فصل  
وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية; حتى صار الخلاف في المسائل      [ ص: 93 ] معدودا في حجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف; فإن له نظرا آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع; فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها; فيجعل  الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها   ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا ، وما ليس بحجة حجة .  
حكى  الخطابي  في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال : إن الناس لما اختلفوا في الأشربة ، وأجمعوا على تحريم خمر العنب ، واختلفوا فيما سواه; حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه ، قال : وهذا خطأ فاحش ، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، قال : ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة; لأن الأمة قد اختلفت فيها ، قال : وليس الاختلاف حجة ، وبيان السنة حجة على المختلفين من      [ ص: 94 ] الأولين والآخرين ، هذا مختصر ما قال .  
والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه; فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه .  
ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال ، وعدم التحجير على رأي واحد ، ويحتج في ذلك بما روي عن   القاسم بن محمد   وعمر بن عبد العزيز  وغيرهما مما تقدم ذكره ، ويقول إن  الاختلاف رحمة ،   وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجرت واسعا ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك ، وهذا القول خطأ كله ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله .  
وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ، ولكن نقرر منه هاهنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله ، وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض; إما أن يكون حاكما به ، أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتي .  
 [ ص: 95 ] أما الأول; فلا يصح على الإطلاق; لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين; فكذلك ( أو بالنسبة إلى الأول فكذلك ) أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة ، وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ، ومن هاهنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد ، وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة  قرطبة   حين شرطوا على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان ; فانضبطت الأحكام بذلك ، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط ، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه .  
وأما الثاني; فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز له      [ ص: 96 ] إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول .  
وأيضا; فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا .  
وأما إن كان عاميا; فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب; فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين : لمة ملك ، ولمة شيطان; فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين ، وقد قال تعالى :  ونفس وما سواها   فألهمها فجورها وتقواها      [ الشمس : 7 - 8 ]      [ ص: 97 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا      [ الإنسان : 3 ]  وهديناه النجدين      [ البلد : 10 ] .  
وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات ، والهوى لا يعدوهما ، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي; فهو قائل له : أخرجني عن هواي ، ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت ؟ فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ، ولا ينجيه من هذا أن يقول : ما فعلت إلا بقول عالم; لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل ، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية ، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية ، وجهل بالشريعة ، وغش في النصيحة ، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره ، والتوفيق بيد الله تعالى .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					