[ ص: 414 ] المسألة السادسة  
فنقول : لما انبنى الدليل على مقدمتين : إحداهما  تحقق المناط   ، والأخرى تحكم عليه ، ومر أن محل النظر هو تحقق المناط ظهر انحصار الكلام بين المتناظرين هنالك ، بدليل الاستقراء ، وأما المقدمة الحاكمة ، فلا بد من فرضها مسلمة .  
وربما وقع الشك في هذه الدعوى ، فقد يقال : إن النزاع قد يقع في المقدمة الثانية ، وذلك أنك إذا قلت : هذا مسكر ، وكل مسكر خمر ، أو وكل مسكر حرام ، فقد يوافق الخصم على أن هذا مسكر ، وهي مقدمة تحقيق المناط ، كما أنه قد يخالف فيها أيضا ، وإذا خالف فيها ، فلا نكير على الجملة ؛ لأنها محل الاختلاف ، وقد يخالف في أن كل مسكر خمر ، فإن الخمر إنما يطلق على النيئ من عصير العنب ، فلا يكون هذا المشار إليه خمرا وإن أسكر ، وإذ ذاك لا يسلم أن كل مسكر خمر ، ويخالف أيضا في أن كل مسكر حرام ، فإن الكلية لهذه المقدمة لا تثبت ؛ لأنها مخصوصة أخرج منها النبيذ بدليل دل عليه ، وإذا لم تصح كليتها ، لم يكن فيها دليل ، فإذا قد صارت منازعا فيها ، فكيف يقال بانحصار النزاع في إحدى المقدمتين دون الأخرى ؟ بل كل واحدة منهما قابلة للنزاع ، وهو خلاف ما تأصل .  
والجواب : أن ما تقدم صحيح ، وهذا الإشكال غير وارد ، وبيانه أن      [ ص: 415 ] الخصمين إما أن يتفقا على أصل يرجعان إليه أم لا ، فإن لم يتفقا على شيء لم يقع بمناظرتهما فائدة بحال ، وقد مر هذا ، وإذا كانت الدعوى لا بد لها من دليل ، وكان الدليل عند الخصم متنازعا فيه ، فليس عنده بدليل ، فصار الإتيان به عبثا لا يفيد فائدة ، ولا يحصل مقصودا ، ومقصود المناظرة رد الخصم إلى الصواب بطريق يعرفه ؛ لأن رده بغير ما يعرفه من باب تكليف ما لا يطاق ، فلا بد من رجوعهما إلى دليل يعرفه الخصم السائل معرفة الخصم المستدل .  
وعلى ذلك دل قوله تعالى :  فإن تنازعتم في شيء فردوه إلى الله والرسول   الآية [ النساء : 59 ] ؛ لأن الكتاب والسنة لا خلاف فيهما عند أهل الإسلام ، وهما الدليل والأصل المرجوع إليه في مسائل التنازع ، وبهذا المعنى وقع الاحتجاج على الكفار ، فإن الله تعالى قال :  قل لمن الأرض ومن فيها إن كنتم تعلمون   إلى قوله :  قل فأنى تسحرون      [ المؤمنون : 84 - 89 ] .  
فقررهم بما به فأقروا ، واحتج عليهم بما عرفوا ، حتى قيل لهم :  فأنى تسحرون      [ المؤمنون : 89 ] أي : فكيف تخدعون عن الحق بعدما أقررتم به ، فادعيتم مع الله إلها غيره ؟  
وقال تعالى :  إذ قال لأبيه يا أبت لم تعبد ما لا يسمع ولا يبصر ولا يغني عنك شيئا      [ مريم : 42 ] .  
وهذا من المعروف عندهم ؛ إذ كانوا ينحتون بأيديهم ما يعبدون .  
وفي موضع آخر :  أتعبدون ما تنحتون      [ الصافات : 95 ] .  
وقال تعالى :  قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب      [ البقرة : 258 ] .  
 [ ص: 416 ] قال له ذلك بعدما ذكر له قوله :  ربي الذي يحيي ويميت      [ البقرة : 258 ] فوجد الخصم مدفعا ، فانتقل إلى ما لا يمكنه فيه المدفع لا بالمجاز ولا بالحقيقة ، وهو من أوضح الأدلة فيما نحن فيه .  
وقال تعالى :  إن مثل عيسى عند الله كمثل آدم   الآية [ آل عمران : 59 ] ، فأراهم البرهان بما لم يختلفوا فيه هو  آدم      .  
وقال تعالى :  يا أهل الكتاب لم تحاجون في إبراهيم وما أنزلت التوراة والإنجيل إلا من بعده      [ آل عمران : 65 ] وهذا قاطع في دعواهم أن  إبراهيم   يهودي أو نصراني .  
وعلى هذا النحو تجد احتجاجات القرآن ، فلا يؤتى فيه إلا بدليل يقر الخصم بصحته شاء أم أبى .  
وعلى هذا النحو جاء الرد على من قال :  ما أنزل الله على بشر من شيء      [ الأنعام : 91 ] قال تعالى :  قل من أنزل الكتاب الذي جاء به موسى   الآية [ الأنعام : 91 ] ، فحصل إفحامه بما هو به عالم .  
وتأمل حديث صلح  الحديبية   ، ففيه إشارة إلى هذا المعنى ، فإنه لما أمر  عليا  أن يكتب بسم الله الرحمن الرحيم ، قالوا : ما نعرف بسم الله الرحمن الرحيم ، ولكن اكتب ما نعرف : باسمك اللهم ، فقال : اكتب من  محمد   رسول الله ، قالوا : لو علمنا أنك رسول الله لاتبعناك ، ولكن اكتب اسمك واسم أبيك ، فعذرهم رسول الله - صلى الله عليه وسلم - وإن كان قولهم من حمية الجاهلية ، وكتب على ما قالوا ، ولم يحتشم من ذلك حين أظهروا له النصفة من عدم      [ ص: 417 ] العلم وأنهم إنما يعرفون كذا .  
وإذا ثبت هذا ، فالأصل المرجوع إليه هو الدليل الدال على صحة الدعوى ، وهو ما تقرر في المقدمة الحاكمة ، فلزم أن تكون مسلمة عند الخصم من حيث جعلت حاكمة في المسألة ؛ لأنها إن لم تكن مسلمة لم يفد الإتيان بها ، وليس فائدة التحاكم إلى الدليل إلا قطع النزاع ورفع الشغب ، وإذا كان كذلك فقول القائل : هذا مسكر ، وكل مسكر خمر ، إن فرض تسليم الخصم فيه للمقدمة الثانية ، صح الاستدلال من حيث أتى بدليل مسلم ، وإن فرض نزاع الخصم فيها لم يصح الاستدلال بها ألبتة ، بل تكون مقدمة تحقيق المناط في قياس آخر ، وهي التي لا يقع النزاع إلا فيها ، فيبين أن كل مسكر خمر بدليل استقراء أو نص أو غيرهما ، فإذا بين ذلك حكم عليه بأنه حرام مثلا إن كان مسلما أيضا عند الخصم ، كما جاء في النص : "  إن كل خمر حرام     " وإن نازع في أن كل خمر حرام ، صارت مقدمة تحقيق المناط ، ولا بد إذ ذاك من مقدمة أخرى تحكم عليها ، وفي كل مرتبة من هذه المراتب لا بد من مخالفة الدعوى للدعوى الأخرى التي في المرتبة الأخرى ، فإن سؤال السائل : هل كل خمر حرام ؟ مخالف لسؤاله إذا سأل : هل كل مسكر خمر ؟ .  
وهكذا سائر مراتب الكلام في هذا النمط ، فمن هنا لا ينبغي أن يؤتى      [ ص: 418 ] بالدليل على حكم المناط منازعا فيه ، ولا مظنة للنزاع فيه ؛ إذ يلزم فيه الانتقال من مسألة إلى أخرى لأنا إن فعلنا ذلك لم تتخلص لنا مسألة ، وبطلت فائدة المناظرة .  
 
				 
				
 
						 
						

 
					 
					