الكراء الذي التزمه إلى المسافة المشترطة ، ومثل كراء المسافة التي تعدى فيها . وقال  مالك     : رب الدابة بالخيار في أن يأخذ كراء دابته في المسافة التي تعدى فيها ، أو يضمن له قيمة الدابة . وقال  أبو حنيفة     : لا كراء عليه في المسافة المتعداة ، ولا خلاف أنها إذا تلفت في المسافة المتعداة أنه ضامن لها .  
فعمدة   الشافعي     : أنه تعدى على المنفعة ، فلزمه أجرة المثل ، أصله التعدي على سائر المنافع .  
وأما  مالك  فكأنه لما حبس الدابة عن أسواقها رأى أنه قد تعدى عليها فيها نفسها فشبهه بالغاصب ، وفيه ضعف .  
وأما مذهب  أبي حنيفة  فبعيد جدا عما تقتضيه الأصول الشرعية ، والأقرب إلى الأصول في هذه المسألة هو قول   الشافعي     .  
وعند  مالك     : أن عثار الدابة لو كانت عثورا تعد من صاحب الدابة يضمن بها الحمل ، وكذلك إن كانت الحبال رثة ، ومسائل هذا الباب كثيرة .  
وأما الذين اختلفوا في ضمانهم من غير تعد إلا من جهة المصلحة فهم الصناع ، ولا خلاف عندهم أن الأجير ليس بضامن لما هلك عنده مما استؤجر عليه إلا أن يتعدى ما عدا حامل الطعام ، والطحان ، فإن  مالكا  ضمنه ما هلك عنده ، إلا أن تقوم له بينة على هلاكه من غير سببه .  
وأما  تضمين الصناع   ما ادعوا هلاكه من المصنوعات المدفوعة إليهم ، فإنهم اختلفوا في ذلك ، فقال  مالك  ،   وابن أبي ليلى  ،  وأبو يوسف     : يضمنون ما هلك عندهم . وقال  أبو حنيفة     : لا يضمن من عمل بغير أجر ، ولا الخاص ، ويضمن المشترك ، ومن عمل بأجر .   وللشافعي  قولان في المشترك . والخاص عندهم هو الذي يعمل في منزل المستأجر ، وقيل : هو الذي لم ينتصب للناس ، وهو مذهب  مالك  في الخاص ، وهو عنده غير ضامن ، وتحصيل مذهب  مالك  على هذا أن الصانع المشترك يضمن ، وسواء عمل بأجر أو بغير أجر ، وبتضمين الصناع قال  علي  وعمر  ، وإن كان قد اختلف عن  علي  في ذلك .  
وعمدة من لم ير الضمان عليهم أنه شبه الصانع بالمودع عنده ، والشريك ، والوكيل ، وأجير الغنم .  
ومن ضمنه فلا دليل له إلا النظر إلى المصلحة وسد الذريعة .  
وأما من فرق بين أن يعملوا بأجر أو لا يعملوا بأجر : فلأن العامل بغير أجر إنما قبض المعمول لمنفعة صاحبه فقط ، فأشبه المودع ، وإذا قبضها بأجر فالمنفعة لكليهما ، فغلبت منفعة القابض ، أصله القرض والعارية عند   الشافعي  ، وكذلك أيضا من لم ينصب نفسه لم يكن في تضمينه سد ذريعة .  
والأجير عند  مالك  كما قلنا لا يضمن إلا أنه استحسن تضمين حامل القوت وما يجري مجراه ، وكذلك الطحان ، وما عدا غيرهم فلا يضمن إلا بالتعدي ، وصاحب الحمام لا يضمن عنده ، هذا هو المشهور عنه ، وقد قيل : يضمن . وشذ  أشهب  فضمن الصناع ما قامت البينة على هلاكه عندهم من غير تعد منهم ولا تفريط ، وهو شذوذ ، ولا خلاف أن الصناع لا يضمنون ما لم يقبضوا في منازلهم .  
واختلف أصحاب  مالك  إذا قامت البينة على هلاك المصنوع ، وسقط الضمان عنهم; هل تجب لهم      [ ص: 585 ] الأجرة أم لا ، إذا كان هلاكه بعد إتمام الصنعة أو بعد تمام بعضها ؟ فقال  ابن القاسم     : لا أجرة لهم ، وقال   ابن المواز     : لهم الأجرة .  
ووجه ما قال   ابن المواز  أن المصيبة إذا نزلت بالمستأجر فوجب أن لا يمضي عمل الصانع باطلا .  
ووجه ما قال  ابن القاسم  أن الأجرة إنما استوجبت في مقابلة العمل ، فأشبه ذلك إذا هلك بتفريط من الأجير ، وقول   ابن المواز  أقيس ، وقول  ابن القاسم  أكثر نظرا إلى المصلحة; لأنه رأى أن يشتركوا في المصيبة .  
ومن هذا الباب اختلافهم في  ضمان صاحب السفينة      : فقال  مالك     : لا ضمان عليه ، وقال  أبو حنيفة     : عليه الضمان إلا من الموج .  
وأصل مذهب  مالك     : أن الصناع يضمنون كل ما أتى على أيديهم من حرق ، أو كسر في المصنوع ، أو قطع إذا عمله في حانوته ، وإن كان صاحبه قاعدا معه ، إلا فيما كان فيه تغرير من الأعمال ، مثل ثقب الجواهر ، ونقش الفصوص ، وتقويم السيوف ، واحتراق الخبز عند الفران ، والطبيب يموت العليل من معالجته ، وكذلك البيطار ، إلا أن يعلم أنه تعدى فيضمن حينئذ .  
وأما الطبيب وما أشبهه إذا أخطأ في فعله ، وكان من أهل المعرفة فلا شيء عليه في النفس ، والدية على العاقلة فيما فوق الثلث وفي ماله فيما دون الثلث . وإن لم يكن من أهل المعرفة فعليه الضرب ، والسجن ، والدية ، قيل : في ماله ، وقيل : على العاقلة .  
				
						
						
