الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط


الذنوب والمعاصي تضر ولابد، فإن مما اتفق عليه العلماء وأرباب السلوك أن للمعاصي آثارا وثارات، وأن لها عقوبات على قلب العاصي وبدنه، وعلى دينه وعقله، وعلى دنياه وآخرته.

اختيار هذا الخط
فهرس الكتاب
              صفحة جزء
              فصل

              وقد زاد هذا الأمر على قدر الكفاية; حتى صار الخلاف في المسائل [ ص: 93 ] معدودا في حجج الإباحة ، ووقع فيما تقدم وتأخر من الزمان الاعتماد في جواز الفعل على كونه مختلفا فيه بين أهل العلم ، لا بمعنى مراعاة الخلاف; فإن له نظرا آخر ، بل في غير ذلك ، فربما وقع الإفتاء في المسألة بالمنع; فيقال لم تمنع والمسألة مختلف فيها; فيجعل الخلاف حجة في الجواز لمجرد كونها مختلفا فيها ، لا لدليل يدل على صحة مذهب الجواز ، ولا لتقليد من هو أولى بالتقليد من القائل بالمنع ، وهو عين الخطأ على الشريعة حيث جعل ما ليس بمعتمد معتمدا ، وما ليس بحجة حجة .

              حكى الخطابي في مسألة البتع المذكور في الحديث عن بعض الناس أنه قال : إن الناس لما اختلفوا في الأشربة ، وأجمعوا على تحريم خمر العنب ، واختلفوا فيما سواه; حرمنا ما اجتمعوا على تحريمه وأبحنا ما سواه ، قال : وهذا خطأ فاحش ، وقد أمر الله تعالى المتنازعين أن يردوا ما تنازعوا فيه إلى الله والرسول ، قال : ولو لزم ما ذهب إليه هذا القائل للزم مثله في الربا والصرف ونكاح المتعة; لأن الأمة قد اختلفت فيها ، قال : وليس الاختلاف حجة ، وبيان السنة حجة على المختلفين من [ ص: 94 ] الأولين والآخرين ، هذا مختصر ما قال .

              والقائل بهذا راجع إلى أن يتبع ما يشتهيه ، ويجعل القول الموافق حجة له ويدرأ بها عن نفسه; فهو قد أخذ القول وسيلة إلى اتباع هواه ، لا وسيلة إلى تقواه ، وذلك أبعد له من أن يكون ممتثلا لأمر الشارع ، وأقرب إلى أن يكون ممن اتخذ إلهه هواه .

              ومن هذا أيضا جعل بعض الناس الاختلاف رحمة للتوسع في الأقوال ، وعدم التحجير على رأي واحد ، ويحتج في ذلك بما روي عن القاسم بن محمد وعمر بن عبد العزيز وغيرهما مما تقدم ذكره ، ويقول إن الاختلاف رحمة ، وربما صرح صاحب هذا القول بالتشنيع على من لازم القول المشهور أو الموافق للدليل أو الراجح عند أهل النظر ، أو الذي عليه أكثر المسلمين ، ويقول له : لقد حجرت واسعا ، وملت بالناس إلى الحرج ، وما في الدين من حرج ، وما أشبه ذلك ، وهذا القول خطأ كله ، وجهل بما وضعت له الشريعة ، والتوفيق بيد الله .

              وقد مر من الدليل على خلاف ما قالوه ما فيه كفاية والحمد لله ، ولكن نقرر منه هاهنا بعضا على وجه لم يتقدم مثله ، وذلك أن المتخير بالقولين مثلا بمجرد موافقة الغرض; إما أن يكون حاكما به ، أو مفتيا أو مقلدا عاملا بما أفتاه به المفتي .

              [ ص: 95 ] أما الأول; فلا يصح على الإطلاق; لأنه إن كان متخيرا بلا دليل لم يكن أحد الخصمين بالحكم له أولى من الآخر ، إذ لا مرجح عنده بالفرض إلا التشهي ، فلا يمكن إنفاذ حكم على أحدهما إلا مع الحيف على الآخر ، ثم إن وقعت له تلك النازلة بالنسبة إلى خصمين آخرين; فكذلك ( أو بالنسبة إلى الأول فكذلك ) أو يحكم لهذا مرة ولهذا مرة ، وكل ذلك باطل ومؤد إلى مفاسد لا تنضبط بحصر ، ومن هاهنا شرطوا في الحاكم بلوغ درجة الاجتهاد ، وحين فقد لم يكن بد من الانضباط إلى أمر واحد كما فعل ولاة قرطبة حين شرطوا على الحاكم ألا يحكم إلا بمذهب فلان ما وجده ثم بمذهب فلان ; فانضبطت الأحكام بذلك ، وارتفعت المفاسد المتوقعة من غير ذلك الارتباط ، وهذا معنى أوضح من إطناب فيه .

              وأما الثاني; فإنه إذا أفتى بالقولين معا على التخيير فقد أفتى في النازلة بالإباحة وإطلاق العنان ، وهو قول ثالث خارج عن القولين ، وهذا لا يجوز له [ ص: 96 ] إن لم يبلغ درجة الاجتهاد باتفاق ، وإن بلغها لم يصح له القولان في وقت واحد ونازلة واحدة أيضا حسبما بسطه أهل الأصول .

              وأيضا; فإن المفتي قد أقامه المستفتي مقام الحاكم على نفسه ، إلا أنه لا يلزمه المفتي ما أفتاه به ، فكما لا يجوز للحاكم التخيير كذلك هذا .

              وأما إن كان عاميا; فهو قد استند في فتواه إلى شهوته وهواه ، واتباع الهوى عين مخالفة الشرع ، ولأن العامي إنما حكم العالم على نفسه ليخرج عن اتباع هواه ، ولهذا بعثت الرسل وأنزلت الكتب; فإن العبد في تقلباته دائر بين لمتين : لمة ملك ، ولمة شيطان; فهو مخير بحكم الابتلاء في الميل مع أحد الجانبين ، وقد قال تعالى : ونفس وما سواها فألهمها فجورها وتقواها [ الشمس : 7 - 8 ] [ ص: 97 ] إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا [ الإنسان : 3 ] وهديناه النجدين [ البلد : 10 ] .

              وعامة الأقوال الجارية في مسائل الفقه إنما تدور بين النفي والإثبات ، والهوى لا يعدوهما ، فإذا عرض العامي نازلته على المفتي; فهو قائل له : أخرجني عن هواي ، ودلني على اتباع الحق ، فلا يمكن والحال هذه أن يقول له : في مسألتك قولان فاختر لشهوتك أيهما شئت ؟ فإن معنى هذا تحكيم الهوى دون الشرع ، ولا ينجيه من هذا أن يقول : ما فعلت إلا بقول عالم; لأنه حيلة من جملة الحيل التي تنصبها النفس وقاية عن القال والقيل ، وشبكة لنيل الأغراض الدنيوية ، وتسليط المفتي العامي على تحكيم الهوى بعد أن طلب منه إخراجه عن هواه رمي في عماية ، وجهل بالشريعة ، وغش في النصيحة ، وهذا المعنى جار في الحاكم وغيره ، والتوفيق بيد الله تعالى .

              التالي السابق


              الخدمات العلمية