فصل  
وأما كون  المباح غير مطلوب الفعل      ; فيدل عليه كثير مما تقدم ; لأن كلا الطرفين من جهته في نفسه على سواء .  
 [ ص: 195 ] وقد استدل من قال : إنه مطلوب ، بأن كل مباح ترك حرام ، وترك الحرام واجب ، فكل مباح واجب . . . ، إلى آخر ما قرر الأصوليون عنه ، لكن هذا القائل يظهر منه أنه يسلم أن المباح - مع قطع النظر عما يستلزم - مستوي الطرفين ، وعند ذلك يكون ما قاله الناس هو الصحيح ; لوجوه : أحدها : لزوم أن لا توجد الإباحة في فعل من الأفعال عينا ألبتة ; فلا      [ ص: 196 ] يوصف فعل من الأفعال الصادرة عن المكلفين بإباحة أصلا ، وهذا باطل باتفاق ; فإن الأمة قبل هذا المذهب لم تزل تحكم على الأفعال بالإباحة ، كما تحكم عليها بسائر الأحكام ، وإن استلزمت ترك الحرام ; فدل على عدم اعتبارها لما يستلزم ؛ لأنه أمر خارج عن ماهية المباح .  
والثاني : أنه لو كان كما قال ؛ لارتفعت الإباحة رأسا عن الشريعة ، وذلك باطل على مذهبه ، ومذهب غيره .  
بيانه أنه إذا كانت الإباحة غير موجودة في الخارج على التعيين ، كان وضعها في الأحكام الشرعية عبثا ; لأن موضوع الحكم هو فعل المكلف ، وقد فرضناه واجبا ، فليس بمباح ، فيبطل قسم المباح أصلا وفرعا ; إذ لا فائدة شرعا في إثبات حكم لا يقضي على فعل من أفعال المكلف .  
والثالث : أنه لو كان كما قال ; لوجب مثل ذلك في جميع الأحكام الباقية ; لاستلزامها ترك الحرام ، فتخرج عن كونها أحكاما مختلفة ، وتصير واجبة .  
فإن التزم ذلك باعتبار الجهتين حسبما نقل عنه ; فهو باطل ; لأنه يعتبر جهة الاستلزام ، [ فلذلك نفى المباح ، فليعتبر جهة الاستلزام ] في الأربعة الباقية فينفها ، وهو خلاف الإجماع والمعقول ; فإن اعتبر في الحرام والمكروه      [ ص: 197 ] جهة النهي ، وفي المندوب جهة الأمر - كالواجب - لزمه اعتبار جهة التخيير في المباح ; إذ لا فرق بينهما من جهة معقولهما .  
فإن قال : يخرج المباح عن كونه [ مباحا ] بما يؤدي إليه أو بما يتوسل به إليه ، فذلك غير مسلم ، وإن سلم فذلك من باب ما لا يتم الواجب إلا به ، والخلاف فيه معلوم ، فلا نسلم أنه واجب ، وإن سلم فكذلك الأحكام الأخر ، فيصير الحرام والمكروه والمندوب واجبات ، والواجب من جهة واحدة واجبا من جهتين ، وهذا كله لا يتحصل له مقصود معتبر في الشرع .  
فالحاصل أن الشارع لا قصد له في فعل المباح دون تركه ، ولا في تركه دون فعله ، بل قصده جعله لخيرة المكلف ، فما كان من المكلف من فعل أو ترك ، فذلك قصد الشارع بالنسبة إليه ; فصار الفعل والترك بالنسبة إلى المكلف كخصال الكفارة ، أيهما فعل فهو قصد الشارع ، لا أن للشارع قصدا في الفعل بخصوصه ، ولا في الترك بخصوصه .  
لكن يرد على مجموع الطرفين إشكال زائد على ما تقدم في الطرف الواحد ، وهو أنه قد جاء في بعض المباحات ما يقتضي قصد الشارع إلى فعله على الخصوص ، وإلى تركه على الخصوص .  
فأما الأول فأشياء ، منها : الأمر بالتمتع بالطيبات ; كقوله      [ ص: 198 ] تعالى :  يا أيها الناس كلوا مما في الأرض حلالا طيبا      [ البقرة : 168 ] .  
وقوله :  يا أيها الذين آمنوا كلوا من طيبات ما رزقناكم واشكروا لله      [ البقرة : 172 ] .  
وقوله :  يا أيها الرسل كلوا من الطيبات واعملوا صالحا      [ المؤمنون : 51 ] .  
إلى أشباه ذلك مما دل الأمر به على قصد الاستعمال .  
وأيضا ; فإن النعم المبسوطة في الأرض لتمتعات العباد التي ذكرت المنة بها ، وقررت عليهم - فهم منها القصد إلى التنعم بها ، لكن بقيد الشكر عليها .  
ومنها : أنه تعالى أنكر على من حرم شيئا مما بث في الأرض من الطيبات ، وجعل ذلك من أنواع ضلالهم ، فقال تعالى :  قل من حرم زينة الله التي أخرج لعباده والطيبات من الرزق قل هي للذين آمنوا في الحياة الدنيا      [ الأعراف : 32 ] أي : خلقت لأجلهم  خالصة يوم القيامة      [ الأعراف : 32 ] لا تباعة فيها ولا إثم ; فهذا ظاهر في القصد إلى استعمالها دون تركها .  
- ومنها : أن هذه النعم هدايا من الله للعبد ، وهل يليق بالعبد عدم قبول هدية السيد ، هذا غير لائق في محاسن العادات ، ولا في مجاري الشرع ، بل قصد المهدي أن تقبل هديته ، وهدية الله إلى العبد ما أنعم به عليه ; فليقبل ، ثم ليشكر له عليها .  
 [ ص: 199 ] وحديث   ابن عمر  ، وأبيه  عمر  في مسألة قصر الصلاة - ظاهر في هذا المعنى ، حيث قال عليه السلام :  إنها صدقة تصدق الله بها عليكم فاقبلوا صدقته  ، زاد في حديث   ابن عمر  الموقوف عليه :  أرأيت لو تصدقت بصدقة فردت عليك ؛ ألم تغضب ؟  ، وفي الحديث :  إن الله يحب أن تؤتى رخصه كما يحب أن تؤتى عزائمه     .  
 [ ص: 200 ] وغالب الرخص في نمط الإباحة نزولا عن الوجوب ; كالفطر في السفر أو التحريم ، كما قاله طائفة في قوله :  ومن لم يستطع منكم طولا أن ينكح المحصنات المؤمنات فمن ما ملكت أيمانكم من فتياتكم المؤمنات      [ النساء : 25 ] إلى آخرها ، وإذا تعلقت المحبة بالمباح ; كان راجح الفعل .  
فهذه جملة تدل على أن المباح قد يكون فعله أرجح من تركه .  
وأما ما يقتضي القصد إلى الترك على الخصوص - فجميع ما تقدم من ذم التنعمات والميل إلى الشهوات على الجملة ، وعلى الخصوص قد جاء ما يقتضي تعلق الكراهة في بعض ما ثبتت له الإباحة ، كالطلاق السني ; فإنه جاء في الحديث ، وإن لم يصح  أبغض الحلال إلى الله الطلاق  ، ولذلك لم      [ ص: 201 ] يأت به صيغة أمر في القرآن ، ولا في السنة كما جاء في التمتع بالنعم ، وإنما جاء مثل قوله :  الطلاق مرتان      [ البقرة : 229 ] .  
فإن طلقها فلا تحل له من بعد      [ البقرة : 230 ] .  
يا أيها النبي إذا طلقتم النساء فطلقوهن لعدتهن      [ الطلاق : 1 ] .  
فإذا بلغن أجلهن فأمسكوهن بمعروف أو فارقوهن بمعروف      [ الطلاق : 1 ] .  
 [ ص: 202 ] ولا شك أن جهة البغض في المباح مرجوحة ، وجاء :  كل لهو باطل إلا ثلاثة     .  
وكثير من أنواع اللهو مباح ، واللعب أيضا مباح ، وقد ذم .  
فهذا كله يدل على أن المباح لا ينافي قصد الشارع لأحد طرفيه على الخصوص دون الآخر ، وذلك مما يدل على أن المباح يتعلق به الطلب فعلا      [ ص: 203 ] وتركا على غير الجهات المتقدمة .  
والجواب من وجهين :  
أحدهما : إجمالي ، والآخر : تفصيلي .  
فالإجمالي أن يقال : إذا ثبت أن المباح عند الشارع هو المتساوي الطرفين ، فكل ما ترجح أحد طرفيه فهو خارج عن كونه مباحا ; إما لأنه ليس بمباح حقيقة ، وإن أطلق عليه لفظ المباح ، وإما لأنه مباح في أصله ، ثم صار غير مباح لأمر خارج ، وقد يسلم أن المباح يصير غير مباح بالمقاصد والأمور الخارجة .  
وأما التفصيلي ; فإن  المباح ضربان      :  
أحدهما : أن يكون خادما لأصل ضروري ، [ أو حاجي ] أو تكميلي .  
والثاني : أن لا يكون كذلك .  
فالأول قد يراعى من جهة ما هو خادم له ; فيكون مطلوبا ، ومحبوبا فعله ، وذلك أن التمتع بما أحل الله من المأكل والمشرب ونحوها - مباح في نفسه ، وإباحته بالجزء ، وهو خادم لأصل ضروري ، وهو إقامة الحياة ; فهو      [ ص: 204 ] مأمور به من هذه الجهة ، ومعتبر ومحبوب من حيث هذا الكلي المطلوب ; فالأمر به راجع إلى حقيقته الكلية لا إلى اعتباره الجزئي ، ومن هنا يصح كونه هدية يليق فيها القبول دون الرد ، لا من حيث هو جزئي معين .  
والثاني : إما أن يكون خادما لما ينقض أصلا من الأصول الثلاثة المعتبرة ، أو لا يكون خادما لشيء ، كالطلاق ; فإنه ترك للحلال الذي هو خادم لكلي إقامة النسل في الوجود ، وهو ضروري ، ولإقامة مطلق الألفة ، والمعاشرة ، واشتباك العشائر بين الخلق ، وهو ضروري أو حاجي أو مكمل لأحدهما ، فإذا كان الطلاق بهذا النظر خرما لذلك المطلوب ، ونقضا عليه - كان مبغضا ، ولم يكن فعله أولى من تركه إلا لمعارض أقوى ; كالشقاق ، وعدم إقامة حدود الله ، وهو من حيث كان جزئيا في هذا الشخص ، وفي هذا الزمان - مباح وحلال ، وهكذا القول فيما جاء من ذم الدنيا ، وقد تقدم ، ولكن لما كان الحلال فيها قد يتناول فيخرم ما هو ضروري - كالدين على الكافر ، والتقوى على العاصي - كان من تلك الجهة مذموما ، وكذلك اللهو ، واللعب ، والفراغ من كل شغل إذا لم يكن في محظور ، ولا يلزم عنه محظور - فهو مباح ، ولكنه مذموم      [ ص: 205 ] ولم يرضه العلماء ، بل كانوا يكرهون أن لا يرى الرجل في إصلاح معاش ، ولا في إصلاح معاد ; لأنه قطع زمان فيما لا يترتب عليه فائدة دنيوية ولا أخروية .  
وفي القرآن :  ولا تمش في الأرض مرحا      ; إذ يشير إلى هذا المعنى .  
وفي الحديث :  كل لهو باطل إلا ثلاثة  ، ويعني بكونه باطلا أنه عبث أو كالعبث ، ليس له فيه فائدة ، ولا ثمرة تجنى ، بخلاف اللعب مع الزوجة ; فإنه مباح يخدم أمرا ضروريا ، وهو النسل ، وبخلاف تأديب الفرس ، وكذلك اللعب بالسهام ; فإنهما يخدمان أصلا تكميليا ، وهو الجهاد ، فلذلك استثنى هذه الثلاثة من اللهو الباطل ، وجميع هذا يبين أن المباح من حيث هو مباح غير مطلوب الفعل ولا الترك بخصوصه .  
 [ ص: 206 ] وهذا الجواب مبني على أصل آخر ثابت في الأحكام التكليفية فلنضعه [ ها ] هنا ، وهي :  
				
						
						
